رشاد قرديسي
&
تأمل الرئاسة الإيطالية للاتحاد الأوروبي إنهاء »مؤتمر الحكومات« الجاري خلال انعقاد قمة المجلس الأوروبي التي ستعقد في بروكسل يومي 12-13 ديسمبر 2003، باعتماد مشروع الدستور الأوروبي كما قدمته الهيئة الدستورية إلى قادة دول الاتحاد منذ عدة اشهر، وذلك تمهيدا لتوسيع عضوية الاتحاد الأوروبي بضم عشرة دول جديدة من وسط اوروبا وشرقها في مايو/أيار من العام القادم. وتوسيع عضوية الاتحاد الأوروبي هو المشروع الأكثر أهمية بالنسبة للاتحاد. فهو مشروع توحيد أوروبا اكثر من ما هو توسيع الاتحاد الأوروبي كما أن إصلاح مؤسسات الاتحاد هو الشرط المسبق لنجاح التوسيع. وقد درجت دول الاتحاد الأوروبي على إجراء تعديلات على الاتفاقيات، التي تعقدها فيما بينها حول إدارة مؤسسات الاتحاد، منذ عام 1987، كلما قررت قبول دول جديدة في عضوية الاتحاد، وذلك بالدعوة إلى عقد مفاوضات بين الدول الأعضاء في إطار مؤتمر يعقد بين حكومات هذه الدول » Inter-Governmental Conference«.
وبعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، فقد قرر الاتحاد قبول دول هذه الكتلة في عضويته. ولذلك قررت مراجعة »معاهدة ماستريخت حول الاتحاد الأوروبي« وتعديلها ثم معاهدة امستردام فمعاهدة نيس ولكن دون التوصل إلى اتفاق نهائي حتى الآن حول القضايا الخلافية. وبالرغم من أن الدول الأعضاء في الاتحاد، وحتى المرشحة بالانضمام، عينت ممثليها في هذه الهيئة الدستورية لصياغة معاهدة جديدة شاملة تحل محل كافة المعاهدات الأخرى وتكون بمثابة الدستور الأوروبي العتيد وبالتالي فإن مشروع الدستور المقدم هو حصيلة المساهمة المباشرة لكافة الدول، إلا أن بعض الدول تعارض بعض مقترحات المشروع وتدعو إما إلى تعديلها لمصلحتها أو تأجيل النظر فيها بعد سنوات قادمة (عام 2008 أو 2009) وليس يوم السبت القادم 13 ديسمبر 2003. وتعتبر القضايا الثلاث التالية من بين أهم المواضيع المعلقة التي على قادة دول الاتحاد البت فيها: أولا، حجم وتركيبة المفوضية الأوروبية (العدد الإجمالي للمفوضين ونسبة التمثيل لكل دولة) ؛ ثانيا، توازن الأصوات داخل المجلس الوزاري ووزن كل دولة عند اتخاذ القرارات، وذلك من ناحية التوازن والتوزيع الجديدين للأصوات، مع إمكانية إدخال الأغلبية المزدوجة (أغلبية السكان وأغلبية الدول الأعضاء) ؛ ثالثا، توسيع نطاق اتخاذ القرارات بالأغلبية لتجاوز صعوبات اتخاذ القرارات بالإجماع وما يترتب عن ذلك من عراقيل أمام عمل الاتحاد وأداء مؤسساته.
وقد قدمت الهيئة الدستورية مقترحات جديدة اعتبرتها بعض الدول اقل ما يمكن لضمان تماسك الاتحاد بعد التوسيع في حين اعتبرت دول أخرى أنها تضر بمصالحها الوطنية وبسيادتها. ويمكن إيجاز الجديد في مشروع الدستور المقدم إلى قادة دول الاتحاد ما يلي: - أولا، إلغاء الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي كل ستة اشهر بين الدول الأعضاء كما هو متبع حاليا وانتخاب رئيس للاتحاد الأوروبي بالأغلبية المؤهلة ولمدة عامين ونصف العام. ويقوم الرئيس بالتحضير لاجتماعات القمة الأوروبية وإدارتها إلى جانب تمثيل الاتحاد الأوروبي على الساحة الدولية ؛ - ثانيا، إنشاء منصب وزير خارجية الاتحاد الأوروبي وتعيين المجلس الأوروبي شخصا بالأغلبية المؤهلة لهذا المنصب ويتولى الوزير إدارة السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي كما يعين هذا الوزير في منصب نائب رئيس المفوضية الأوروبية ؛ - ثالثا، تحديد تركيبة المفوضية الأوروبية بـ 15 عضوا متمتعين بالعضوية الكاملة (لهم حق التصويت) ويتم تعيين مفوض عن كل دولة بالتناوب، أما الدول التي ليس لها مفوض كامل العضوية في المفوضية فيكون لها فيها مفوض من دون حق التصويت. وباقتراح من المجلس، ينتخب البرلمان الأوروبي رئيس المفوضية بالأغلبية كما يحق للبرلمان حجب الثقة عن المفوضية ؛ - رابعا، زيادة صلاحيات البرلمان الأوروبي بتوسيع نطاق اتخاذ القرارات بالمشاركة مع المجلس إلى مجالات جديدة مثل الشؤون الداخلية والعدلية إلى جانب منح البرلمان الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بميزانية الاتحاد الأوروبي ؛ - خامسا، توسيع نطاق اتخاذ القرارات بالأغلبية المؤهلة ليشمل مجالات جديدة ومنها قضايا الهجرة واللجوء (مع احتفاظ الدول الأعضاء بحق النقض فيما يتعلق ببعض المجالات مثل الضرائب والشؤون الاجتماعية والسياسة الخارجية والاتفاقيات التجارية حول الخدمات الثقافية عموما).
