عقيل نوري محمد
&
&
&
من النادران يتخذ عالم الدين موقفا واقعيا لانه يخشى ان تكون الواقعية مضرة بسلطته وسطوته الدينية المثالية. انه ينظر الى الاحداث والوقائع من منظار مثالي يمكن له من خلاله ان يشد العامة المعروفة بعشقها للمثالية الطموحة والحماسية.
&لقد اثبتت الاحداث التي يمر بها العراق في المرحلة الراهنة ان علماء الدين ليسوا من طراز واحد بل ان منهم من لهم رؤية نافذة وموضوعية عالية في معالجة الحدث والسيطرة على الجموع التي تنتهز الفرصة للانفلات وهذا يقلب معادلة رجل الدين المثالي والمتطرف دائما الى عالم الدين الواقعي المثالي وهو امر نادر في ثقافة العالم الاسلامي. لقد اثبتت المرحلة الجديدة التي مر ويمر بها العراق ان عالم الدين اكثر واقعية حتى من رجل السياسة احيانا، ومن بين من كان لهم تاثير واضح في مجريات الاحداث في العراق السيد محمد باقر الحكيم و السيد علي السستاني. والشيخ احمد الكبيسي حتى ان الاول قد دفع حياته ثمنا لاعتداله ولاسباب اخرى ليس من مصلحة الامة الاسلامية الخوض فيها. ان الامر اللافت فعلا هو ان هذه الشخصيات استفادت من سلطتها الدينية في السيطر على الشارع بعقلية عالم الاجتماع لابعقلية رجل الدين،وهذا فعلا امر يحسب اليهم، حيث ان بعض علماء الدين وخصوصا الكبار منهم، أفادوا من التجارب التي مر بها العراق والعالم الاسلامي ليضعوها نصب اعينهم في تحريك مسار الاحداث في العراق. فلو قمنا بتحليل مجموعة الفتاوى التي اصدرها السيد علي السستاني نجد انها تحاول قدر المستطاع التعامل مع الحدث والمستجدات في الشارع العراقي بصيغة سوسيولوجية ولكن ذات مسحة مثالية دينية لا تخلوا من الاعتذارية.
في بداية دخول قوات التحالف الى العراق لم تصدر اي فتوى من السيد السستاني بخصوص مقاومة المحتل ويمكن تأويل ذلك بجملة من الاسباب اهمها ما يأتي
&
1- ان السيد السستاني يعلم ان النظام السابق ليس بالنظام المأسوف عليه وهو يستحق ان يزال من جذوره ويعلم ايضا انه لاتوجد قوة عراقية فعلية قادرة على زحزته لذا فأن السكوت الحكيم هو افضل وسيلة للتخلص من النظام السابق وتسهيل امر سقوطه واعتقد ان الفتوى الوحيدة التي صدرت من السيد الجليل هي (( عدم جواز مساندة الظالمين)) وبهذا يخلط السيد الذكي الاوراق على النظام السابق وعلى قوات التحالف ايضا.
&
2- ان السيد السستاني يعلم تمام العلم ان الشعب العراقي يتوق للخلاص من نظام سياسي سبب له الكثير من المشاكل وكلفه باهض الثمن بالارواح والاموال والاخلاق والقيم، لذا فان اي فتوى بوجوب مقاومة المحتل لن تجد آذانا صاغية في الشارع العراقي بل ستخلق ازمة بين الحوزة ذات الارث العريق والمجتمع العراقي التواق الى التحرر بأي وسيلة كانت ولهذا فهمت فتوى السستاني على وجوب الوقوف على الحياد، واعتقد ان هذا ما اراده فعلا وكان له ما اراد، انا اعني في الاوساط التي يمتلك السستاني سلطة التاثير بها وهي الوسط الشيعي بالتأكيد.
