برز في الثمانينيات، كإحدى تداعيات الثورة الإسلامية في إيران، تيار فكري سعودي من داخل المنظومة الدينية، دعا إلى التوفيق بين طرفي معادلة صعبة: تبني الفكر الوهابي في مجال العقيدة،وفكر الإخوان المسلمين الذين استوطنوا المملكة إبان العهد الناصري، في مجال السياسة العملية.
وكان من المنطقي أن تترتب عن هذا "الاجتهاد التوفيقي" ردود فعل ، صدرت عن قناعات ومرجعيات مختلفة، من أهم نتائجها دخول المشايخ التقليديين المعترك الفكري،وخوضهم في أمور السياسة.
ويدور حاليا في المملكة السعودية، نقاش، بين من يسمون ب " الصحوين" نسبة إلى الصحوة الإسلامية الذين طوروا أفكارهم التي ظهروا بها في الثمانينيات، وبين من يطلق عليهم& نعت " الحداثيين" المتهمين من قبل التيار الأول بالهيمنة على مراكز التأثير الفكرية[ جمعيات، أندية , صحف...]
يحاول الكاتب سعود القحطاني في سلسلة المقالات التي تنشرها "إيلاف" تباعا ، عرض جانب من المشهد الثقافي في السعودية، يتجادل الفاعلون فيه حول قضايا ظلت مغيبة حينا من الدهر.
&
سعود القحطاني
&

&
توطئة:
في الثمانينات الميلادية ونتيجة للثورة الإيرانية وبعد حادثة جهيمان الشهيرة، ظهر نجم جديد في سماء الفكر السعودي يحب مريدوه أن يُطلق على تيارهم الجديد والقادم بسرعة الضوء اسم: تيار الصحوة الإسلامية، &بينما يصر المخالفون على تسميته باسم: التيار السروري[1]، ومنهم من يسميه تجاوزاً باسم: التيار القطبي[2].
كانت الميزة الرئيسة لهذا التيار تتلخص بالتوفيق بين طرفي معادلة لا توافق بينهما في الحقيقة، وهما : الفكر الوهابي في المجال العقدي والفكر الإخواني/القطبي في مجال العمل الواقعي. أو كما قال الباحث السعودي علي العميم في دراسته (مشايخنا ومشايخ الصحوة) التي نشرتها صحيفة إيلاف الالكترونية: "ولدت الفكرة السرورية في محاضن الصحوة والتي حافظت على التزمت الحنبلي الوهابي الشكلي من جهة، ومن جهة اخرى منحته ديناميكية سياسية واجتماعية وعقائدية"مع ملاحظة أن هذه المعادلة قد تتـغير متغيراتها بين الحين والآخر وذلك على ضوء تبدل الظروف، لذا لاحظنا أن المتغير الإخواني قد يتحول إلى متغير جديد هو المتغير القطبي والمنبثق في الأساس من العباءة الإخوانية. وهذا ماحصل بالفعل في فترات كثيرة من عمر الصحوة الإسلامية. وفي الآونة الأخيرة وبعد أن كثر الهجوم على الفكر الوهابي بالداخل والخارج في آنٍ واحد، لم يكن غريباً أن نشاهد في الصحويين من يحاول أن يقوم بإحلال متغير الإسلام الوسطي بدلاً من العقيدة الوهابية، حين كثر متربصوها، وظهر في الأفق جلياً أن هذه العقيدة لن يقدر لها مقاومة التحديات القادمة. والنموذج الأميز في ذلك هو الدكتور محسن العواجي المؤسس والمشرف على موقع منتدى"الوسطية"[3].
سياسياً كان الصحويون، ولا يزالون، كما يقول الباحث علي العميم: "يتبنون موقفاً سياسياً يمكن وصفه بأنه موال للجسم الديني للدولة السعودية (من الإمام محمد بن عبدالوهاب إلى الشيخ عبدالعزيز بن باز) وغير موال للجسم السياسي فيها منذ إعادة تأسيسها الثالث على يد المؤسس الكبير الملك عبدالعزيز آل سعود. بكلام آخر كانوا موالين لـ(الدعوة) وغير موالين لـ (الدولة) التي تمخضت عنها في الطور السعودي الثالث".
