دافيد كورن&
&
ترجمة وتعليق
دكتور زهير عبد الملك
&
دكتور زهير عبد الملك
&
&رجلان أقحما الكرد بالعراق
عندما ألحق الإنجليز بلاد الكرد في ولاية الموصل العثمانية بالدولة العراقية، التي أقاموها بعد الحرب العالمية الأولى، فعلوا، بكل تأكيد، ما يمكن اعتباره واحدا من أكبر الأخطاء في التاريخ. وقد تسبب القرار الذي يقضي بإقحام الكرد في صفقة سياسية واحدة مع عرب بغداد والبصرة، خسائر جسيمة للطرفين في العقود التالية.
فقد ثار الكرد في العشرينات والأربعينات والتينات والسبعينات والثمانينات، الأمر الذي قوض الاستقرار السياسي في الدولة العرقية واستنزاف مواردها. وتحمل الكرد تضحيات جسيمة ومعاناة هائلة بسبب أعمال القمح الوحشي التي قامت بها الحكومة العراقية أثناء السبعينات وحملات الإبادة التي نفذتها ضدهم في الثمانينات. وتعتبر الإدارة الكردية القائمة منذ صيف 1990 بحكم المواقع، ما دامت المنطقة مازالت تدعى بشمال العراق، دليلا على رفض الكرد لقرار لم يتخذوه بأنفسهم، وإنما اتخذه موظفان بريطانيان نيابة عنهم قبل زهاء ثمانية عقود من السنين.
فكيف تم إلحاق الكرد بالعراق؟
من المؤكد أن هذه القصة هي من أغرب ما في سجلات الاستعمار البريطاني. وهي تتلخص في أن اثنين من كبار موظفي الخدمة المدنية العاملين في المستعمرات البريطانية: بيرسي كوكس وأرنولد ت.ولسن هما اللذان فرضا ارادتيهما ليس على المجتمع الكردي المطالب بحقوقه فحسب، بل وعلى حكومتهما المترددة. وفي هذه المغامرة كان كوكس هو الرئيس، وويلسن أينما وردت نائبه وتابعه المطيع.
ويبدو السير بيرسي كوكس، في الصورة الفوتوغرافية الملحقة بسيرة حياته، رجلا طويل القامة متميزا وصارم الملامح وله كامل صفات الأشخاص المهمين آنذاك. وكان كوكس موظفا بارزا من بين صفوة العاملين في قسم الخدمات الخارجية والسياسية لحكومة الهند البريطانية. وبعد أن تقلد رتبة ضابط عام 1884 خدم فترة قصيرة في فوج بريطاني في الهند. وبعد ذلك نجح في الانتقال إلى وزارة الشؤون الخارجية والسياسية حيث أمضى 30 عاما في فرض السلطة البريطانية على الشعوب الخاضعة للعرش البريطاني في إمبراطورية الشرق، ثم نقل إلى الصومال البريطاني وبعدها إلى مسقط ثم إلى إيران حيث أصبح مقيما سياسيا في منطقة الخليج مسؤولا عن رعاية المصالح البريطانية على الضفتين العربية والإيرانية لذلك الممرر المائي.
وخلال هذه الفترة درس كوكس اللغة العربية واكتسب شهرة، لطلاقته فيها، تلك الشهرة التي لم يكن له مبرر على الإطلاق. كان كوكس شخصا موهوبا وموظفا متفانيا. لكنه كان يخفي وراء هذا التواضع ونكران الذات شخصية المتلهف للسلطة والقادر على استخدامها بعنف.
وفي عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914-1918 كان كوكس يشغل منصب سكرتير الشؤون الخارجية في حكومة الهند. وعندما طلبت لندن من السلطات البريطانية في الهند إرسال حملة عسكرية إلى مدخل الخليج لمنع أي هجوم تركي محتمل على حقول النفط البريطانية في إيران وفي محميتها الكويت، أعرب كوكس عن تحفظاته في بادية الأمر ثم سرعان ما أصبح نصيرا متحمسا للمشروع. إذ التحق بالحملة بوظيفة رئيس للمستشارين السياسيين، وهي وظيفة جعلته، من بين أمور أخرى، مسؤولا عن إقامة الإدارة المدنية في الأقاليم التي تحتلها القوات البريطانية وعن تسيير شؤونها. وقد زار منطقة شط العرب بصحبة لواء من القوات الهندية البريطانية التي نزلت في الفاو عند الطرف الجنوبي للشط في 15/11/1914.