3- ان السستاني يعلم ان المقاومة ستكون غير مجدية مع قوة مهولة كقوة الولايات المتحدة وبريطانيا لذا ان التعامل بحكمة وروية انما تكون تبعاته ونتائجه اسلم من المواجهة والتصدي لقوة يصعب التصدي لها لذلك كانت تلك الفتوى بمثابة دعوة للعراقيين للوقوف على الحياد خاصة وان الغالبية الساحقة من العراقيين ترغب بزوال النظام وان اختلفوا في كيفية زواله.
القضية الثانية التي واجهت السستاني هو استفادة الصدر الصغير (مقتدى) من الارث الكبير الذي تركه والده الشهيد محمد صادق الصدر في المخيال الديني والشعبي الشيعي خصوصا والعراقي عموما. اذ كان الصدر الاب يطرح فكرا حوزويا ثوريا في مجتمع قيده القمع والارهاب السلطوي وشله عن الحركة فكان خروج الصدر الأب الى معترك الحياة الاجتماعية و السياسية وتحريكه الجماهير نحو صلاة الجمعة ايذانا بتهيئة الحشود المسلمة نحو الثورة، وهذا يمثل نقطة تحول في التحدي الشيعي للسلطة، فكانت صورة الصدر الاب بمثابة الرجل الحلم المرسوم في مخيال العامة وقد تعززت هذه الفكرة مع اغتيال النظام السابق له. لقد افاد الصدر الابن من الثقة الممنوحة لوالده من قبل ابناء الطائفة الشيعية، فحاول ان يجد له منفذا في معترك الحياة السياسية فكانت فترة الاحتلال الفترة المثالية لبروز الصدر الابن لان حقبة ما قبل الاحتلال كانت حقبة قمع وارهاب راح ضحيتها الكثير. لقد حاول هذا الشاب الطموح سياسيا ودينيا ان يبلع الحوزة بشعبية والده لا بامكاناته الذاتية، ولكن التصرف الحكيم للسيد السستاني امتص هذه الطاقة الشابة غيرالمنظمة ليثبت بأنه يؤمن بتعدد الآراء حتى وان كانت الآراء المطروحة غير معقولة وخصوصا في ظرف عصيب كالظرف الذي يمر به العراق فكانت تهديدات الصدر وانفعاليته تقف بالضد من اتزان السستاني وهدوءه وهذا ما رشح السستاني لان يكون القائد الحوزوي بلا منازع. لقد كان بامكان السستاني ان يجير الامور لصالحه ولصالح حوزته بعد التفاف العشائر العراقية حوله ولكنه آثر ان يلتزم بمنهجه الفاعل لا المنفعل وهو امر يندر ان يتوفر في عالم الدين. لقد ازداد السستاني حضورا بعد الاعتدال الحكيم الذي ظهر به الشهيد الحكيم مما دعم قوة الحوزة وحضورها بين العامة والخاصة. ونستشف من خلال تقادم الاحداث افول واضح لنجم الصدر الابن بسبب عدم معقولية طروحاته.
لقد آثر السستاني ايضا ان ينأى بنفسه عن الدخول في معترك الحياة السياسية واكتفى بأن يكون مستشارا فاعلا قادرا على التوجيه وهذا ما اكسبه احتراما وتوجسا من قبل السياسيين وقيادات قوات التحالف حيث نرى السياسيين يتقاطرون عليه للحصول على رضاه في تمرير قضية معينة او ابرام اتفاق معين وخاصة ما يتعلق بالدستور والانتخابات.
ومع هذه المعقولية في طروحات السستاني الا انها لم تخرج من فلك الفكر الديني والسياسي المثالي فيما يتعلق بالدستور والانتخابات التي مثلت آرائه فيها حذرا وتوجسا، جعل حلحلة هذا الموضوع من اعقد المشكلات التي تواجه السياسيين وعلماء الدين في العراق.
ان دعوة السستاني لاجراء انتخابات مسألة جميلة للغاية وتعبر عن طموح ديمقراطي مثالي من النادر ان يخرج عن عالم دين، ولكن هذا الاصرار على اجراء الانتخابات في هذه المرحلة المعقدة من تاريخ العراق ربما ليست بالحل السحري الذي نتمناه لانهاء دوامة اللاستقرار التي يشهدها المجتمع العراقي الذي مازال مجتمعا هشا يحتاج الى الكثير من التنظيم لخوض تجربة مسؤولة مثل تجربة الانتخابات السياسية التي تمثل الغطاء الشرعي لسلطة قادرة على ادارة البلد.
