في تحذير مباشر نشرته وسائل الإعلام العالمية بتاريخ 23 نوفمبر/ تشرين الثاني ،2003 طلبت إدارة بوش من رعاياها في العالم كله أخذ جانب الحيطة، والحذر الشديد، وتحاشي البقاء في المناطق الساخنة، وإلغاء الرحلات غير الضرورية إلى مختلف أرجاء العالم. إنه لبيان يثير الهلع حقا في نفس المواطن الامريكي العادي، فيجعله يطور السؤال الذي طرحه بوش سابقا: لماذا يكرهوننا؟ ، إلى سؤال آخر أشد إيلاما وهو: لماذا يريدون قتلنا؟ .
بالعودة إلى جذور التحذير، أعدت وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية منذ فترة قصيرة، تقريرا مفصلا أعلنت فيه فشل السياسة الامريكية في العراق أمنيا وسياسيا.وقد كشف التقرير عمق المأزق الذي تواجهه إدارة بوش في هذا البلد الملتهب بعد أن باتت المقاومة العسكرية تهدد القوات الامريكية والبريطانية داخل ثكناتها.ودخلت على خط التفجير قوى سياسية ذات توجهات أصولية تهدد بضرب مصالح امريكا وبريطانيا ومصالح جميع الدول التي أرسلت قوات إلى العراق، ونقل المعركة إلى دول العالم.وجاءت تفجيرات إسطنبول الأخيرة لتؤكد على مصداقية ذلك التهديد، وإتساع دائرة الخطر على رعايا امريكا، وبريطانيا، واليابان، ودول أخرى.
تجدر الإشارة في هذا المجال، إلى أن وسائل الإعلام البولونية تسخر يوميا من موقف حكومتها التي خالفت شبه الإجماع الأوروبي، وأرسلت مئات من جنودها إلى العراق، إرضاء لرغبة الامريكيين فقط. ومع أن هذه القوى هزيلة، على غرار القوى اليابانية المزمع إرسالها إلى هناك، ولا تغير قيد أنملة في ميزان المعارك العسكرية، فإنها جعلت أمن كل مواطن بولوني أو ياباني، ومصالح هذين البلدين في العالمين العربي والإسلامي في خطر شديد نتيجة موقف أرعن وغير مبرر على الإطلاق، ويرفضه الرأي العام الديمقراطي في كل من بولونيا واليابان. وقد تحدثت& بعض النكات الساخرة عن بولونيا العظمى التي باتت ترسل جيوشها للمشاركة في إحتلال دول أخرى بعد أن كانت دولة منسية وذاقت مرارة الشطب عن خارطة العالم أكثر من مرة.&&&
لقد أصبح أمن الامريكيين وحلفائهم إذن من أمن العراقيين. تلك هي المعادلة الجديدة التي أرست قواعدها المقاومة العراقية، بجناحيها السياسي والعسكري. وأكدت تقارير وكالة الاستخبارات الامريكية على أن فشل السياسة الامريكية في العراق يعود لأسباب عدة ترتبط ارتباطا وثيقا بالمقاومة العراقية دون أن يشير إليها بصورة مباشرة بل يعتبرها أعمالا إرهابية من صنع النظام البائد.&
وتعزو أسباب الفشل إلى ثلاثة أسباب هي: العجز عن توفير الأمن للعراقيين، والعجز الدبلوماسي في إيجاد غطاء دولي للإحتلال الامريكي للعراق، وعدم ترحيب العراقيين بالجيش الامريكي بصفته جيش تحرير للعراق.