والسؤال هو: هل ستتمكن الرئاسة الإيطالية من اختتام مؤتمر الحكومات واعتماد الدستور الأوروبي أم ستستمر الخلافات وبالتالي تأجيل البت في القضايا العالقة لغاية عام 2009 كما تطالب بريطانيا وبعض الدول الأخرى؟ الحقيقة يمكن تمييز كتلتين داخل الاتحاد الأوروبي فمن جهة هناك الدول المؤسسة للمشروع الأوروبي وهي دول البنلوكس وألمانيا وفرنسا وإيطاليا (باستثناء الموقف الإيطالي المتذبذب أحيانا في ظل الحكومة البيرلسكونية)، ومن جهة أخرى هناك الدول التي ستنضم قريبا (10 دول) والدول التي استفادت من عملية الانضمام في المرحلة الأخيرة (ولا سيما إسبانيا) والدول التي انضمت أساسا لتحقيق مصالح اقتصادية دون أن تكون لديها قناعة استراتيجية بالمشروع الأوروبي ولا سيما في شقه السياسي (ومنها المملكة المتحدة والسويد والدانمارك). ودول المجوعة الثانية هذه هي التي تتسبب في عرقلة تقدم المشروع الأوروبي كما تقول الدول المؤسسة. فهذه الدول تفضل قيام اتحاد أوروبي على أساس التعاون بين الحكومات وليس على أساس المجموعةCommunity، كما أنها انضمت للاتحاد بهدف تحقيق مصالح آنية اقتصادية وهي غير مهتمة ببناء كتلة سياسية مستقلة في اوروبا ترتكز على سياسة خارجية وأمنية مشتركة إلى جانب بناء سياسة دفاعية مشتركة. وتعارض الدول المؤسسة تحويل الاتحاد الأوروبي إلى منطقة تجارة حرة واسعة يتم فيها تبادل السلع والخدمات مع إهمال الجوانب الاجتماعية والسياسية الخارجية والدفاعية. ولذلك فهي تهدد بخطر انقسام اوروبا ثانية من خلال منح الدول الراغبة الحق في المضي قدما في المشروع الأوروبي من دون سائر الدول ولا سيما في المجالات التي ترى فيها بعض الدول أنها غير قادرة حاليا على التفاوض بشأنها أو الموافقة عليها. وهذه الفكرة قديمة حيث كان الرئيس الحالي للمفوضية الأوروبية رومانو برودي قد كلف رئيس الوزراء البلجيكي السابق جان لو دوهان (ونائب رئيس الهيئة الدستورية حاليا) على رأس لجنة حكماء لتقديم مقترحات حول تطوير الاندماج الأوروبي. وكان أهم ما جاء في تقرير دوهان هو الاقتراح بحق ذهاب بعض الدول بصورة أسرع نحو الاندماج في إطار »التعاون المعزز« والمرونة، وهذا يعني أن يتم التعاون خارج إطار العمل الجماعي كما في حال »مجموعة شنغن«، أو في خارج إطار المؤسسات كما في حال »الاتحاد الاقتصادي والنقدي« (مجموعة اليورو) ودون تمتع الدول الأخرى بحق النقض. وترى الدول المؤسسة أن التعاون المعزز أمر ضروري ولا بد منه لأنه من المحتم أن لا ترغب بعض الدول الأعضاء بالذهاب سريعا في الاندماج الأوروبي وبالتالي ليس من المعقول أن تتمكن دولة واحدة من تجميد كافة التطورات المحتملة ولا سيما رغبة بعض الدول في تشكيل هوية دفاعية أوروبية أو إقامة »فضاء من الحرية والأمن والعدالة«. وقد فشل اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد يوم الاثنين التحضيري للقمة من تقريب وجهات النظر في وقت تزيد الدول المؤسسة من حدة تصريحاتها قبيل انعقاد القمة، التي قد تمدد إلى يوم الأحد، لتمرر وجهات نظرها. حتى أن هناك أصوات بدت تدعو صراحة إلى تشكيل النواة الأوروبية الصلبة بغض النظر عن نتائج القمة واعتماد مشروع الدستور وهذا يعني طرح فكرة الفيدرالية الفرنسية-الألمانية قبل الفيدرالية الأوروبية.
&
التعليقات