ويؤكد باحث سعودي آخر هو محمد بن عبداللطيف آل الشيخ، في مقالة في جريدة الحياة اللندنية، على أن الوهابيين التقليديين هم بناة الدولة وحماتها وذلك على عكس الصحويين، الذين هم دعاة لهدم الدولة وبنائها بشكل جديد ومختلف تماما، هذا ما يحلمون به ويأملون بتحقيقه. وبعبارة أخرى يمكن القول: إن التقليديين يطوعون النصوص لحماية الدولة وذلك على عكس الصحويين الذين يقومون بتطويع النصوص لهدمها[4].
ولايفوتنا هنا أن نؤكد على قضية هامة ورئيسة وهي أن الكلام في أمور السياسة وبشكل مفصل وجريء،لم يكن معهوداً بالسابق من قبل المشايخ التقليديين، والذين وإن تكلموا في هذه الأمور فهم إنما يتكلمون فيها بناءاً على موقف الدولة العام من الأحداث السياسية. ولكن مشايخ الصحوة كسروا هذه القاعدة وبنوا لأنفسهم جماهيرية كبيرة بتبنيهم لمثل هذا الطرح غير المألوف.
ويلاحظ على التيار الصحوي بصورة عامة تشدده الكامل بما يحب البعض أن يسميه بإسلام المظاهر (الإسلام القشري) وهم بهذا وكما قال العميم يمثلون: " تجسيداً عملياً اجتماعياً وثقافياً لمسائل أساسية ومهمة في نص العلماء والمشايخ التقليديين النظري وفي ممارساتهم العملية". وضرب الباحث مثالاً ببعض المسائل المهمة في التدين الوهابي الحنبلي (التقليدي) ومن هذه الأمثلة التي طرحها: إعفاء اللحية، وكراهية إسبال الثياب لغير الخيلاء، وقال: إن هذه المسائل أساسية ومهمة في التدين الصحوي، وشدد على أن الصحويين قد غالوا في بعضها، وضرب مثالاً بتحريم الصحويين لمس اللحية بعد أن كان جائزاً في السابق أخذ ما يتعدى قبضة الكف، واعتبارهم لإسبال الثياب والذي كان مكروهاً فيما سبق أمراً محرماً، بل إنهم زادوا في مسائل أخرى ذكر منها لبس المرأة القفازين في يديها وغير ذلك.
وهذا التمسك الشديد بالإسلام القشري رتب كراهية شديدة وعداءً متواصلاً بين التيار الصحوي والتيار الحداثي في البلاد، وسنحت للصحويين فرصة كبيرة بتسديد ضربتهم الموجعة للحداثيين السعوديين عن طريق أحد مشايخهم الجدد في ذلك الحين- وهو الدكتور عوض القرني، والذي ألف كتاباً كان عنوانه (الحداثة في ميزان الإسلام). والكتاب، وكما هو واضح من عنوانه، يهدف إلى محاكمة الحداثيين وتيارهم محاكمة دينية صارمة على غرار محاكم التفتيش في العصور الوسطى. وكان من الواضح أن لا مجال للحداثيين في أن يكسبوا مثل هذه الحرب وخصوصاً إن الحكم فيها هو الخصم نفسه، ومن هنا فلا غرابة في أن تكون محاكمة الحداثيين في كتاب القرني محاكمة صورية بحتة، نتائجها معروفة قبل قراءة الكتاب ومعرفة محتواه. ومن هنا تزول الغرابة التي قد تواجه القارىء حين يقرأ على سبيل المثال في مقدمة الكتاب: "أن الصراع مع الحداثة ـأولاً وأخيراًـ صراع عقائدي بحت"[5].
ويقول الكاتب في مكان آخر من الكتاب نفسه: "ومما يؤكد لنا حرب الحداثة للإسلام والأصالة وعدم وجود أي رابط بينها وبين ماضينا ومجدنا وتاريخنا، خلو جميع إنتاجها الأدبي والفكري من أي إشارة إلى القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح، إلا ما كان من باب الطعن والغمز واللمز، مع اكتفائها برموز الوثنية والإلحاد القديمة والمعاصرة"[6].
