يحي أبوزكريا
&
&
منذ إندلاع الأزمة الأمنيّة في الجزائر وصنّاع القرار الجزائري يراهنون على تطويقها عبر الإكثار من الإنتخابات والإستفتاءات والتي لم تؤدّ لا إلى تطويق أزمة الشرعية التي ما زال النظام القائم في الجزائر يتخبّط فيها ولا إلى تطويق الأزمة الأمنيّة التي ضربت الجزائر في صميمها كلّه، وتكتيك اللجوء إلى الإنتخابات كان ينطلق من خلفيّة مفادها أنّ السلطة الجزائرية التي ألغت الإنتخابات التشريعية في كانون الثاني يناير 1992 أصيبت بعقدة نقص جرّاء إلغاء خيّار الشعب الجزائري في ذلك الوقت و القاصي والداني عاب عليها تغليب خيّار الدبّابة على خيّار الشعب فراحت تداوي هذه العقدة عبر الإكثار من الإنتخابات و الإستفتاءات.
&و المفارقة بين الإنتخاب الملغى والإنتخابات المكرسّة لاحقا هو أنّ الإنتخاب الملغى كان أكثر تعبيرا عن إرادة الأمّة الجزائريّة وبالتالي هو الإنتخاب الحقيقي الوحيد النظيف في الجزائر، بينما الإنتخابات اللاحقة كانت كلها مزيفّة ومصممّة قبل حدوثها وتمّ توزيع مقاعد البرلمان و المسؤوليات على الأحزاب التي كانت تحظى بدعم المخابرات الجزائريّة على وجه التحديد.
ولم تكن الإنتخابات الجزائريّة على كثرتها تهدف إلى إخراج الجزائر من أزمتها بقدر ما كانت تهدف إلى تلبية مصلحة هنا ومصلحة هناك لدوائر القرار الفعليّة في الجزائر، ونفس هذه المصلحة كانت تملي على دوائر القرار التي لا يعرف أحد عنها شيئا التعامل تارة مع التجمع الوطني الديموقراطي الذي ولد بشارب كما يقول الجزائريون، وأحيانا مع حزب جبهة التحرير الوطني وكذلك مع بقيّة الأحزاب، وعندما كانت الضرورة تقتضي أن يتمّ التعامل مع عبد العزيز بوتفليقة لإستثمار علاقاته الدولية تمّ ذلك، و حتى لا يكبر هذا الأخير ويجعل من مؤسسّة الرئاسة مركز الثقل في مؤسسّة الدولة الجزائرية جرى القفز عليه ودعم منافسه علي بن فليس الذي كان إلى وقت قريب أحد مريدي عبد العزيز بوتفليقة و رئيس حملته الإنتخابيّة في وقت سابق قبل أن يتعامل مع أصحاب اللعبة الحقيقيين الذين أعطوه الضوء الأخضر للجلوس على كرسيّهم الوثير في قصر المراديّة قصر الرئاسة في الجزائر -.
وعلى الدوام كانت الإنتخابات في الجزائر هي لعبة الكبار وكثيرا ما كانت وسوف تكون إنعكاسا لصراع مراكز القوّى في الجزائر، وكل شيئ تتّم برمجته من فوق و في دوائر مغلقة، و لذلك لم تقترب هذه الإنتخابات على كثرتها من معالجة قضايا الوطن والمواطن على السواء في تفاصيلها السيّاسية و الإقتصادية و الإجتماعية والأمنية، بل إنّ هذه الإنتخابات كانت تحلّ مشاكل السلطة القائمة على وجه التحديد.
لقد أقلقت الإنتخابات التشريعيّة التي جرت في 26 كانون الأوّل ديسمبر 1991 السلطة الجزائرية إلى أبعد الحدود إلى درجة أنّ رجلا مثل الوزير الأول تاريخئذ أحمد غزالي وصف الشعب الجزائري بالغبيّ وبأنّه لم يحسن الإختيار، وتفاديا لمثل هذا الإزعاج والإحراج قررت الدوائر العليّا في الجزائر أن تكون الإنتخابات مهيئة سلفا بمعنى عدم الوقوع في أيّ مفاجأة من قبيل مفاجأة إنتخابات 1991، و لذلك جرى فرز الموالين والمعارضين في الساحة السياسيّة، فقرّب الموالون بحصص متفاوتة وأبعد المعارضون إلى الهامش حيث التفرج على اللعبة وهي تصاغ بطريقة ذكيّة هذه المرّة.
وعندما كانت تقتضي الضرورة أن يقدّم حزب حمس بزعامة الراحل محفوظ نحناح تمّ ذلك وفي وقت لاحق إقتضت الضرورة أن يحجّم هذا الحزب وتقدمّت في المقابل حركة الإصلاح الوطني، وعندما كانت تقتضي الضرورة أن يدعم عبد العزيز بوتفليقة بعد توافق بينه وبين المؤسسّة العسكرية عقب خروج الرئيس اليامين زروال من حلبة الصراع تقررّ تسخير كل الإمكانات الباطنة و الظاهرة لدعم مرشحّ السلطة عبد العزيز بوتفليقة، و لأنّ المصلحة تغيّرت الآن والضرورة التي أملت اللجوء إلى بوتفليقة تلاشت تقررّ دعم مرشّح آخر غير بوتفليقة.
وفي كل الفصول الإنتخابيّة التي شهدتها الجزائر على مدى عشر سنوات كانت مصلحة السلطة أولى من مصلحة الوطن والمواطنين، و كانت حسابات السلطة الجزائريّة أولى من حسابات الوطن والمواطنين، ومن خلال المشهد الإنتخابي الجزائري و المشهد الإنتخابي العربي والإسلامي يتجلى بوضوح أنّ الإنتخابات في واقعنا العربي كما الإسلامي هي لعبة سلطويّة تهدف بالدرجة الأولى إلى شرعنة هذه السلطة بطريقة ذكيّة و مدروسة كما تهدف إلى توجيه رسائل إلى الإرادات الدولية الغربية على وجه التحديد أنّ اللعبة الديموقراطية خيّار لا رجعة فيه وبالتالي تحوز هذه الدول على ما به تحصل على المساعدات و العطايا و التزكية السياسية، لكن وعندما نشرّح الفئات السياسية الفائزة في هذه الإنتخابات وتلك، نجد أنّ معظم الفائزين هم من سنخ السلطة وحتى المحسوبين على خطّ المعارضة أريد لهم أن يلعبوا هذا الدور للإيحاء بأنّ اللعبة متكاملة الشروط، و خير مثال على ذلك الجزائر حيث و عندما إنطلقت التعدديّة السياسيّة في الجزائر عقب ثورة خريف الغضب في 05 تشرين الأوّل أكتوبر 1988 تشكلّ ستون حزبّا جزائريّا، رؤساء ثلاثين حزبا كانوا من العاملين في الأجهزة الأمنية الجزائريّة، وأبرزهم رئيس المخابرات العسكرية الجزائريّة قاصدي مرباح الذي بات يتزعّم حركة مجد وجرى إغتياله في وقت لاحق، عندما هددّ بفتح بعض الملفات الشديدة الإغلاق.
وبناءا عليه يتضّح أنّ الإنتخابات في الوطن العربي ليست طريقا بإتجّاه تمكين الأمّة من صناعة راهنها ومستقبلها، بل هي طريق لإعادة إنتاج السلطة وآلياتها و عملها ورجالها ليس إلاّ!