وبعد اشتباكات على نطاق محدود نجح البريطانيون في صد القوات التركية واحتلوا الميناء الرئيسي لمدينة البصرة. ومن هناك تحركوا عشرات الأميال صوب الشمال فوصلوا إلى القرنة وفيها توقفوا. ولكي يواصلوا مسيرتهم كان لابد من تعزيزات لم يكن توافرها سهلا إذ لم يكن الموظفون المسؤولون لا في لندن ولا في الهند، متأكدين من رغبتهم في الحفاظ على موطئ قدم صغير مثل هذا في القرنة.
&
ولكن نظرا لأن الأتراك واصلوا تهديدهم لحقول النفط الإيرانية فقد أرسل البريطانيون تعزيزات عسكرية من الهند. وبحلول 1916 زاد حجم هذه القوة البريطانية إلى فرقتين عسكريتين. وآنذاك بدأت القوات البريطانية تتحرك شيئا فشيئا صوب الشمال. وفي بداية نفس العام شنت هذه القوات هجوما طموحا للتقدم نحو بغداد، إلا أن محاولتها هذه سببت لها كارثة.
ففي أبريل/نيسان تمكنت القوات التركية من محاصرة قوة بريطانية تعدادها 600 11 رجل في القوت، وهي مدينة صغيرة تقع على نهر دجلة، على بعد 200 ميل جنوبي بغداد وأجبرتها على الاستسلام، وبعد هذه الهزيمة النكراء أصبحت القيادة البريطانية العامة مستعدة للتخلي عن خطط احتلال بغداد وانسحبت إلى خط دفاعي بالقرب من البصرة ومن حقول النفط الإيرانية. لكن كوكس عارض بشدة، هذا الانسحاب. إذا غالبا ما يوجه موظفو الإدارة الاستعمارية أنظارهم بصفة دائمة نحو الحدود التالية، ولا يشذ في ذلك عنهم كوكس. فقد كان في مقدمة المؤيدين للخطط السابقة بالتحرك نحو احتلال بغداد، وكان مقتنعا، منذ البداية، بفكرة أن الاحتفاظ بالبصرة والسيطرة على حقول النفط لا يتمان إلا باحتلال بغداد. وأصبح الآن أكثر اقتناعا بذلك من أي وقت مضى.
ربح كوكس الرهان، حيث دخلت القوات البريطانية بغداد يوم 11/3/1917، وسرعان ما عمل كوكس على إنشاء إدارة مدنية فعالة للولاية وللمدينة التي أضحت مقرا لحكومتها، ونجح آنذاك في اجتذاب العديد من رؤساء القبائل من شرق الجزية العربية وجنوب بلاد ما بين النهرين إلى جانب الحلفاء، وحقق بذلك إنجازا يعتبر، من جميع النواحي، معادلا، إن لم يزد، على نجاح لورنس في غرب الجزيرة العربية، ولكنه على خلاف لورنس، (الذي لم تنل خططه إعجاب كوكس) كان يكره الدعاية.
أخذ كوكس بعد أن أصبحت بغداد تحت سيطرته، يتطلع شمالا نحو الموصل. وكانت فكرة قيام كيان جديد يمتد من مدخل الخليج إلى جبال طوروس، ويضم الولايات العثمانية الثلاث (البصرة وبغداد والموصل) قد اتخذت شكلا محدودا في تصوراته. حيث يكون هذا الكيان الجديد بمثابة إضافة منطقية إلى الإمبراطورية البريطانية المترامية الأطراف، ويشكل نقطة ارتباط مهمة على الخط الجوي بين أوروبا والهند، وتكملة لمركز بريطانيا في مصر، والممتلكات الجديدة التي من المتوقع الاستحواذ عليها في فلسطين، وحصنا للنفوذ البريطاني في إيران، ومزرعة لإنتاج الحبوب.
وعلى الرغم من أن الأراضي الواقعة بين دجلة والفرات قد تدهورت حالتها إلى مستويات متدنية جدا بظل العثمانيين، فقد ظل الاعتقاد سائدا بأن هذه الأراضي ذات إمكانيات زراعية هائلة.
&وكان هناك شئ مغر آخر، يدركه البريطانيون ولكنهم يتعاملون معه كأنه سر بغيض، يتجنبون ذكره إلا ما ندر حتى في مراسلاتهم السرية: إلا وهو النفط، فقد كانت المنطقة المجاورة لكركوك معروفة بوجود النفط فيها، وكانت كميات كبيرة من المادة اللزجة السوداء تترشح على سطح الأرض يجمعها الكرد ويستخدمونها للوقود. ومن الصحيح أن أحدا لم يكن قد نقب في هذه المنطقة (أو سيفعل ذلك قبل حلول 1927)، إلا أن جميع المبررات كانت متوافرة للاعتقاد بأن في ولاية الموصل مستودعات غنية. فالأسطول البريطاني، يتحرك بالنفط، في حين معظم مصادر النفط خارج سيطرة بريطانيا، أي في الولايات المتحدة والمكسيك ورومانيا وروسيا.
