سعود القحطاني

&
يحاول الصحويون الاستفادة من التجربة الكنسية في العصور الوسطى من ناحية ممارسة الإرهاب الفكري على كل الخارجين عن دائرة المنظومة الصحوية.
فالصحوة الإسلامية تقدم نفسها ككنيسة إسلامية جديدة، تحتكر تفسير النصوص، وتقوم بفرض إرادة الله على الأرض، وفي صراعها مع تيارات المجتمع الأخرى تطرح جدلية حزب الله وحزب الشيطان[1] على اعتبار أن من يوافقها يكون عضواً في الحزب الأول وأما من يخالفها فهو وبلا شك عضو في الحزب الثاني، ومن هنا تكون الجنة مآل من ينتسب إليها والنار مصير كل من يخالفها.
وفي سبيل فرض هذه الرؤية، يلجأ الصحويون إلى استعادة تجربة مجتمع المدينة في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحلالها في الواقع الحالي للدولة السعودية، ومن ثم يتم تقسيم الناس إلى مسلمين ومنافقين وكافرين. أما القيادة المطلقة فهي موكلة إلى مشايخ الصحوة الذين يتقمصون دور النبي في المجتمع المديني باعتبارهم ورثة الأنبياء، بينما الصحابة المسلمون يمثلهم في الوقت الحالي عامة الصحويين، وأما المنافقون فهم أعداء الصحوة الذين يعيشون في هذه البلاد، وأما الكفار فهم على ثلاثة أنواع: كافر ثبت كفره حسب تصورهم بالطبع- من المنافقين وكافر لايؤمن بالدين الإسلامي، أو موحد كافر نتيجة لانحراف عقيدته عن العقيدة الصحيحة بنظرهم-.
ومن الملاحظ أن قاموس التكفير والتفسيق الصحوي هو من أكثر القواميس اتساعاً وشمولاً واستعمالاً لدى الصحويين، فعلى سبيل المثال نجد في هذا القاموس عبارات كثيرة متداولة للدلالة على التيار العقلاني الذي لا يدخل تحت نفوذهم، وكل هذه العبارات أصبحت مرادفة للنفاق في حالات وللكفر في حالات أخرى، من ذلك توصيفهم بالعلمانيين أو العصرانيين أو الفاسقين أو المستغربين وغير ذلك[2]. كما أنهم يلجأون وبشكل دائم إلى فكرة تشويه المصطلح، فما أن يخرج تيار فكري في البلاد، حتى يقومون بتشويه المصطلح الذي تعارف الناس على تسميته به، وهذا التشويه بلاشك- يقوم على أسس دينية ومنطق تقسيمي بين حزب الله وحزب الشيطان، حتى يأنف المؤمنون بهذا التيار من الانتساب إليه. ومن ذلك ماحصل لمصطلحي الحداثة والليبرالية، ومصطلحات أخرى كثيرة.
وبما أننا بصدد مناقشة الإرهاب الفكري الذي يقوم بممارسته الصحويون السعوديون، فلابد من الإشارة إلى واقعة بالغة الأهمية، وهي حادثة قيادة مجموعة من النساء السعوديات للسيارات في الرياض أثناء حرب الخليج الثانية، حيث شن الصحويون حملة تجسد فيها الإرهاب الفكري بأبشع صوره، واستغلت الصحوة كل وسائلها، وفي مقدمتها منابر المساجد في سبيل تشويه سمعة هؤلاء النسوة وذويهن. وقام الصحويون بتوزيع منشورات تحمل أسماءهن وأسماء أزواجهن وكانت هذه المنشورات معنونة بـ(أسماء الساقطات الداعيات إلى الرذيلة والفساد في الأرض)، ووصفن بأنهن علمانيات وشيوعيات، وكذلك وصف أزواجهن بذات الصفات وأكثر منها، مثل وصفهم: بالدياثة.
وقد فُصلن من أعمالهن بسبب الضغوط الصحوية في ذلك الحين.كما قامت هيئة كبار العلماء متأثرة بالضغط الصحوي- بإصدار فتوى تنص على تحريم قيادة المرأة للسيارة، ونجحت هذه الفتوى بتهدئة التيار الصحوي في تلك اللحظات المصيرية في تاريخ البلاد، والتي كانت فيها الدولة على شفى حرب خطيرة مع عدو لا يرحم.
&ومن الجدير بالذكر أن الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تصدى شخصياً لقضية المنشورات المتداولة وقال عنها إن فيها شر عظيم، وان سب فلان وفلانه فيه إتباع للشر، ونهى عن جرح أعراض المسلمين ووصمهم بالكفر أو العلمنة أو الشيوعية، وقال إن هذا خطأ عظيم.
