سعدا لله حرب
&
لا أظن أحدا ينكر أن الحكام القمعيون، قادرون على إقناع شعوبهم بكل سهولة ويسر أن الشمس تشرق من الغرب، وتغرب في الشرق، وأن الأسود أبيض، والأبيض أسود، وقادرون بالسهولة نفسها التحكم في مصائر هذه الشعوب، وإعادة تشكيلها، ورسم حركتها ومسارها ومستقبلها، ولا أدل على ذلك ما فعله الرئيس غورباتشوف - بغض النظر عن صواب أو خطأ ما قام به - ف (بشخطة قلم) استطاع تفتيت الاتحاد السوفييتي، أعتى الأنظمة القمعية وثاني قوة دولية كانت موجودة في القرن العشرين وبقيت قائمة لأكثر من سبعين عاما، وتحويلها من دولة عظمى تتحكم في قضايا الحرب والسلم العالمي، وسياسة ومقدرات الدول والشعوب، إلى دولة هامشية تهزأ بها الدويلات التي كانت ملحقة بها وفي قبضتها، وتتحالف مع ألد أعدائها ضدها. و(بشخطة قلم) أيضا قاد هتلر شعبه وبلده إلى الموت والخراب والدمار دون أن يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه أو معارضته.
فإذا كانت هكذا سطوة الحكام على شعوبهم في البلاد الأوروبية، فكيف هي الحال إذن في المجتمعات القبلية الرعوية التي تقمعها ثقافتها قبل حكامها، وتكبلها أعرافها وعاداتها وتقيد حركتها وتثبت تبعيتها لسيدها، وتقف سدا منيعا ضد تحررها وانعتاقها وتطلعاتها، وتبقي عليها خارج الزمان والمكان، داخل شرنقتها، أسيرة مفاهيمها، غريبة بعيدة عن روح العصر وعلومه وإبداعاته.
إن العادات والتقاليد في المجتمعات البدوية الرعوية أن يبقى شيخ العشيرة سيدا لها ما دام حيا، يليه في مشْيخته ولده أو أخوه، ومن أكبر الكبائر التعدي على هذا العرف الذي ما لبث أن اكتسب مشروعية أخرى إضافية هي المشروعية الدينية الإلهية التي دعتْ الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان أن يطلق في وجه معارضيه الذين طالبوا بخلعه، مقولته الشهيرة: (لا أخلع ثوبا ألبسنيه الله) ناكرا على (الرعية الغوغاء) حقهم ورغبتهم في عزله وتنحيته، وكيف لا، وفي ظنه أنه استمد هذه السلطة الأبدية من الله عز وجل، فهو خليفة النبي (ص) الذي أرسله الله سبحانه وتعالى وثبته رسولا وبشيرا وهاديا ونذيرا للناس كافة وأمرهم بطاعته، إضافة إلى أن حقه في الحكم الأبدي ثابت أيضا بموجب العادات والأعراف البدوية السائدة، التي يتمسك ويرضخ لها الجميع.
ومن هذه الأعراف والتقاليد البدوية استمد معاوية حقه في تسمية ولده يزيد وليا للعهد، يزيد الذي أجبر الناس في المدينة - بعد موقعة الحرة التي قُتل فيها أربعة آلاف نسمة وفُضت فيها بكارة ألف بكر أن يبايعوه على أن يكونوا عبيدا له يتحكم في أموالهم وأبناءهم ورقابهم، ويُقطع رأس كل من كان يكتفي بالقول إني أبايع على سنة الله ورسوله.
ومنذ ذلك الحين أصبح الحاكم سيدا مطاعا يستمد شرعيته ونفوذه، أولاً : من المفاهيم الثقافية (القبلية الدينية)، وثانيا : مما يملكه من أدوات السلطة والبطش، وصار الناس في كل صلاة جمعة يرجون الله أن يطيل عمر حاكمهم ويديم سلطته ويزيد قوته ويعزز دولته، فصار بذلك قادرا على إقناع الناس بالذي يراه مناسبا.
لقد هدر العقيد القذافي مليارات الدولارات لحل قضية لوكربي التي تسبب بها شخصيا كما هدر مليارات الدولارات على أسلحة الدمار الشامل التي سيتلفها لاحقا، وفي كلا الحالتين - حالة تفجير الطائرة واقتناء السلاح غير التقليدي وحالة دفع التعويضات وإتلاف الأسلحة اقتنع أو أقنع شعبه بصواب عمله، وحظي بالهتاف والتشجيع والتصفيق.
إن المحير في الأمر أن هؤلاء الحكام، وهم الأكثر وعيا لمشاكل شعوبهم وبلدانهم، يعرفون مكامن الداء والدواء، وأكثر فهما وإدراكا لأسباب نهضتهم وتقدمهم، قادرون على وضع الحلول والقوانين التي تنتشل هذه الشعوب من هوتها وأنفاقها، وفرضها وحمايتها وإقناع الناس بها بقوة السلطة ورجال الأمن، ومع ذلك لا يحركون ساكنا ولا يتحركون.
إنهم قادرون مثلا دون خوف من أحد - على إقرار الزواج المدني، وإصدار القوانين التي تساوي بين الجنسين، وقادرون على محاربة الفساد، وتكريس مبدأ من أين لك هذا، وتفعيل وزارة العدل، وإشاعة العمل الجماعي، وتثبيت دور المؤسسات، وعلى إجبار الناس على احترام وقبول الآخر، وبما أنهم متهمون من قبل المتشددين والسلفيين بالخروج عن الدين الذي يفصلون بينه وبين السياسة في حكمهم كما فعل غيرهم منذ معاوية حتى الآن، فلمَ لا يضمّنون دساتير بلادهم مادة صريحة تنص على الفصل بين الدين والدولة؟ ومادة أخرى تعاقب على الكذب، ويحاربون العشائرية والتعصب والغيبية والتقليد الأعمى للسلف، ويبدلون المناهج التربوية والتعليمية، وينشرون الثقافة الديمقراطية، فيدخلون التاريخ من أوسع أبوابه، ويذكرهم في أبرز صفحاته، ويكتبهم بأحرف من نور: أنهم انتشلوا شعوبهم من غياهب سجونهم وجهلهم وتخلفهم ومفاسدهم.
التعليقات