موسى الخميسي من روما: بمناسبة الذكرى السادسة لوفاة رائد المسرح الطليعي الإيطالي جورجو سترهلر (1921- 1997) وتحية لذكراه الخالدة، يشهد الجمهور الإيطالي والأوربي عروض اوبرا" هكذا يفعل الجميع" لموزارت التي أخرجها فنان المسرح الراحل قبل ايام من وفاته ولم يشاهدها الجمهور على خشبة "المسرح الصغير" في ميلانو الذي ارتبط باسم سترهلر.
كان المسرحي الإيطالي الراحل جورجو سترهلر يحلم بكتابة نص مسرحي مطلق يقف حسب تعبيره بين السماء والأرض،" نص مفرد ولاشيء يسنده من فوق أو من تحت، معلقا إلا انه نص يمتلأ بموضوعه، ولا يسقط في فراغ الحرية ، بل يعلق نفسه بنفسه". لقد اثرّ المسرحي الإيطالي الكبير جور جو سترهلر بعمق& على حركة المسرح الإيطالي المعاصر، وامتد تأثيره على كل مراكز التجريب في عموم أوربا، فهو ليس مجرد مخرج أو ممثل أو مدير فرقة، أو مفكر نظري في المسرح ، هو شئ من هذا كله، هو رجل مسرح بالمعنى الشامل للتعبير. وفي كل التساؤلات التي طرحها عن ماهية المسرح، وجد الإجابة مباشرة في قلب التجربة.
عمل في مجال التدريس المسرحي وكان قريبا من دوائر مثقفي اليسار الإيطالي، وعاملا في صحفهم ومجلاتهم، وكاتبا ومترجما لعدد من الدراسات والأعمال المسرحية. ويمكن القول بان سترهلر لم يكن في حياته المسرحية الطويلة يعمل شيئا الا عن عمق اختيار، بحيث توالت خطواته الفنية لتشكل معا صورة اختياره الشامل في الحياة. ان كل تجارب الإخراج المسرحي العالمي صبّها في مجرى واحد متكامل لتسمى باسمه كأسلوب مسرحي عالمي متميز. فقد عكف هذا الفنان الكبير في بلورة رؤية مسرحية لها طابع الجدة والاختلاف ارتقت الى مستويات نقدية جادة ، وسواء أمالت أعماله نحو هذا البعد او ذاك من أبعاد الهم الإنساني، فهي جميعا أعمال مستفزة، مقتحمة، مفسرة، مفكرة، تتأجج بانفجارات نفسية ولغوية عنيفة وقوية، أوصلته الى ارض مسرحية جديدة والى ممارسة شعرية جديدة على المسرح، فهو جمع كل تجارب القرن العشرين في أعماله، من ستانيسلافسكي الى بسكاتور وغروتوفسكي، ومن بريخت الى بيرانديللو.
ارتبط اسم سترهلر منذ عام 1947 بالمسرح الصغير( بيكولو تياترو) في مدينة ميلانو ذلك المسرح الذي انشأ في البداية بمبادرة من المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي، حيث ظهرت بين فترة الحربين العالميتين مبادرات لاصلاح المسرح الإيطالي، ونشطت ( المسارح الصغيرة) في العقد الأول من فترة السلام، وفيما استمر ممثلو الجيل السابق من المسرحيين في متابعة نمطية أعمالهم التقليدية، راح عدد من المثقفين يدعون الجمهور المثقف الى مسارحهم الطليعية. وقدمت في العديد من المدن الإيطالية مسرحيات حاولت حمل المتفرج لنوع من الصدمة لبلوغ ما وراء قناع الحياة اليومية.
