&حجاج حسن ادول
&
&
&
وأنا أقرأ سيرة مُريْد البرغوثي في كتابه (رأيت رام الله)، وأتابع وصفه لشتات شعبه الفلسطيني، قلت.. شتات أخف من شتات، ومن يرى بلوة غيره تهون عليه بلوته. فشتاتنا النوبي في مصر -وفي السودان مع اختلافات نسبية- أهون من شتات الفلسطينيين، فشتاتنا النوبي داخل مصر والسودان، والقليل منه رحل إلى بلاد الدنيا. لكن بعد دقائق من الحيرة وجدت أن الأمر ليس بهذه السهولة ولا بمثل هذا التبسيط. صحيح أن الصهيونية ذبحت ومثلت بجثث الفلسطينيين ومارست التطهير العرقي ضدهم بما لا يقل دموية عن النازية الهتلرية والشيوعية الستالينية والديكتاتورية الصدامية، لكن الفلسطينيون إصرارهم على العودة لا ولن يتزعزع، وعددهم ملايين وسوف يعودون. سيعودون حقاً وقد فقدوا الكثير من معطياتهم التراثية والفكرية والحياتية، لكنهم بكفاحهم الدامي والقانوني عائدون وقد اكتسبوا معطيات جديدة تعوضهم عمّا فقدوه تراثياً وما فقدوه من زمن كان بالإمكان أن يكون رقياً وتقدماً بين الشعوب. والأهم أن أكبر نسبة من الفلسطينيين متواجدون في وطنهم فعلاً ولن يتركوه مهما فعلت بهم الصهيونية، بل هم موجودون بنسبة 20% من مجموع الصهاينة. إذن الجذور الفلسطينية متواجدة حاملة التراث والخصوصية الثقافية وليست مهددة بالضياع التام. أما في الشتات النوبي فالأمر أخطر وإن لم يكن أدمى، فليس في الموطن النوبي نوبيون، فقد تم تفريغهم. وإن كانت إسرائيل تغري اليهود في كل أنحاء العالم بالهجرة إلى فلسطين لاستكمال التطهير العرقي، فإن الحكومات المصرية والسودانية تغري غير النوبيين بالحضور وتعمل على عرقلة عودة النوبيين اللاجئين في الشتات المصري السوداني.
نتكلم عن نوبيين مصر فأقول.. غرض الحكومات المصرية المتوالية واضح وإن كان غير معلن، وهو.. تشتيت النوبيين من الحدود المصرية الجنوبية والعمل على إذابتهم وسط الكثافة المصرية في الصعيد والدلتا والمدن المصرية الكبيرة. وإن كان الشتات الفلسطيني يقف معه ضمير العالم لأن التطهير العرقي ضدهم من شعب آخر، فإن الشتات النوبي مخفي في غطاء يقال عنه أنه وطن. أي أن الأمر بين الشعب المصري وبعضه، فقطاع من الشعب تم تهجيره وقطاع من نفس الشعب تم تسكينه! وكله وطن مصري للمصريين كلهم. إذن غير مسموح للغير بالتدخل، لا لضمير العالم ولا لبطيخ العالم. لكن علينا كنوبيين ومصريين -المتنورين منهم- أن يبينوا أن التطهير العرقي داخل الوطن أدهى وأمر من غيره. فكيف يقول المسئولون أن الشعب شعب واحد والنسيج نسيج واحد إلى آخر هذه الشعارات البراقة، ثم يتم سحق خصوصية قطاع منه والتنكيل به؟ فإن كان البرغوثي يقول عن نفسه إنه (ابن النكبة) فأنا أيضاً مثله.. (ابن النكبة) والنكبتان تهددان أرضنا وميراثنا الإنساني. سيغضب الكثير من المصريين وأنا أشبه ما فعلته حكومات مصر بالنوبيين، بما فعلته وتفعله إسرائيل بالفلسطينيين، فليغضبوا وليضربوا رؤوسهم في أقرب حائط. أنا أرى أن الأمر واحد وإن اختلف في كثافة البشاعة والتبجح. الصهيونية فاجرة الدموية بما فعلته وتفعله بشعب آخر وهو الشعب الفلسطيني الذي ليس منها، وبعد الانتفاضة الأولى والثانية بدأت تنفضح للميديا العالمية، لكن العنصرية المصرية بشعة بما تفعله في قطاع منها ولم ينفضح حتى الآن لأنه وحتى الآن لم ينتفض النوبيون ضد ما يلاقونه من إجحاف.
وإن ظهر في العقد الأخير بإسرائيل مجموعة المؤرخين الجدد الذين قرءوا التاريخ قراءة موضوعية بعيداً عن هَوَس الصهيونية وأكاذيب إعلامها التي تسيطر عليه إسرائيل، وأنصفوا الشعب الفلسطيني نسبياً وأدانوا إسرائيل، ومعهم قطاع من الإسرائيليين أنفسهم، اتسع هذا القطاع أم ضاق. ظهر في إسرائيل مؤرخون موضوعيون، فأنا أتوقع قريباً أن يظهر في مصر مؤرخون تاريخيون واجتماعيون جدد سوف يبينون مدى الاضطهاد الذي وقع على عاتق النوبة تحت نير مصر. سوف يبينون مدى التضحيات النوبية لدولة مصر والتي نالوا مقابلها وقاحات العنصرية والاستعلاء المصريين. لكن ما الفائدة لو تأخر الرفض النوبي للجحود المصري وتأخر ظهور المؤرخون المصريون الجدد فيتواجدون ويكتبون بعدما تكون النوبة قد ضاعت؟ هذا ما أرفضه ويرفضه كل محب للبشرية وعطاءاتها الثرية بتنويعاتها. لا أريد أن يظهر المؤرخون المصريون الجدد ليتكلموا عن النوبة التي كانت، لا.. يجب أن نعمل كنوبيين مصريين وكمصريين شرفاء من الآن على إنعاش الخصوصية النوبية الإنسانية وإفاقتها من الغيبوبة التي سقطت فيها نتيجة لطعنات حكومات مصر المتوالية لأكثر من قرن. وعندما يظهر المؤرخون المصريون الجدد، ومعهم المثقفون والمتنورون الحقيقيون.. عندها سوف نسعد بهم وبالنوبة الباقية
.