اجراء الانتخابات العامة والشاملة في هذه الفترة المضطربة تشوبه المخاوف وذلك أن المجتمع العراقي بحاجة الى استقرار امني والاهم من ذلك ان يدرك اهمية الدستور والديمقراطية بل واهمية المواطنة والشعور بالمسؤولية تجاه الوطن.
لقد امضى العراق ردحا طويلا من الزمن تحت سلطة نظام استبدادي قوض اي معلم من معالم الديمقراطية وحول الحياة الاجتماعية والسياسية الى تجربة دكتاتورية يصعب محو آثارها هذا فضلا عن الطبيعة الدكتاتورية للمجتمع العراقي ذاته حيث انه مجتمع ابوي ذكوري مطلق السيادة يرتكز الى تعقيد ديني بالغ متوغل في عمق التركيبة النفسية للانسان العراقي.
ان اصرار السيد السستاني على اجراء الانتخابات شرعي فعلا طالما انه الحل المثالي للخروج من الازمة وذلك بتسليم الشعب مقاليد الامور واعطائه الاحقية في الاختيار ورسم منهجه السياسي الذي يريد كي لا يتم تجيير الحل السياسي لحساب طرف دون آخر.
ولكن المنطق السوسيولوجي يرى ان اقامة حكومة انتقالية اجدى من اقامة انتخابات، شريطة ان تنال الحكومة التأييد الشرعي الذي يلعب فيه علماء الدين دورا فاعلا حيث ان الخيال السوسيولوجي يمكن ان يقودنا في حالة اجراء انتخابات حرة الى التنبؤ بأن الحقبة القادمة قد تدفع بالاسلاميين الى دفة الحكم وهذا امر فيه مجازفة كبيرة لانه امر سيوتر كثير من الاطراف ونحن في مرحلة بحاجة الى تفريغ التوتر بما فيها توترالطرف المحتل لأنه طرف بالغ الاهمية في المعادلة السياسية ولست هنا في باب الرفض للحكم الاسلامي بمقدار تقدير اهمية المرحلة وصعوبتها.
ان اجراء انتخابات في الوقت الحاضر قد يعرقل التجربة الديمقراطية لسنوات لاحقة خصوصا اذا ما طعنت الفئات الخاسرة بشرعية الانتخابات وهذا الامر متوقع في مجتمع لم يعتد على الحياة الديمقراطية بعد وهو امر متوقع ايضا في ضوء اللااستقرار الامني والسياسي الذي يعيشه العراق.
ان تشكيل مجلس دستوري مؤقت وحكومة وزارية مؤقتة، سيكون اجدى واسرع من اجراء انتخابات قد توصل العراق الى توتر جديد يصعب ضبط ايقاعه. ان نجاح المجلس والحكومة مرهون ايضا بتشكيل مجلس استشاري من مجموعة من علماء الدين الشيعة والسنة ويضم شخصيات من كل طوائف وقوميات المجتمع العراقي كما يضم علماء في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون وليكونوا من اساتذة الجامعات مهمتهم ابداء المشورة والتوجيه للحكومة المؤقتة ومن ابرز الشروط الاساسية لاستقرار المجلسين الاستشاري والدستوري هو ان يكون السيد السستاني والشيخ احمد الكبيسي ممثلان اساسيان في المجلس الاستشاري لان ذلك يدعم شرعية المجلس ويكسبه هيبة اجتماعية ودينية ضرورية لضبط الشارع العراقي.
ان مشكلة الانتخابات تكمن في انها تتطلب وعيا ووقتا كافيا لفرز الاطراف المتنافسة، وهذا امر بالغ الصعوبة على شعب لايوجد له تمرس حقيقي في مثل هذه التجربة.

&كاتب عراقي مقيم في ماليزيا
&
[email protected]