ولما تمتاز به إيطاليا ومنذ أجيال بغنى مواهبها المسرحية، ابتداء من الهزلية& الصقلية، ومرورا بالهزلية الجنوبية النابوليتانية، والإيمانية الروحانية والمأساة الدينية الإنسانية والأسطورة الرعوية لعصر النهضة، والكوميديا الفنية، والميلودراما على اختلاف اغنواعها، لايسعها إلا أن تعطي إسهامات جديدة للمسرح العالمي، وكان الفنان سترهلر ومسرحه الصغير، ابرز من مثل اتجاهاتها الحديثة، باعتبار المسرح
( مركب أفكار) يجب ان يصل الى الجمهور. فقد أكد هذا الفنان في اكثر من مناسبة على ان فن المسرح لا يمكنه ان يقفز فوق الخبرة التاريخية، وقد أثار هذه القضية في عشرات الأعمال آلت قدمها للمسرح، وخاصة أعمال بريخيت وغولدوني وشكسبير وتشيخوف وآخر أعماله للفرنسي ماري فوي من القرن السابع عشر وهي مسرحية (جزيرة العبيد). فقد أكد على قضية استخدام الطقس القائم على الأسطورة والممارسة الشعبية متمثلة بالأداء البلاغي من خلال شعر اللغة، على اعتبار ان المسرح من وجهة نظره هو( فرع من فروع الأدب). وفي كل تجاربه في الإخراج ، لم ينته الى نتيجة محدودة موطدة، إلا انه اسهم في زيادة قيمة المسرح التعليمية والامتاعية، وابرز أعماله المسرحية خلال السنوات الأخيرة هي ( فاوست) التي كتبها الشاعر والمفكر الألماني الكبير غوته ، والتي صاغ بها نموذج حياة البرجوازية في دورها التقدمي، ذلك النموذج الذي تسامى على محدودية المجتمع البرجوازي، ورسم صورة الشعب الحر في الأرض الحرة، و( فاوست) يمتلأ حقدا على القرون الوسطى وعلى الأفكار الغيبية، ويكشف عن أفكار فلسفية متقدمة، وبهذا العمل الخالد يتحدث غوته عن التطور والتغير المستمرين في الكون، ويبين تفاهة المفاهيم الميتافيزيقية عن الواقع، ويسخر بشدة من فكرة الانعزال عن العالم وعن حياة الناس.
وكان سترهلر يعتقد بان عملية تقديم هذا العمل الكبير مسرحيا يعد بمثابة مغامرة كبيرة يواجهها المسرح الأوربي المعاصر، إلا انه كان يعتقد من جانب آخر بان هذا العمل يشكل جهدا عظيما يواجه المسرح الأوربي لأول مرة، والسبب في ذلك حسب اعتقاد سترهلر بان فاوست تعتبر من الأعمال الآبية الصعبة والطويلة، وهي مزيج كبير من العناصر المختلفة التي تكوّن هذا الأثر الأدبي الحالد، وكذلك فان الصعوبة تجسدت في كيفية طرحه على خشبة المسرح لتجعله عملا كونيا يمر بقنوات متعددة تصوغه وتشكله لتجعله في المطاف الأخير قطعة متناسقة متناغمة تصلح لان يشاهدها الناس على خشبة المسرح الاعتيادي.
القسم الأول من فاوست قدم على شكل أمسيتين متتاليتين عام 1990 وتناول الأجزاء الأولى من هذا العمل الأدبي الضخم، وقدم الجزء الثاني التالي والثالث والأخير عام 1994، أي ما معدله عشرة أمسيات مسرحية يتجاوز طول كل منها الخمس ساعات ، والسبب في ذلك يعود الى طول فاوست والحذر من أتعاب الجمهور المسرحي. وقام بتمثيل الأدوار الرئيسية إضافة الى جورجو سترهلر ، عدد من أساتذة وتلاميذ المسرح الصغير. وقال سترهلر عن هذا العمل( لا يمكننا التعامل مع أي عمل أدبي واثره وأشكال النقد المرتبطة به دون معرفة الشرط التاريخي الذي يحكم المؤلف والقارئ واخيرا المشاهد، ذلك لان كل حركة ثقافية بكل وجوهها الممكنة هي انعكاس وتعبير لواقع تاريخي بجملة شروط اجتماعية وسياسية وثقافية قائمة وموجودة فعلا).
وحول التوفيق بين عملية الإخراج والتمثيل قال سترهلر لكاتب السطور في لقاء صحفي سابق بعد انتهاء العرض الأخير من المسرحية( منذ زمن طويل وانا اشعر بالمهمة من اجل العودة الى& خشبة المسرح كممثل، ولا اخفي الصعوبة في المزاوجة ما بين الإخراج والتمثيل وخاصة بعد انقطاع سنوات طويلة عن ممارسة التمثيل) واضاف يقول حول السبب الذي دفعه لاختيار هذا العمل بالذات( اعتقد ان فاوست عمل تراجيدي كتب للمسرح وليس للقراءة وحدها كما يشاركني بهذا الرأي العديد من النقاد والكتاب في جميع أنحاء العالم، ذلك ان هذا العمل يعالج أسئلة إنسانية دائمة الحضور، وتناقش بجدلية مأساة البحث عن الحرية والتوزع بين الذكرى والأمل في مستقبل الإنسان الجديد، كما ان فاوست لعبت دورا هاما في التهيئة الفكرية للنظرية المادية في ألمانيا، أنها إذن تمثل النقلة العظيمة التي اكتنزت بها حياة غوته والذي كان يكرر مقولته الشهيرة" الجدير بالحرية كما بالحياة هو فقط من ينتزعها كل يوم".
