د. شريف مليكه
&


&& كنت قد قرأت عن ندوة فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة لمناقشة رواية "عمارة يعقوبيان" للدكتور علاء الأسوانى وعن تلك الندوة قيل أن هذه الرواية تعد من أهم الأعمال الثقافية التى صدرت منذ أن توقف نجيب محفوظ الأستاذ عن الكتابة.. وهنا أتوقف لأصف ما كنت أشعر به فى شبابى، أجوب شوراع القاهرة لأحصل على نسخة من آخر كتاب أو مجموعة قصصية صدرت عن "الأستاذ" وما أن أحصل عليها حتى أضمها بين أصابعى وأمضى بها تحت تأثيرها المغناطيسى وكأنى (معمول لى عمل) حتى أختلى بها فى غرفتى وحدنا ولا أتركها حتى أنتهى منها ثم أضعها بين أخوتها على رفوف المكتبة.
عودة إلى الحاضر، إتصلت بصديقى الدكتور عدلى الذى كانت قد وصلته نسخة من الكتاب من مصر.. فتفضل بإرسالها لى بالبريد إلى مكتبى.. وفعلا وصلت حوالى الساعة الثانية عشر ظهراً يوم الأربعاء الماضى ووجدتنى أضمها بين أصابعى بنفس اللهفة القديمة.. ولكن هذه المرة لم أستطع أن أقرأ سوى المقدمة بقلم الكاتب، لأضعها جانبا حتى أفرغ من جبل المشاغل الذى برعت فى تراكماته اليومية هموم الحياة و (أكل العيش).. وهممت للإنصراف فى السابعة وما أن جلست فى مقعد القيادة، وجدتنى أمد يدى اليمنى لتلمس أناملى الكتاب الموضوع على المقعد الجانبى وكأنى أتأسف على الإهمال طوال السبع ساعات منذ التقينا.
وبعد وقت تسللت إلى مخدعى.. وأضأت النور المركز فوق السرير وفتحت الكتاب.. وجدتنى أغوص بسرعة هائلة فى بحور عالم "عمارة يعقوبيان" وأدلف بكل سهولة بين غرفة "بثينة" فوق السطح، إلى شقة "زكى بيه الدسوقى" مكتبه أو صومعته التى أقابل فيها إبن العز وأيام زمان، المتعلم فى أوروبا، والمتحدث بالفرنسية بينه وبين نفسه وبين أصدقاءه من بقايا العهد الماضى مثل "مدام كريستين" هذا الشيخ الهارب من فشله فى أن يكون رجلا ذو شأن فى المجتمع المصرى اليوم لما أوتى من مواهب اجتماعية وثقافية فيكتفى بغواية النساء والاستغراق الكلى فى مباهج الحياة، إلى أن يلتقى ب "بثينة". وببراعة يحكى لى د. علاء حدوته "بثينة". حصاد الفقر والجهل للمجتمع التى تثور على حياتها كلها "البلد مش بلدنا يا طه.. إعمل فلوس يا طه تكسب كل حاجة أما لو فضلت فقير ها تندهس دهس.." ولا يدق قلبها بجد إلا عندما تتلاقى هذه الفتاة الفقيرة الجاهلة بالشيخ المثقف المريض الذى يعلمها الحب والرقة والذوق والأمل وحتى الوطنية "أنا مش قادر أفهم الجيل بتاعكم أبداً.. على أيامى حب الوطن كان زى الدين.." وتتمخص علاقة الإعجاب والاحترام والحب المتبادل إلى زواج بين الماضى و الحاضر يختم به د. علاء الحدوتة...
&& وفى الطريق إلى نهاية الرواية، يطوف بى المؤلف ببراعة لأتعرف بأعماق المجتمع اليوم، من خلال شخصيات يجمع بينها الشذوذ على أنواعه، كما جاء على لسان أحد أبطال الرواية "حاتم رشيد" الذى يعيش يومه العادى كصحفى ومسئول قيادى وفى الليل يمارس لذته لبضع ساعات فى الفراش ويقول لنفسه إن معظم الرجال فى الدنيا لهم مزاج معين يتخفون به من ضغط الحياة وقد عرف شخصيات فى أرفع المناصب : أطباء ومستشارين وأساتذة جامعة، مولعين بالخمر والحشيش أو النساء أو القمار. ولم يقلل ذلك من نجاحهم أو احترامهم لأنفسهم، وهو يقنع نفسه بأن شذوذه شئ من هذا القبيل، مجرد مزاج مختلف.."
