كريم عبد
&
&
&
في الحياة المعاصرة ( ليس بالإمكان تصور حياة إنسان بدون دولة ) ما عدا تلك الجماعات التي تتعرض لكوارث التشرد بسبب الاحتلال أو الحروب الأهلية المدمرة، الأمر الذي يجعلها في حالة من الضياع. لكن هل كل إنسان يحيا في ظل دولة يكون في منأى عن الأزمات؟! الجواب طبعا: لا. وعلى كل حال، ليس المقصود هو اختصار المسألة بـهذا الشكل، ذلك إن أزمات المواطن في تركيا هي غير أزمات المواطن في سويسرا وهي غيرها في بنغلادش... الخ. فالحياة الإنسانية بطبيعتها لا يمكن أن تخلو من أزمات، لكن الفرق في نوعية هذه الأزمات، هو الذي يميز دولة عن أخرى، أي ثقافة عن أخرى، أي طريقة حياة عن أخرى.
لا نتحدث هنا عن أزمات وجودية أو ما شابه ذلك، بل عن الأزمات الاجتماعية بمختلف مظاهرها، بدءاً بأزمة السكن مرورا بأزمة الحريات العامة وليس انتهاء بـما تعانيه بعض المجتمعات من شيوع لمظاهر التعصب الطائفي أو القومي، فمثل هذه الأزمات تظهر أو تختفي أو تكون بـهذه الوتيرة أو تلك استنادا لطبيعة نظام الدولة في البلد المعني، وليس جراء طبيعة متأصلة في هذا المجتمع أو ذاك.
إن مصطلحي تخلف وتحضر، ورغم انطوائهما على تعاريف عديدة، يمكن فهمهما على نفس الأساس، أي قياسا على طريقة حياة المجتمع وطبيعة نظام الدولة، فهناك دول لديها معاهد وجامعات تتخرج فيها مئات الكفاءات سنوياً، بما يعنيه ذلك من نفقات كبيرة، لكن هذه الدول لا توفر لهذه الكفاءات فرص عمل مناسبة، وهذا واحد من أخطر مظاهر التخلف، فهو دليل على غياب التخطيط وعدم معرفة حاجة البلد لهذا الاختصاص أو ذاك، وهذه إحدى صفات النظم التي تفتقر للشرعية الدستورية، فمن يغتصب الدولة اغتصاباً لا يهمه موقف الرأي العام منه، بل هو يعمل على تكييف وإخضاع الرأي العام لما يريد عن طريق مراكمة وقائع جديدة تبعد الناس عن التفكير بحقوقهم المشروعة، خالقاً المزيد من الكوادر والمؤسسات التي تبرر سياساته العشوائية هذه.
وهذا تحديداً ما يؤدي إلى خلق أزمات كثيرة لا مبرر لها، ليس أقلها هجرة الكفاءات العلمية والتقنية، أو الارتفاع المستمر في معدلات البطالة، كما تساهم أيضا في تغذية الأزمات الأخرى المتوارثة.
إن مجتمعات تعيش في ظل دول من هذا النوع ستكون حاضنة جيدة لنـزعات التطرف الطائفي والعنصري وسواهما، فعندما يتم تفريغ حياة الإنسان من أسباب ومظاهر العيش والمتع الطبيعية، فهو سيكون مستعداً لاستقبل مختلف الهواجس غير الصحية التي تخلقها نزعة الانكفاء على الذات، بما يعنيه ذلك وبالتراكم، من شيوع لمختلف مظاهر التوتر النفسي والاجتماعي.
إن نوعية نظام الدولة تلعب دوراً أساسياً في مزاج الأفراد وفي نوعية إيقاع الحياة في البلد المعني، ولا نجد من المبالغة القول، بان الدولة المتخلفة من النوع المذكور، تعكس انكفاءها على مختلف التفاصيل الاجتماعية الأخرى، كمعدلات الولادة والوفيات، ومعدلات الزواج ونوع الحياة العاطفية، بل وحتى على لغة الكتابة ونوعية الأغاني وأشكال الفنون، وهذا لا يعني إنـها تُصدر قرارات حكومية بذلك، ولكن في ظل دولة بوليسية حربية لا بد أن تطغي على الفن التشكيلي مثلاً، الألوان الحارة والكامدة بما يتلاءم مع الشعور بالإحباط وحالة التوتر في المزاج العام، ويحدث ذلك على حساب الألوان الهادئة والـمائيات.