لم يكن سترهلر على ولع خاص بأحياء ذكرى تواريخ معينة وفق التقويم في اختياراته المسرحية، لانه كان يشعر بصعوبة التقاط نقاط الانعطاف الحقيقية، إلا انه خلفّ ولرائه أعمال شديدة التنوع وشديدة التغلغل في التطور الاجتماعي والفني، ليس في إيطاليا وحدها وانما في عموم أوربا، لها نقاط انعطافها ووقفاتها في الواقع، وابرز انعطافه حققها هو مساهمته في تحرير الفن المسرحي الأوربي من قبضة المسرح التقليدي المحافظ، ومنحه وظيفة تربوية لنشر الوعي السياسي والاجتماعي والجمالي لدى الجماهير وتحريضها على التغير. وقد تزامن مع هذا ، تطلعات القوى السياسية ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت تستعد للاستحواذ على السلطة. ولهذا فهو يعتبر من وجهة نظر العديد من النقاد المسرحيين الأوربيين افضل من نقل تجربة ( مسرح التغيير) التي قادها بريخت على خشبة المسرح، محققا استقلاليته الفنية المتميزة. واعتبر بريخت المعلم الذي كان اول من علمه كيف يمكن ان يصنع فن مسرحي مغاير يعني الإنسانية جمعاء.
تتجلى نزعة سترهلر في التوجه نحو بريخت بشاعريتها وغناها الحسي والفكري في رغبته بان تهضم أفكاره وتنقل وتستعمل باعتبارها سبيل جديد لتغيير المجتمع وتشجيع ومساعدة كل الاستعدادات المبذولة لتغير تلك الأمور التي تعيق الخصب الإنساني.
لقد أكد سترهلر في اكثر من مناسبة بأنه تعلم من بريخت كيف يمكن ان تصور الأحداث الاجتماعية في أشكال فنية عظيمة ونموذجية دون أي إهمال لدور الشخصية الفردية، وذلك لانه أدرك ومنذ البداية بان التطور الثقافي لايسير بتلك الميكانيكية التي تتصورها بعض الأحزاب السياسية والتي نجعل كل الجهود الفردية الرامية الى استيعاب الرؤى الموضوعية محاصرة بفعل حركة الطبقة العاملة أو الحزب.
ابرز ما يميزه كمخرج من الطراز الأول هو عدم رغبته في جعل الممثل يجسد ما يحركه، فهو أي الممثل ليس أداة تابعة له. كان يساعده للوصول الى قوته الإبداعية وكان يشاركه تلك القوة الإبداعية ويراقبها ليخرج بانطباع ما لانه كان يتخذ دور المكتشف وليس المعلم، فهو كان يقول على الدوام( المخرج أولا هو مشاهد وضرورة تعميم مزاج الممثلين وعدم قمعها تحت إرادة المخرج)، وكان يكر على طلبته في المسرح الصغير( إذا لم نستطع ان نخرج مشهد مما يحتويه، فعلينا والحالة هذه الاحتياط من إقحام مالا يخص العمل لئلا يتشوه العمل المسرحي ويرهق المشاهد). غادر سترهلر دون ان يتمكن من افتتاح( مسرحه الصغير) بعد عملية ترميم استمرت عدة سنوات، فقد توقف قلبه عن النبض عن عمر 76 فجر يوم عيد الميلاد دون ان يتمكن من حضور الحفل للمبنى الذي كافح هذا الفنان من اجل ان يرى ( المسرح الصغير) ومن جديد ليقدم عليه عطاءاته وكان آخرها كما كان مقرر عمله الذي يمتد لساعات طويلة في الأعداد لاوبرا ( دون جوفاني) لموزارت والتي أخرجها عوضا عنه المخرج الإنكليزي بيتر بروك.
المسرح الصغير الذي أحياه مع زميله منظم العروض المسرحية المعروف باولو كراسي ، كان في البداية مجرد صالة سينما صغيرة استخدمها الفاشيون الإيطاليون خلال فترة احتلالهم لمدينة ميلانو مقرا للاعتقالات العشوائية وللتعذيب الذي كان يجري للمعارضين من قوات المقاومة اليسارية، إلا انه وبفضل جهود ( المايسترو) تحول المسرح الصغير الى واحد من اشهر المسارح في العالم، وشهد عروض أول فرقة أسسها سترهلر في مدينة تريستا الشمالية التي ولد فيها واسمها( فرقة الأقنعة) وهي مسرحية( كاليغولا) لالبير كامو.