&& ويحكى لى د. علاء بحميمة الأصدقاء القدامى عن "أبسخارون" القبطى العاجز دائماً أبداً "فنحن لا نعرف ماذا كان يصنع قبل سن الأربعين ولا الظروف التى بترت فيها ساقه اليمنى. الذى يعيش بخنوع ويرضى بالفتات التى تلقى له من فوق مائدة الأسياد.. والذى يتذرع بتدين سطحى، كاذب، للتعايش مع عجزه الأبدى.. وفى الطريق الموازى نقابل "ملاك" الذى يقدمه د. علاء بقوله "تختلف أصابع اليد فى الشكل لكنها تتحرك كلها بتناسق لتؤدى مهمة ما". هذه الشخصية القبطية الثانية التى تتميز بالخبث الشديد والوصولية التى تدفعه إلى أى طريق يؤدى إلى تحقيق ما يبغى حتى يثبت وجوده. وفى هذه الرحلة المثيرة قابلت "الحاج محمد عزام" الذى يرفل فى أرقى الملابس ويجلس فى المقعد الخلفى لسيارته المرسيدس الحمراء وهو "مستغرق فى التسبيح على السبحة الكهرمان الصغيرة التى لا تفارق يده ثم يعلن لى أن هذه الثروة الضخمة كونها من التجارة فى "البودرة" بعد أن بدأ كماسح للأحذية. ثم يتزوج الحاج من "سعاد" التى يستعملها لإنفاق شهوته يومياً لمدة ساعتين ثم ينصرف إلى شئون حياته، ثم يلقيها فى سلة المهملات عندما تنذر العلاقة بالمشاكل وتفاجئه بأنها حامل كل ذلك فى ظل التدين والورع الظاهرى. وفى النهاية يفضح الحاج والمجتمع كله عند لقاءه بصوت "الرجل الكبير" يدوى فى أذنيه "أى بزنس كبير زى التوكيل بتاعك يدخل فيه شركاء بالربع.. والنسبة دى نحصل عليها مقابل شغل.. إحنا بنحميك من الضرائب والتأمينات والأمن الصناعى والرقابة الإدارية وألف جهة تقدر توقف مشروعك وتضيعك فى لحظة وبعدين أنت بالذات إحمد ربنا إننا قبلنا نشتغل معك أصلا لأن شغلك وسخ.." ويمتد الفساد ويرعى فى البلد فيظلل على حياة باقى الشخصيات سواء فنتقابل مع "طه محمد الشاذلى" الذى لم يتعلم قيمة العمل والكفاح دى سوى انه طريق للتخلص عن ماضيه الحقير فى عينيه فيسعى للتخفى تحت بدلة ضابط شرطة. وعندما يفشل يلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. هناك لا يتفاعل مع العلم أو الثقافة ولكنه ينزوى فى ركن مع الطلبة الفقراء.. ومن هنا يساق هذا ال "طه" كالخروف من المسجد إلى السجن حيث تمتهن أدميته، حتى يضاجع امرأة لا يعرفها من قبل تحت شعار الزواج الإسلامى الحق وفى النهاية يُـنحر فى عملية انتحارية إنتقاما من الرجل المتسبب فى تعذيبه فى السجن. وهنا أقف وأصفق إعجابا بوصف المؤلف للحظة الموت وأكاد أجزم أنه لابد وكان قد خاضها بنفسه !
&& وختاماً أقول أن هذا الكتاب أمتعنى حتى النخاع فقد تنقل بى د. علاء بكل رشاقة فى شوراع وسط البلد وبين ردهات "عمارة يعقوبيان" ليكشف لى عن حقيقة ما آل إليه الشارع المصرى مع مشارف القرن الحادى والعشرين. وفى هذه الرحلة الممتعة شعرت بأننى أتمشى مع صديق واع ومرهف لكل ما يدور حوله يعبر عنه بكل صدق، برغم ما تكشف عنه حدودته من مرارة الواقع، ولكنه يطرح فى النهاية منظوره الشخصى إلى الحل الأمثل لتغيير هذا الواقع الشاذ. تحياتى الخالصة إلى د. علاء الأسوانى وأملا فى لقاء آخر قريب، نتحاكى فيه عن همومنا وهموم "مصر" بكل هذه المساحة من الصدق.
استاذ مساعد بمستشفى جونز هوبكنز-ميرلاند
[email protected]&
&