وأيضاً، فالدول المتخلفة، دول الأحكام العرفية وحالات الطوارئ المزمنة، لا تخلق مواطناً خائفاً من الأحداث ومن المستقبل فقط، بل تخلق أيضا حاكماً خائفاً ليس من مجتمعه فحسب بل ومن مؤسسات دولته ذاتها!!
&إن ما حدث في أفغانستان والصومال وما يحدث الآن في العراق، هو نتيجة طبيعية لتراكم التعسف ومشاعر الحيف التي عانت وتعاني منها مجتمعات هذه الدول، بسبب غياب الحد المعقول من العدالة. فالوحدة الوطنية ليست مجرد شعار ولا هي أمر مقدس بذاته، إنـما تصبح كذلك حين ترتبط مصالح الجماعات المختلفة، القومية والدينية، بمصير الدولة المعنية وإمكانية تطوير نظامها السياسي باستمرار، وهذا لا يحدث، كما أكدت وتؤكد التجارب المختلفة، إلا في ظل دولة القانون الدستورية ونظام التمثيل الديمقراطي. أما بشأن ما هو شائع في بعض بلدان العالم الثالث، حيث يوضع المواطن أمام سؤال غريب مفاده: هل أنت مع الوحدة الوطنية أم مع المؤامرات الخارجية؟! فهناك ثلاث نقاط يجب دائما التأكيد عليها بـهذا الشأن، وهي أولا: إن المسألة ليست مسألة ( مؤامرات ) بما تنطوي عليه هذه المفردة من إثارة للظنون والوساوس، ويفترض أن ننتهي من ترديد مقولة: أنا من القائلين بوجود مؤامرة، أو لست مع القائلين بوجود مؤامرة!! فالمعادلات التي تتحكم بمصائر مجتمعات كاملة، يجب أن تفهم كما تجري في الواقع، فالذي يحدث عادة، هو إن صراعات المصالح الدولية، المعروفة والموجودة في مختلف مناطق العالم والتي لا يكاد ينجو منها طرف، تتخذ - حين يتعلق الأمر بدولة مفككة أو على وشك التفكك - طابع التزاحم بشكل اكثر مباشرة، ومن أصول هذه ( اللعبة ) كما هو معروف، أن تتدخل أجهزة المخابرات لتشكيل المحاور واستخدام القوى المحلية، لان تفكك أية دولة يضع الدول الكبرى أو الصغرى المعنية، أمام توقعات واحتمالات عديدة، فتجد نفسها أمام اختيارين، أما التدخل والاستفادة من البلد المنكوب، أو انتظار الأضرار التي ستلحق بـها جراء تفككه. لكن عندما تكون عواقب هذا التفكك منذرة بالأخطار وغير محسوبة النتائج بدقة، نجد أن جميع تلك الأطراف أو أغلبها تعلن عن ( حرصها ) على الوحدة الوطنية لذلك البلد!!
أما النقطة الثانية: فهي ضرورة إدراك الأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى تفكك من هذا النوع، وهي لا تكمن عادة بشخص أو حزب معين، بحيث إذا تمكنا من إسقاطه زالت المخاطر معه، بل هي تتعلق بعقلية أو نظام تفكير قد يكون شائعا عند جميع الأطراف في حقبة معينة، فيصبح والحالة هذه من غير المجدي أيضا استبدال حزب بحزب أو طائفة بطائفة، لأن أية جهة تنظر إلى الدولة بصفتها ( غنيمة ) ووسيلة للهيمنة على الآخرين ومصادرة حقوقهم، ستؤدي حتما إلى إنتاج أزمة مماثلة وأشخاص مماثلين، وهذا ليس تبريراً للحاكم الديكتاتور أو للأحزاب الفاشية المعروفة المصير عادةً.
أما النقطة الثالثة، فتكمن في ضرورة فضح اللعبة التي تلعبها الأنظمة الاستبدادية، لعبة استخدام شعار الوحدة الوطنية لاستمرار وجودها وتبرير لا شرعيتها، بما يعنيه ذلك من تبرير لكل الأزمات التفصيلية التي كرستها والتي أدت إلى تـهديد الوحدة الوطنية ذاتـها، وذلك بإحالة كل ما جرى ويجري إلى مؤامرات خارجية، بحيث يصبح كل معارض لها مشبوها أو عميلا، أي إن احتجاج المظلومين يصبح تـهديداً للوحدة الوطنية ويا للغرابة!!