د. سيّار الجميل

&
& الحلقة الثانية
&
متى يجتمع العراقيون على مبادىء للسمتقبل؟
&ان انتقال حالة المجلس الى مرحلة نوعية متقدمة بحاجة الى جملة من الاولويات التي لا يمكن ان تبنى على اسس خاطئة اصلا، وكان من الصعوبة بمكان ان يتفق العراقيون على خمس وعشرين عضوا ويكونوا مجلسا لحكم العراق، والكل يتذكر من قبل كيف فشل العراقيون في مؤتمرات معارضاتهم السياسية لحكم صدام حسين في تشكيل جبهة او هيئة وما كان باستطاعتهم الائتلاف على جماعة التسعة لولا دور السفير خليل زاده في مؤتمر لندن.. وبعد ان وضعت الحرب اوزارها باختفاء نظام صدام حسين وهزيمته امام قوى التحالف بقى العراقيون يتجاذبون ويتنافرون على مجلس استشاري او مجلس حكم ولولا بول بريمر لما قيض لهم ان يجتمعوا تحت قبة واحدة، ( ومثل هذه المشكلة ليست حكرا على العراقيين، بل يتصف بها كل العرب في مشارقهم ومغاربهم سواء بدراية منهم ام من غير دراية اذ يعجزون في الاتفاق على اجندة مشتركة!).. ومنذ سنوات طوال وثمة مشكلات عراقية تعبر عن نفسها سياسيا وهي تلبس البسة متنافرة شتى: جبة طائفية او عمامة دينية او سدارة ملكية او نزعة عرقية او فساتين ايديولوجية او احذية محلية او عباءات قبلية وعشائرية.. الخ هذا الطيف السداسي او السباعي الذي يميز نفسه عراقيا على احسن ما يرام اجتماعيا، فهو يعبر عن اسوأ غرائبه سياسيا! ان مجرد قيام العراق اولا واخيرا باعلاء المبدأ الوطني وانبثاق سلطة تشريعية ودستور دائم وبروز كاريزما ريادية ومؤسسات مدنية.. تعمل جميعها ضمن مبادىء واحدة مهما تنوعت الوان الطيف الاجتماعي والثقافي سيخلق عراقا جديدا ورائعا يحترمه العالم.. وبعكس ذلك فستمر البلاد في مخاضات عسيرة تتلاعب بها قوى داخلية وخارجية واقليمية وستكون قابلة للتفكك والتشرذم والصراعات التي لا اول لها ولا آخر!

هل من تأسيس جديد لمقوّمات عراقية جديدة؟
&لابد ان يعلم المرء ان ثمة علامات استفهام لابد ان توضع من اجل ان تكون للعراق سلطاته التشريعية ونحن نعلم بأنها اخطر السلطات ولقد انبثق مجلس الحكم بكل تنوعاته من قبل السلطات الامريكية وكم كنت اتمنى ان يكون بمثابة هيئة استشارية بصورته الحالية خصوصا والعراق يمر في مرحلة انتقالية تتطلب مجلس تكنوقراط بالكامل لا يمكن ان يلعب فيه اي من الساسة ادوارهم بحكم وجود سلطة الحاكم بول بريمر وهي التي تمسك بكل العراق.. وعليه، فانني لا انتقد مجلس الحكم وحالته بقدر ما اضع علامات استفهام على دوره الحقيقي في مثل هذه المرحلة الخطيرة، وادوار بعض اعضائه الذين لا اعرف ما الذي يؤدونه اناء الليل واطراف النهار والعراق ينتظر من المجلس ان يكون منعقدا بكل اعضائه بشكل مفتوح. فما الذي نراه من ركائز يمكنها ان تكون من مستلزمات ولادة عراق جديد:

اولا: السلطة التشريعية اولا
&كم هو مهم اليوم ان يجري البحث عن مجلس سيادة قادم في يونيو القادم يتألف من شخصيات قيادية سياسية عراقية يمثلون الشمال والوسط والجنوب يكون متقدما على مجلس الحكم بعد ان يتمتع بسيادة عراقية وبسلطات مصادقة على التشريعات التي يقرها مجلس الاعيان ( او: مجلس الحكم المتسع لخمسين من الاعضاء التكنوقراط الحقيقيين ) اي بمعنى: اكمال ما هو متعارف عليه من المؤسسة التشريعية مؤقتا الى حين اجراء الانتخابات على مجلس للامة ( او: مجلس للنواب ) ويبقى مجلس السيادة مؤقتا الى حين انتخاب الرجل الذي يريده العراقيون قائدا لهم وبعد ان يتم الاستفتاء على طبيعة النظام الذي يريدونه لبلادهم جمهوريا ام ملكيا، شريطة ان يجمع القائد المنتخب ولاء الجميع من خلال تصويت الاغلبية العراقية عليه ملكا ام رئيسا. ولتكن ارادة العراقيين هي التي يستوجب احترامها مهما كانت طبيعة الاختلافات بين القوى السياسية العراقية.

ثانيا: المسألة الدستورية
&ان المسألة الدستورية في العراق لابد ان تعالج بكل هدوء من دون اي استعجال ولتكن للعراقيين في تجارب تاريخية اخرى اسوة حسنة فليس من صالح العراق ان تتم العجلة في اكمال المسألة الدستورية وفي مجتمع له مشكلاته وتعقيداته.. وفي بلاد خرجت من نفق سياسي مظلم سادت فيها الحكومات العسكرية والدكتاتورية الشوفينية ردحا طويلا من الزمن. ان دستور العراق الدائم ربما يتأخر الى سنوات طوال وربما لا يستطيع العراقيون انجازه نظرا لما وجدناه من كثرة التداخلات فيه تحت مسميات وعناوين مختلفة ايديولوجية ودينية. وعليه، لا يمكن للعراقيين ان يقبلوا من جديد باللعبة التي مارسها العسكريون والبعثيون في حكم العراق على مدى خمس واربعين سنة عملا بدستور مؤقت.. اذ يقضي من السلطات الحالية تحديد جملة مبادىء وسقف زمني لانجاز دستور دائم للعراق مهما كانت الظروف.

