عبدالخالق حسين


&
إن إلقاء القبض على صدام حسين واستسلامه بدون أية مقاومة وإخراجه من حفرة صغيرة حقيرة بهذا الشكل المخزي المهان ل"فارس أمة العرب" كالفأر المذعور، يعني الكثير بالنسبة للشعب العراقي وللعرب وللفكر العربي ولحركة القومية العربية وخاصة المتشددة منها المتمثلة في فكر البعث العربي الإشتراكي.
بالنسبة للشعب العراقي، فإن ظهور صدام ذليلاً ضعيفاً مطيعاً لأوامر الطبيب الأمريكي إثناء فحصه، كان علاجاً نفسياً& Psychotherapy مما عاناه من أمراض نفسية بسبب القهر والظلم والإرهاب والخوف المزمن طوال 35 عاماً من حكم البعث البغيض. لقد تحطمت الهالة التي أحاط صدام نفسه بها. فخلال حكمه الطويل عمل على تجهيل المجتمع وتزييف وعيه ليصبح جاهزاً لتصديق الخرافات والدجل والشعوذة وأنه رجل أسطوري لا يقهر, فما شاهده الشعب العراقي على شاشات التلفزة يوم 14/12/2003، حطم تلك الأسطورة وبدا لهم صدام حسين ليس أكثر من كاريكاتير لحيوان خرافي. لذا فقد ساهم هذا المشهد التاريخي لتحرير الإنسان العراقي من الخوف المزمن ومجال لتشفي ضحاياه وعائلاتهم منه ومن أتباعه. وبانتهاء صدام فقد انتهت مرحلة بغيضة من تاريخ العراق وسوف لن تتكرر.
أما بالنسبة للقوميين العرب، فقد وضع المشهد نهاية مؤكدة لحركة القومية العربية وفكرة الوحدة من المحيط إلى الخليج وكان عبارة عن إنذار للأنظمة الإستبدادية في المنطقة ودعوة للعرب أن يهتموا بدولهم الوطنية وتبني الديمقراطية وأن ينسوا فكرة (بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن لحج إلى يمن إلى مصر فتطوان). فكعراقيين لم يرحب بنا العرب في بلدانهم، بل الدول الغربية هي التي رحمت بحالنا وساعدتنا على الخلاص من الفاشية.
لقد الحق القوميون العرب وخاصة البعثيون منهم، أشد الأضرار بالعروبة عندما اعتبروا الانتماء لحركة القومية العربية، كآيديولوجية ونشاط سياسي، شرطاً أساسياً للانتماء القومي. وهذا خطأ بطبيعة الحال لأن الإنتماء القومي لا علاقة له بالحركة السياسية بل هو موروث تاريخي وثقافي يعتز به أي إنسان مثلما ينتمي إلى دين معين لا يشترط الانتماء السياسي كشهادة تزكية له. كما وتبنى منظرو الحركة القومية العربية عبادة "القائد الضرورة" وسياسة شوفينية وعنصرية وطائفية متطرفة ضد العناصر البشرية الأخرى. وتطبيقاً لهذا المبدأ العنصري، أصدر ما يسمى بمجلس قيادة الثورة في السبعينات، قراراً يمنح بموجبه ثلاثة آلاف دينار عراقي (يعادل تسعة آلاف دولار في حينه) لكل عربي عراقي يطلِّق زوجته إذا كانت من أصول إيرانية. كما هجَّر النظام ما يقارب مليون مواطن عراقي بتهمة التبعية الإيرانية للحفاظ على "نقاء" الدم العربي. لقد خص القرار الأصل الإيراني فقط واستثنى العناصر الأجنبية الأخرى ولهذا دلالة طائفية واضحة. وبذلك فقد أثبت حزب البعث أنه عنصري وطائفي في نفس الوقت.