وفي الحقيقة فإن الكاتب قد أشار في مقدمته إلى خشيته من تغلغل المحسوبين على التيار الحداثي في الصحف والنوادي والجمعيات الأدبية، أو كما هو النص بعبارته: "الحداثيين سيطروا على كثير من الأقسام الثقافية في الصحافة المحلية وتغلغلوا في غيرها من النوادي الأدبية والأندية الرياضية وفروع جمعيات الثقافة والفنون"[7].
ومن المعلوم أن السماح لأي تيار مغاير للصحويين بالتعبير عن آرائه بشكل قد يدفع العامة لمتابعته، أمر مرفوض في سياسة الصحويين العليا بشكل كلي وتام، لذا فقد كان هذا الكتاب حتمياً لإلغاء هذه الهيمنة الحداثية على الوسط الثقافي السعودي، و إحلال السطوة الصحوية بدلاً عنها.
&
الهوامش:
[1] نسبة إلى: محمد سرور بن نايف زين العابدين، يقول علي العميم :"محمد سرور كان سيد قطبي وسلفياً في آن، وكان يرى ان ماينقص السلفية هو ان تكون مسيسة وثورية . وفكر سيد قطب كان يتكفل بهذه المهمة".
[2] كان دخول الأخوان المسلمين الى المملكة العربية السعودية في الفترة الناصرية، وذلك حين ساءت العلاقات بين المملكة ومصر، فكان إستقطابهم الى المملكة لظروف سياسية بحتة. والحقيقة ان دخولهم أحدث تغييرا كبيرا في الفكر الديني السعودي، وذلك نتيجة الحركية الكبيرة التي يتمتع بها الأخوان .
وقد "أطلق وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز مؤخرا تصريحات مثيرة بشأن أسباب التطرف في العالم الإسلامي ومنابعه. وأنحى الأمير نايف باللائمة بشكل رئيسي على جماعة الإخوان المسلمين محملا إياها المسؤولية في معظم ما يعاني منه العالم الإسلامي من عنف وتطرف، قائلا إن الإخوان هم أصل البلاء ومصدر كل المشكلات " - من مقال للكاتب الأمريكي غراهام فولر، منشور في موقع قناة الجزيرة بتاريخ 6/12/2002
[3] أنظر على سبيل المثال قول الدكتور محسن العواجي في مقابلة لقناة الجزيرة عبر برنامج بلا حدود بتاريخ 5 / 11 / 2003 "الفكر الوهابي المتشدد الذي يجب علينا كلنا أن ننأى بأنفسنا عنه الآن" . وقوله في نفس المقابلة : "الفكر الوهابي لا يصلح أن يكون فكراً لدولة حديثة مركزية مثل المملكة العربية السعودية قلب العالم الإسلامي لا يصلح إطلاقاً" . بل انه حمل الفكر الوهابي مسئولية العنف في بلاد الحرمين وفي ذلك تبرئه غير مباشرة للتيار الصحوي الذي يمثله . أنظر الى قوله في نفس المقابلة المشار اليها : "حتى لا أتهم بأني يعني أعطي الكلام على عواهنه، أنا حينما أقول إن هؤلاء الشباب(= الارهابيين) الذين في نهاية الأمر تبنوا العنف ينطلقون من أفكار هي أصلاً موجودة في الفكر الوهابي".
[4] محمد بن عبداللطيف ال الشيخ، بن لادن ودعوة محمد بن عبدالوهاب: التضاد، جريدة الحياة، العدد: 14245، تاريخ: 21-03-2002، تم نقل العبارة بتصرف، والعبارة بصيغتها الأصلية: "يمكن القول في منتهي العلمية إن الوهابيين علي مرّ مراحلهم التاريخية كانوا بناة دولة ومن ثم حماتها، بينما نجد الثوريين الإسلاميين المعاصرين، بمن فيهم أسامة بن لادن، هم دعاة ثورة وانقلاب".
[5] د.عوض القرني, الحداثة في ميزان الاسلام, ص 4
[6] د.عوض القرني, مرجع سابق, ص 33
[7] د.عوض القرني, مرجع سابق, ص4
&
كاتب سعودي
[email protected]