&
اسفرت الانتخابات العامة التي جرت في روسيا في السابع من الشهر الحالي، عن نتائج مهمة للغاية، بكل المعايير الموضوعية .. ذلك انها مؤشر قوي لبدء مرحلة جديدة من الحياة الحزبية والممارسات البرلمانية .. كما انها ترسخ اوضاعاً سياسية من المرجح ان تشكل مسار روسيا ومصيرها، في غضون المستقبل المنظور .
في مقابل الفوز الكبير لحزب روسيا الموحده فإن انتخابات 7 ديسمبر قد اسفرت عن تهميش الحزب الشيوعي
فقد ابرزت نتائج الانتخابات ان الرئيس فلاديمير بوتين، الذي يحظى بشعبية هائلة، غير مسبوقة في روسيا، تبلغ نحو 80 في المائة او يزيد. قد اصبح، دون منازع، الرجل القوي الوحيد في روسيا. ذلك ان الانتخابات العامة قد جرفت كل الاحزاب والشخصيات المعارضة. ومن ثم، لم يعد ثمة مرشح معارض يمكنه ان يمثل تحدياً له في انتخابات الرئاسة في مارس من العام المقبل (2004 ).
ولذلك، فإن بوتين سوف يفوز بفترة رئاسية ثانية.. وانه يستعد منذ الآن لتنفيذ مشروعات اقتصادية واجتماعية دون ان تساوره الهواجس من نواب معارضين او مشاغبين قد يعرقلون ما تطرحه الحكومة من تشريعات في البرلمان.
ويرجع ذلك على ان البرلمان الروسي ( الدوما ) الذي شكلته نتائج الانتخابات قد اصبح، دون شطط او مبالغة، في قبضة بوتين .. فقد فازت الاحزاب الموالية للكرملين بأغلبية مقاعد البرلمان .. لاول مرة منذ جرت اول انتخابات عامة ديمقراطية في روسيا عام 1993، في اعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي.
فقد كان الحزب الشيوعي الروسي يفوز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان، مما كان يمثل صداعاً سياسياً مستمراً للرئيس السابق بوريس يلتسين، بل وللرئيس الحالي بوتين، الذي فاز في انتخابات الرئاسة عام 2000.
ويتبلور هذا المعنى وتتضح ابعاده من ان انتخابات 7 ديسمبر الحالي، حيث تمخضت عن تقدم كبير ومذهل لحزب روسيا الموحدة، الموالي لبوتين، على جميع الاحزاب المؤيدة للكرملين والمعارضة له. فقد حصل على 37 في المائة من اصوات الناخبين، اي ما يعني فوزه بـ222 مقعداً من مقاعد البرلمان البالغ عددها 450 مقعداً. ومن المنتظر ان يتحالف مع هذا الحزب داخل البرلمان حزب صغير موال لبوتين هو حزب الوطن، الذي فاز بـ9% من الاصوات كما من المرجح ان يتحالف مع حزب روسيا الموحدة. الحزب الليبرالي الديمقراطي، وهو حزب يميني متطرف .. بزعامة القومي الروسي المتشدد فلاديمير جيرونوفسكي. فقد فاز هذا الحزب بـ11 في المائة من الاصوات .. واصبح له 38 مقعداً في البرلمان. وقد صرح احد زعماء الحزب بأنه سيقترح تعديل الدستور، بحيث تصبح فترة تولي الرئاسة سبع سنوات بدلاً من اربع.
وفي مقابل هذا الفوز الكبير لحزب روسيا الموحدة، والذي يطلق عليه الآن بعض المحللين السياسيين الغربيين حزب الدولة .. برغم عدم انضمام بوتين لعضويته .. فإن انتخابات 7 ديسمبر الحالي قد اسفرت عن تهميش الحزب الشيوعي، وعن اقصاء حزبين معارضين آخرين، حيث فشل كلاً منهما في الحصول على نسبة خمسة في المائة من الاصوات، والتي تعد شرطاً اساسياً لدخول البرلمان.
وهنا .. يرى عدد من المراقبين الغربيين ان المعارضة قد قضت نحبها في روسيا .. ،ان الكرملين قد عاد من جديد الى احضان الحزب الواحد، وان الديمقراطية الوليدة في روسيا تعاني من انتكاسة حادة ..
وحتى نتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود، فيما يتعلق بتأويلات وانعكاسات نتائج انتخابات 7 ديسمبر الحالي على المسار السياسي الروسي، يتعين ان نرصد دلالات نتائجها في ضوء تهميش الحزب الشيوعي، واقصاء الحزبين اليمينيين، وهما حزب اتحاد القوى اليمينية، وحزب يابلوكو.
اولاً : تهميش الحزب الشيوعي: لقد سددت الانتخابات ضربة موجعة لهذا الحزب. فلم يحصل سوى على 13 في المائة من الاصوات، مقابل حصوله على 24 في المائة من الاصوات في انتخابات عام 1999. ومن ثم، فقد تقلصت فعاليته البرلمانية. ولم يعد في وسع نوابه ان يؤثروا على اية تشريعات تطرحها السلطة التنفيذية على البرلمان للتصديق عليها .