في محاولة للخروج من المأزق، تبنى الامريكيون سياسة التأديب الجماعي، وهدم المنازل، وإعتقال آلاف العراقيين دون محاكمة، وغيرها من الأساليب التي برعت بها إدارة شارون في فلسطين دون أن تنجح في القضاء على الإنتفاضة بل زادت الشعب الفلسطيني تماسكا وإصرارا على حريته، وحقه في إقامة دولته المستقلة على أرضه. وكما فشلت اسرائيل في إقناع الرأي العام العالمي بأن الإنتفاضة وليس الإحتلال هي مصدر الإرهاب، فشلت إدارة بوش في إقناع العالم بأن المقاومة العراقية وليس الإحتلال الامريكي هي سبب المأزق الذي تعانيه امريكا في العراق. فالمقاومة، بأشكالها العسكرية والسياسية، حق مشروع ومقدس لجميع شعوب العالم في الدفاع عن حريتها وإستقلالها.وقد مارسته جميع الشعوب التي ناضلت من أجل تحرير بلادها إلى أن نالت إستقلالها بدماء ابنائها وتضحيات شعوبها. في الواقع العملي، تحول الإحتلال الامريكي في العراق إلى مأزق حقيقي تجلى في الإستقبال الصاخب الذي رافق زيارة بوش إلى بريطانيا. فتم تجنيد أكثر من 14 ألف عسكري ورجل مخابرات لحماية الضيف غير المرغوب فيه والذي جعلته المظاهرات الصاخبة لا يجرؤ على الخروج إلى الشارع. وجاءت تفجيرات إسطنبول ضد المصالح البريطانية لتزيد من حقد القوى الديمقراطية الأوروبية على السياسة الهوجاء التي تتبعها إدارة بوش، والتي تنذر بنتائج سلبية للغاية. فالقوى التي تعلن مسؤوليتها عن تلك التفجيرات هي قوى ملتبسة جدا، وقد تكون وراءها أصابع إستخباراتية لتحويل الصراع عن أهدافه الحقيقية، وتفجير كل ما هو غربي في كثير من الدول العربية والإسلامية. ومثل تلك التفجيرات تضعف حتما من صلابة الموقف الأوروبي الرافض للحرب على العراق، وتسهل إعادة إصطفاف أوروبا وراء الامريكيين من أجل مكافحة الإرهاب الدولي الذي يمكن أن يطل برأسه قريبا في إحدى الدول الأوروبية.&
مع ذلك، ورغم هذا الإرتباك الأمني الحاد على الساحة الإقليمية في العراق وجواره، فإن إدارة بوش مصممة على البقاء في العراق بأي ثمن لأن الرئيس وأعوانه رهنوا مستقبلهم السياسي على حل المسألة العراقية لصالح الشركات الامريكية دون سواها. لذا ترفض الإدارة الامريكية بإستمرار أي دور للأمم المتحدة بإستثناء مباركة الإحتلال الامريكي ومحاربة الإرهاب الدولي. وقد إستفادت من الأزمة المتفاقمة لتعلن شكلين متكاملين للمجابهة على أمل البقاء في العراق:&
* الأول: الرد على المقاومة العراقية في الداخل بمزيد من العنف الدموي، وهدم المنازل، والإعتقالات الجماعية، وإستدعاء المزيد من قوات الدول الصديقة للامريكيين إلى العراق من جهة،& وتشويه صورة المقاومة العراقية في الخارج عبر ربطها بتنظيم القاعدة الذي يتبنى علنا تفجيرات مشكوك بهوية القائمين بها، وبالأهداف المتوخاة منها والتي لا تخدم المقاومة العراقية على مختلف الصعد.
* الثاني: الإيحاء للرأي العام برغبة الامريكيين الصادقة في تسريع نقل السلطة الى العراقيين.
في هذا الإطار، تم إستدعاء الحاكم الامريكي في العراق بول بريمر للتشاور معه حول أفضل السبل الديمقراطية لنقل السلطة إلى العراقيين مع ضمان المصالح الامريكية لعقود طويلة. وقد عاد فعلا، وبدأ مشاوراته مع مجلس الحكم لتسريع إعداد الدستور الجديد، والإعلان عن حكومة جديدة، وإجراء إنتخابات تشريعية في ظل الإحتلال الامريكي.