كما إن آيدويلوجية القومية العربية، لا تحترم حياة الإنسان العربي، ناهيك عن المواطنين من العناصر غير العربية. فحرية الفرد والتنظيمات معدومة. ولم تعترف بالتعددية بحجة الحفاظ على وحدة الصف! ويمكن التضحية بحياة الأفراد لأتفه سبب. فلا كرامة للمواطن في البلاد العربية. ولهذا السبب، اثبت استطلاع رأي أنه رغم أن ثمانين بالمائة من العرب يكرهون أمريكا إلا إن ستين بالمائة منهم يتمنون الهجرة إليها والعيش بها. والدليل القاطع على فشل الآيدويلوجية العربية وعدم احترام الحكام لكرامة مواطنيها هو فرار خمسة ملايين عراقي من نظام البعث المقبور وهذا أكثر من مجموع الشعب الليبي أو مجموع شعوب الدول الخليجية إذا استثنينا منها السعودية.
يحاول البعثيون المنشقون عن صدام حسين، إلقاء اللوم على صدام وحده في كل ما حدث من كوارث في العراق والمنطقة. وهذا في رأيي مغالطة متعمدة القصد منها تضليل الرأي العام وتبرئة آيديولوجية البعث العنصرية الفاشية من الجرائم وتحميلها على صدام حسين وحده. ولذلك نسمع بين الفينة والأخرى، نداءات بإسم الديمقراطية، تطالب بإعادة تشكيل حزب البعث بدون صدام وزمرته المقربين. بل وحتى مشاركة حزب البعث "الجديد" في الحكومة العراقية القادمة. ولتبرئة الحزب، يستشهدون بما قام به صدام من إعدامات في داخل صفوف حزب البعث نفسه.
في حقيقة الأمر، إن حزب البعث فاشي ومبني على الإجرام بوحي من آيديولوجته وحتى بدون صدام كما حصل في إنقلابهم الدموي في 8 شباط عام 1963 الأسود. فما جرى من صراعات دموية بين جناح صدام حسين وأجنحة أخرى داخل حزب البعث، لم يكن صراعاً بين الخير والشر، بل كان صراعاً بين الشر والأشر منه. ولأن& آيدويلوجية البعث مغرقة في الشر، فكانت الغلبة دائماً للجانب الأكثر شراً وإزاحة الأضعف والأقل شرا وإبادته. فليس صحيحاً أن نعتبر ناظم كزار وعلي رضا باوي وكريم الشيخلي من الأخيار لأن صدام حسين أعدمهم. لقد صعد صدام حسين على أكتاف الآخرين من رفاقه لأنه كان الشخص الأقرب لآديولوجية البعث بسبب تمتعه بمواصفات شخصية وسايكولوجية شريرة أهلته ليكون الأنسب لتبوئ أعلى المناصب في الحزب والدولة. لذلك فهو يمثل بحق رمز حركة القومية العربية وفشلها.
أعتقد من الخطأ إلقاء اللوم في كل ما جرى في العراق في الفترة (1968-2003 ) على صدام حسين وحده. لأنه من المستحيل أن يتمكن شخص واحد يفتقر إلى أبسط تعليم جامعي وذو تاريخ إجرامي، أن يسوق الملايين من العراقيين ومئات الألوف من العسكريين إلى ساحات الحروب والإعدامات والمحارق البشرية ما لم تكن له قاعدة من مؤيدين وآيديولوجية تسنده في تطبيق سياساته الإجرامية.
فالحكام العرب يعاملون شعوبهم كأغنام لا كبشر، لذلك يسمون شعوبهم بالرعية وليس بمواطنين. وفي كتاب "القذافي رسول الصحراء" الذي أعدته صحافية إيطالية عن سيرته الذاتية سألته:
* هل كنتم حقاً راعي غنم؟
ـ نعم. فلم يكن هناك نبي لم يفعل ذلك.
* وماذا تعلمتم من "رعي الغنم" ؟
ـ لقد تعلمت أهم درس في حياتي، تعلمت كيف أقود أمة، تماماً مثل الصبي الذي يرعى الغنم، أنا الآن أرعى شعباً وأصل به إلى بر الأمان والرفاه .(إيلاف، 3/9/2002).
&