ولعله من المفيد في هذا السياق، الاشارة الى ان الحزب الشيوعي الروسي لم يغير اسمه على نحو ما فعلت الاحزاب الشيوعية في اوروبا الشرقية اثر ثورة التحولات الديمقراطية والسياسية التي اجتاحت هذه البلاد في اعقاب انهيار سور برلين عام 1989 .. ثم انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 - فقد آثر اقطابه الاحتفاظ بالاسم القديم في محاولة لجذب كبار السن من الناخبين الذين يعتريهم الحنين إلى الماضي، والذين تدهورت احوالهم المعيشية في ظل سياسة الخصخصة واقتصاد السوق. وبرغم ذلك فإن زعماء الحزب لم يحتفظوا بذات الايديولوجية القديمة. وانما اتجهوا لمغازلة اقتصاد السوق. بل ان قائمة مرشحي الحزب في الانتخابات كانت تضم عدداً لابأس به من رجال المال والاعمال.
ثانياً: اقصاء القوى اليمينية ذات التوجه الليبرالي.. فقد فشل كل من حزب اتحاد القوى اليمينية وحزب يابلوكو في الحصول على خمسة في المائة من اصوات الناخبين. ولم يعد لهما مكان في الحياة البرلمانية. وهنا تجدر الاشارة الى ان حزب اتحاد القوى اليمينية تأسس عام 1999. وتمكن من الفوز بنسبة 85 في المائة من الاصوات في الانتخابات ذلك العام. وتؤكد مصادر مطلعة ان فوز الحزب يرجع الى مساندة بوتين له ابان ان كان رئيساً للوزراء في عهد الرئيس السابق يلتسين.
اما حزب يابلوكو، فقد تأسس عام 1994. و حصل على 53 في المائة من الاصوات في انتخابات 1999. و كشف احد زعماء الحزب عن سر هزيمته بقوله : لقد رددنا ما كنا نقوله طوال السنوات التسع الماضية. وكان يتعين علينا، بدلاً من ذلك، ان نطرح افكاراً جيدة تتماشى مع القرن الواحد والعشرين.
ومن المثير للغاية ان عدداً من المعلقين السياسيين الغربيين بادروا بكتابة مرثية لهذين الحزبين، انطلاقاً من انه من العسير عليهما ان يبقيا على قيد الحياة الحزبية وهما خارج البرلمان.
ومما يزيد الطين بلة بالنسبة لهذين الحزبين ان الملياردير ميخائيل خودور كوفسكي، اغنى رجل في روسيا، كان يساندهما، ويمول انشطتهما .. حتى عشية اعتقاله في اكتوبر الماضي. فقد القت السلطات الروسية القبض عليه، وزجت به في السجن بتهم شتى منها التهرب الضريبي. وبادرت بتجميد ارصدة شركته، وهي شركة يوكوس للنفط بل ان المليادير كان يمول كذلك الحزب الشيوعي .
وكان الملياردير يرمي من وراء ذلك، الى الحيلولة دون حصول الاحزاب الموالية لبوتين على الاغلبية في البرلمان، حتى لا تقر تشريعات قد تحد من ارباحه، وتنال من ثروته الطائلة .. كما كان يطمح لترشيح نفسه للرئاسة في انتخابات عام 2008 .. ومن ثم بادر بوتين باصطياده .. لانه تدخل في الشؤون السياسية، ولم تقتصر انشطته على المجال الاقتصادي .. واللافت للانتباه ان اعتقال الملياردير عزز من شعبية بوتين. ذلك ان رجل الشارع في روسيا يمقت الملياردير واقرانه من رجال الاعمال الذين افرزتهم فترة التسعينيات من القرن العشرين .. فهم متهمون بالاستحواذ على ممتلكات الدولة ومؤسساتها بثمن بخس.
والواقع ان موقعة اعتقال الملياردير مكنت بوتين من تعزيز مكانته في الكرملين .. فقد اسفرت عن استقالة ألكسندر فولوشين رئيس العاملين بالكرملين .. وهو الرجل القوي الذي كان يمثل "العائلة" والعائلة تعبير ينسحب على مجموعة الافراد الذين كانوا يديرون شؤون روسيا ابان رئاسة يلتسين، وكانت تتزعمهم ابنته نتاليا. فقد استشاط ألكسندر غضباً لان اعتقال الملياردير تم بدون اجراء اية مشاورات معه.
وقد وجه بوتين تحذيرا شديد اللهجة لرئيس الوزراء ميخائيل كيسانوف، عندما اعرب عن قلقه العميق تجاه اعتقال الملياردير. وثمة تكهنات قوية بأن بوتين سوف يتخلى عن كيسانوف على اثر فوزه المرتقب بفترة ثانية للرئاسة في مارس المقبل.
وفي ضوء ما سلف، فإن دلالات انتخاب 7 ديسمبر الحالي، وما اقترن بها من احداث ووقائع، تشير الى ان بوتين هو الرجل القوي في روسيا .. حتى اشعار آخر.