ويبقى السؤال الأساسي عما إذا كانت سياسة العصا الغليظة والجزرة قادرة على حل المأزق الامريكي الذي ينبع أصلا من القيام بإحتلال عسكري غير مبرر للعراق. ومن الطبيعي أن يولد الإحتلال مقاومة مشروعة لكنها متعددة الأهداف وأساليب العمل. فهي تتقاطع عند نقطة مركزية واحدة تقول برفض السيطرة أو الهيمنة الخارجية لأنها تتناقض مع شريعة حقوق الإنسان، ومبادىء الأمم المتحدة، وجميع الشرائع والإتفاقيات الدولية.
بعبارة أخرى، إن الاحتلال هو الذي يولد، وبصورة طبيعية، مقاومة مشروعة لا تسمح بتوفير الأمن للمحتل، في أي مدينة أو قرية عراقية.ولا تنفع في هذا المجال وفرة القوى العسكرية المحتلة، وكثافة أسلحتها المتطورة.
وإذا ما إستمر الإحتلال الامريكي للعراق، فإن كل امريكي، ومعه كل فرد من دول التحالف المشاركة في الحرب على العراق،& يمكن أن يتحول إلى هدف سهل للمقاومة العراقية.وقد تصل المعركة إلى داخل مدن الولايات المتحدة نفسها على غرار ما قام به الجزائريون عندما نقلوا مقاومتهم إلى جميع المدن الفرنسية.هذا بالإضافة إلى أن المعركة قد تتخذ أبعادا إقليمية ودولية خطيرة. إذ تتصرف الإدارة الامريكية في العراق بصفتها الآمر الناهي فيه.وهي لا تقيم وزنا لمجلس الحكم الإنتقالي، ولآراء وتصريحات الكثير من أعضائه، ولا للحكومة العراقية التي تبدو مكبلة اليدين في جميع ما تصدره من قرارات.
فهي تهمش دور العراقيين إلى الحدود الدنيا من جهة، وترفض مشاركة أي من شركات الدول الصديقة والحليفة في الإعمار وعقود إعادة البناء والإستثمار من جهة أخرى. لكنها، في الوقت عينه، تصر على مشاركة العراقيين، والأمم المتحدة، وجميع دول العالم في تحمل أوزار الحرب رغم إحتكارها لجميع المغانم وحصرها بشركاتها فقط. فكان أن تمنعت تلك الدول عن المشاركة إلا في إطار الأمم المتحدة. ويطالب العراقيون يوميا بموقع أكثر فاعلية في إدارة بلادهم بحرية، وفي مراقبة العقود المجحفة التي ترهن ثروات العراق للإحتكارات الامريكية،& فغاب وجه الديمقراطية الامريكية وحضر بقوة وجه إحتكاراتها وممارساتها القمعية في العراق.
ورغم الكلام على تسريع نقل السلطات إلى العراقيين، تصر امريكا على بقاء مائة ألف جندي في العراق، وعلى قواعد عسكرية ثابتة على أراضيه.ويرفض بوش الهرب منه تحت ضربات المقاومة حفاظا على هيبة امريكا في العالم . ختاما، بعد أن برز الإحتلال الامريكي للعراق بأجلى مظاهره الإستعمارية، من المتوقع أن ترتقي المقاومة العراقية في نضالاتها إلى مراحل متقدمة تهدد أمن الامريكيين، ومصالحهم على إمتداد العالم.ولا نفع من تحذير إدارة بوش لرعاياها باعتماد الحيطة، بعد أن بات أمن الامريكيين من أمن العراقيين. فلا إستقلال ولا سيادة مع الإحتلال. وليس بمقدور أحد أن يتكهن بنوع الأساليب التي يلجأ إليها شعب مقهور، صادرت امريكا حريته بالكامل ودون أي مبرر، وشطبت دولته من خارطة الدول المستقلة وذات السيادة المعترف بها دوليا. وهي تعمل باستمرار على تفكيك وحدته الداخلية، وبث الفتنة بين قومياته وطوائفه، ونهب ثرواته بالقوة، وإفقار أجيال متعاقبة من العراقيين.
الخليج