ويورد الدكتور غازي القصيبي في كتاب (حتى لا تكون فتنة[3]) نصاً لسلمان العودة يوضح فيه رأيه في قضية المنشورات، وذلك بعنوان (رأي ولاية الفقيه في هذه المنشورات). والنص هو (نقلاً عن جريدة المسلمون العدد 309 ):
"والذين يحاربون الآن قضية الأوراق المتداولة (المنشورات) ما أتوا إلا بقضية واحدة أو نقطة واحدة أو معلومة واحدة تقريباً هي التي قالوا أنها غير صحيحة أنه امرأة نسبت إلى غير زوجها معنى ذلك أنه إذا كان في الأوراق المتداولة مثلاً أربعمائة أو خمسمائة معلومة لا يضر أن يوجد فيها معلومة واحدة غير صحيحة.. وإذا أردنا أن نتكلم عن قضية الأوراق المتداولة يجب أن نكون واقعيين مانحارب قضية الأسماء مثلاً أو قضية التسمية لا مانحاربها (!!!)"[4].
&وفي تلك الأوقات أيضاً، تداول الصحويون منشورات اتهموا فيها بعض رموز البلاد غير الخاضعين للتيار الصحوي باتهامات عديدة، منها أنهم ماسونيون وعلمانيون وعملاء لأمريكا ويعملون لحسابها!. وكان من الذين أصابتهم طائلة المنشورات: الدكتور محمد الطويل، والوزير في ذلك الحين: محمد أبا الخيل، والدكتور غازي القصيبي والدكتور إبراهيم العواجي والدكتور سليمان السليم، والوزير السابق أحمد زكي يماني، والدكتور حمد المرزوقي، وغيرهم الكثير![5]
ومن الجدير بالذكر ونحن في ختام هذا الفصل أن نُذكّر بان أطروحة الماجستير لسفر الحوالي كانت بعنوان: (العلمانية.. نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة). وهي رسالة أشرف عليها د. محمد قطب، الأخ الأصغر لسيد قطب.
وكان مما ورد في هذه الرسالة: "هذا وقد عاصر محمد عبده رجل آخر من دعاة الإصلاح أيضاً هو عبد الرحمن الكواكبي (ت1902) يحق لنا أن نقول أنه أول من نادى بفكرة العلمانية حسب مفهومها الأوروبي الصريح"[6]. وبعد أن استعرض الحوالي دور الشيخ محمد عبده من ناحية كونه حلقة وصل بين العلمانية الأوروبية والعالم الإسلامي وكذلك دور الكواكبي من ناحية كونه أول المنادين بفكرة العلمانية حسب رأيه- قال: "واقتفى هذين عدد من الكتاب والصحفيين المشبوهين من أدعياء الإسلام وغيرهم، يطالبون بضرورة فصل الدين عن السياسة وإبعاده عن واقع الحياة وأن ذلك هو الحل الوحيد لمشاكل الشرق، وكان لسموم المستشرقين ودسائس المبشرين أعظم الأثر في ذلك"[7].
بينما كانت رسالته في مرحلة الدكتوراة بعنوان (ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي) وكان من العجائب التي وردت فيها شرحه لما سماه بالتيار العصراني، فقال: "وهي زندقة عصرية يروّج لها عصابة من الكتّاب يتسترون بالتجديد، وفتح باب الاجتهاد لمن هب ودب وكتاباتهم صدى لما يدور في الدوائر الغربية المترصدة للإسلام وحركته، وربما يكشف الزمن عن صلات أوضح بينهم وبينها كلهم أو بعضهم وأصول فكرهم ملفقة من مذاهب المعتزلة والروافض وبعض آراء الخوارج مع الاعتماد على كتب المستشرقين والمفكرين الأوربيين عامة، وهم في كثير من الجوانب امتداد للحركة الإصلاحية التي ظهرت في تركيا والهند ومصر على يد الأفغاني ومدحت باشا وضياء كول آلب وأحمد بهادر خان وأضرابهم"[8].
ويخلص في تعريفه لهذا التيار بالقول: "وهذا الاتجاه على أية حال لا ضابط له ولا منهج، وهدفه هدم القديم أكثر من بناء أي شيء جديد، وإنتاجه الفكري نجده في مجلة المسلم المعاصر، ومجلة العربي، وكتابات حسن الترابي، ومحمد عمارة، ومحمد فتحي عثمان، وعبد الله العلايلي، وفهمي هويدي، وعبد الحميد متولي، وعبد العزيز كامل، وكمال أبو المجد، وحسن حنفي، وماهر حتحوت، ووحيد الدين خان. وإنما رأيت ضرورة التنبيه عنهم لخطورتهم واستتار أمرهم عن كثير من المخلصين"[9].