ثالثا: ضرورة المجتمع المدني
&اعيد واكرر القول حتى وان خالفني اغلب العراقيين بأن العراق لا حياة او مستقبل امامه من دون تأسيس مجتمع مدني تحكمه المؤسسات الاهلية المدنية بعيدا عن اي تدخل لأي مؤسسات دينية او طائفية او مذهبية او عرقية او قبلية عشائرية.. ان مشروع احترام كل هذه المرجعيات العراقية امر اساسي كونها تمثل المجتمع العراقي تمثيلا حقيقيا، ولكن يمكنها ان تكون وظيفتها استشارية في العراق الجديد من الجوانب السياسية، ولكن من دون مصادرتها الادوات والوسائل لاقرار اجندتها. ومن افضل ما وجدناه في العراق بعد سقوط النظام السابق من الحالات ان هناك رجال دين من ابناء الشيعة والسنة العراقيين يقبلون بالعلمنة العراقية باعتبارها افضل علاج في الحكم يجّنب العراق من الهزات والكوارث.. ان مبدأ الفصل بين السلطات لا يمكنه ان يترسخ من دون فصل المرجعيات الدينية والطائفية العراقية المتنوعة عن الادوار السياسية بكل ما في الاخيرة من اساليب ماكرة والاعيب عابرة ومستنقعات آسنة.

رابعا: بلايا وامراض
&ابتلي العراق بنسيج اجتماعي معقد من العلاقات والتناقضات في ان واحد.. ولم يتخلص في اي يوم من الايام من المحسوبيات والمنسوبيات والمرجعيات وقصة المصالح المتنوعة ولهفة الجميع الى تقلد المناصب والشعور الدائم بالافضلية ناهيكم عن سمة " التذمر " التي لم يستطع اي عراقي التخلص منها منذ اكثر من الف سنة.. بمعنى: انتفاء القناعة ومبدأ التسامح. المشكلة لا يمكن حلّها ببساطة، بل بترسيخ مبدأ القانون وتحقيق العدالة. وانا اعلق قائلا: اذا لم يستطع العراقيون تحقيق هذا " المبدأ " وهم في سدة مجلس الحكم، فكيف يمكن ان يتحقق في ابسط دائرة رسمية؟ وطالما ينادي العديد من المخلصين والوطنيين العراقيين الاوفياء بمبدأ " الرجل ( او: الانسان ) المناسب في المكان المناسب " من دون اي توازنات وحسابات وعلاقات.. فهل سيتحقق ذلك؟ نعم، اذا شعر العراقي بأن له هوية ومرجعية وطنية عراقية واحدة من دون اي انتماءات اخرى واذا شعر العراقي بوحدة ارضه ومصيره.

خامسا: العملية الديمقراطية
&لابد من القول ان العملية الديمقراطية ليست بسيطة او تافهة يمكنها ان تتحقق في غضون مرحلة قصيرة.. وسيكون من السذاجة ان يتصور البعض ان يغدو العراق بلدا ترفرف فيه رايات الوئام والتوافق والانسجام السياسي بمثل تلك البساطة التي يحلم بها العراقيون العقلاء.. فالمأزق الداخلي تعبر عنه جملة كبرى من المشكلات والتعقيدات التي لا يمكن حلها بسهولة بعد عقود اربعة من السياسات المخربة والبليدة والقمعية التي خلقت انقسامات مريعة وتشظيات اجتماعية لا حصر لها.
&
وأخيرا
&اقول، بأن ما سجلته في اعلاه ليس هو اعلان مأساوي ولا هو مقال تشاؤمي او نعي لموت محقق لا سمح الله.. بل انها محاولة لآثراء تجربة تاريخية عراقية فريدة من نوعها تلاقي صعوبات على ايدي محتليها وممثليها في بلاد لها استراتيجيتها ولها حيويتها وثقلها وكما وصفتها انها بلاد بقيت حية بسبعة ارواح بعد عقود من الحروب والمآسي والكوارث الصعبة.. وهي اليوم تريد الخروج من عنق الزجاجة الضيقة لتبدأ حياة تاريخية جديدة في القرن الواحد والعشرين ولابد ان يسأل ابناء الشعب العراقي مرات ومرات: هل بمقدورهم تحمّل المزيد من الحروب والكوارث الداخلية؟ ام انهم قابلون بحلول دستورية وسياسية لتصفية الوجود الاجنبي؟ فهل سيتحقق ذلك في ظل التحديات المتنوعة والصعبة التي تجتازها البلاد؟ هذا ما سيقرره المستقبل على ايدي العراقيين انفسهم الذين اتمنى عليهم ان ينزعوا من صدورهم كل عوامل التفكك ويصبحون كتلة واحدة في معالجة التحديات الامنية والسياسية الصارخة واقرار حياتهم الدستورية على مهل في ظل مبادىء وطنية مشتركة.. وبعكسه فلن ينفعنا الندم ايها العراقيون بعد خراب ليس البصرة وحدها بل بعد ان يأكل بعضنا بعضا.. ونصبح اضحوكة امام الدنيا بعد كل التضحيات والالام والمعاناة.
مؤرخ واكاديمي مقيم بين كندا والامارات
&
&