&ومن طرائف الأمور، أن الدكتور سفر الحوالي بعد كتابه هذا بسنوات، قام بتبني مشروع إنشاء ما أسماه بـ(الحملة العالمية لمقاومة العدوان). وأدخل معه في قائمة المؤسسين الأستاذ فهمي هويدي، ووصفه بالمفكر الإسلامي! كما أدخل معه وفي قائمة المؤسسين أيضاًً الدكتور محمد عمارة، ووصفه كذلك بالمفكر الإسلامي!
يتبع
&
الهوامش:
[1] يقول سفر الحوالي مثلاً في محاضرة بعنوان:" المؤامرة على الإسلام": "وظهر منهجان متعارضان: نور وظلام، فحيثما فقد النور وجد الظلام، وكلما اشتد النور وقوي كلما ضعف الظلام أو اضمحل، ولابد أن يظهر أحدهما، ولا يمكن أن توجد حالة لا نور فيها ولا ظلام! أو لا حق فيها ولا باطل! ولا يمكن أن يوجد قلب بشري إلا وهو إما على حق وإما على باطل، ولا توجد أمة من الأمم إلا وهي إما على الحق وإما على الباطل، ولا توجد عقيدة من العقائد إلا وهي إما على الحق وإما على الباطل.. وهكذا إلى الأبد".
وقد أكد بنفس المحاضرة في فصل" الأمور التي يتم بها الانتصار على أعداء الإسلام" على:" أن هذه الأمة (الإسلامية) لا تؤتى إلا من قبل نفسها" وأن من الواجب:"أن نعرف عدونا، وأن نعرف مكره وخيانته ومخططاته، وأنهم كما بـيّن الله تبارك وتعالى من عداواتهم أنهم يظهرون لنا العداوات وهي ظاهرة وواضحة ولكن ما تخفي صدورهم أكبر وأعظم وأشد، وأنهم لا يألون جهداً ولا يرقبون فينا إلاً ولاذمة، وأنهم لا يريدون ولا يرضون منا إلا أن ننسلخ عن ديننا، وأن نصبح عبيداً رقيقاً لهم، سواء كانوا في الشرق أم في الغرب، من المنافقين أم من الأعداء الخارجين"
[2] أنظر مثلاً الى قول ناصر العمر في محاضرة بعنوان : أسباب تخلف المسلمين : " هؤلاء المستغربون نالوا الشهادات العالية من هنا وهناك، وجاءوا إلى بلاد المسلمين، واحتلوا فيها القيادة والمناصب والريادة، وقادوا المسلمين إلى التأخر والتقهقر.. يعيشون بيننا ويتكلمون بلغتنا، بل إن بعضهم قد يدخل إلى مساجدنا، ووالله إن هؤلاء أشد خطراً من المستشرقين. هؤلاء هم من الأسباب الرئيسية التي أوصلتنا إلى الوضع الذي نعيشه " . وفي شريط السكينة السكينة يقول - في نطاق حديثه عن حادثة قيادة مجموعة من النساء للسيارات في الرياض- : " رأيت ان الاعداء، ان العلمانيين بحرف ادق، ان المنافقين بمصطلح شرعي، في الوقت تصور فيه الكثير انهم عادوا على اعقابهم خاسرين بدؤوا يرصون صفوفهم وبدؤوا يكيدون المؤامرات وبدأت تخرج بعض اقوالهم واخطر من اقوالهم هي اعمالهم ".
[3] ص117& .
[4] معنى ذلك ان العودة كان مع التشهير بهن، مخالفاً بذلك الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله .
[5] وضع الدكتور غازي القصيبي في كتاب حتى لا تكون فتنة ص 116 صورة للمنشور.
[6] د.سفر الحوالي، العلمانية .. نشاتها وتطورهاوآثارها في الحياة الاسلامية المعاصرة، ص 236.
[7]د.سفر الحوالي، العلمانية .. نشاتها وتطورهاوآثارها في الحياة الاسلامية المعاصرة، ص 236 .
[8] الدكتور سفر الحوالي، ظاهرة الارجاء في الفكر الاسلامي، الجزء الاول، ص 30-31.
[9] الدكتور سفر الحوالي، ظاهرة الإرجاء في الفكر الاسلامي، الجزء الأول، ص 30-31.
كاتب سعودي
[email protected]
&