وكان البريطانيون متلهفون للحصول على مصادر للإمدادات تابعة لهم، وكانت حقول ولاية الموصل بمثابة مصدر إضافي مهم للنفط. وكانت بريطانيا قد بدأت في استخراج النفط من بلاد فارس في فترة سبقت نشوب الحرب بسنوات قليلة ناهيك عن رغبة بريطانيا في أن تصبح مكتفية ذاتيا، وكان هذا بدوره سببا قويا لضم ولاية الموصل ذات الأغلبية الكردية الساحقة إلى الولايتين العربيتين في بغداد والبصرة، ذلك لأن لندن تنتظر من المستعمرات تسديد ما يترتب على إدارتها من تكاليف.
وكان من المقرر جعل الكيان الجديد (أي الدولة العراقية الجديدة) ومن وجهة نظر كوكس ونائبه الكولونيل أرنولد ولسن، محمية بريطانية، غير أن السلطات في لندن كانت، على ما يبدو، تستهدي بأفكار أخرى. ففي أبريل/نيسان 1917 علم كوكس أن حكومته تنوي وضع البصرة تحت الإدارة البريطانية المباشرة، وتحويل ولاية بغداد إلى دولة عربية برئاسة حاكم محلي تحت النفوذ البريطاني، وإنشاء منطقة مستقلة للمناطق الشيعية المقدسة في كربلاء والنجف تحت السيطرة البريطانية، وإزاء هذه الحالة، تحرك كوكس بسرعة للالتفاف على هذه الخطة، وأبرق إلى لندن قائلا: "إن محالة إدارة ولايتي البصرة وبغداد، وهما غير قابلتين للانفصال في أي حال من الأحوال، على أسس متضاربة ومبادئ متنافرة، سيؤدي إلى إلحاق الضرر بمصالح جميع الجهات المعنية".
وهكذا ربح كوكس الرهان مرة أخرى، فقد ألغيت فكرة إنشاء حكومتين منفصلتين في بغداد والبصرة، وألغى تعيين حاكم عربي على بغداد. كما تقرر إخضاع الولايتين لحكومة واحدة يديرها، بطبيعة الحال كوكس نفسه.
&
&
احتلال إقليم جنوب كردستان
عندما ألحق الإنجليز بلاد الكرد في ولاية الموصل العثمانية بالدولة العراقية، التي أقاموها بعد الحرب العالمية الأولى، فعلوا، بكل تأكيد، ما يمكن اعتباره واحدا من أكبر الأخطاء في التاريخ. وقد تسبب القرار الذي يقضي بإقحام الكرد في صفقة سياسية واحدة مع عرب بغداد والبصرة، خسائر جسيمة للطرفين في العقود التالية.
فقد ثار الكرد في العشرينات والأربعينات والتينات والسبعينات والثمانينات، الأمر الذي قوض الاستقرار السياسي في الدولة العرقية واستنزاف مواردها. وتحمل الكرد تضحيات جسيمة ومعاناة هائلة بسبب أعمال القمح الوحشي التي قامت بها الحكومة العراقية أثناء السبعينات وحملات الإبادة التي نفذتها ضدهم في الثمانينات. وتعتبر الإدارة الكردية القائمة منذ صيف 1990 بحكم المواقع، ما دامت المنطقة مازالت تدعى بشمال العراق، دليلا على رفض الكرد لقرار لم يتخذوه بأنفسهم، وإنما اتخذه موظفان بريطانيان نيابة عنهم قبل زهاء ثمانية عقود من السنين.
فكيف تم إلحاق الكرد بالعراق؟
من المؤكد أن هذه القصة هي من أغرب ما في سجلات الاستعمار البريطاني. وهي تتلخص في أن اثنين من كبار موظفي الخدمة المدنية العاملين في المستعمرات البريطانية: بيرسي كوكس وأرنولد ت.ولسن هما اللذان فرضا ارادتيهما ليس على المجتمع الكردي المطالب بحقوقه فحسب، بل وعلى حكومتهما المترددة. وفي هذه المغامرة كان كوكس هو الرئيس، وويلسن أينما وردت نائبه وتابعه المطيع.
ويبدو السير بيرسي كوكس، في الصورة الفوتوغرافية الملحقة بسيرة حياته، رجلا طويل القامة متميزا وصارم الملامح وله كامل صفات الأشخاص المهمين آنذاك. وكان كوكس موظفا بارزا من بين صفوة العاملين في قسم الخدمات الخارجية والسياسية لحكومة الهند البريطانية. وبعد أن تقلد رتبة ضابط عام 1884 خدم فترة قصيرة في فوج بريطاني في الهند. وبعد ذلك نجح في الانتقال إلى وزارة الشؤون الخارجية والسياسية حيث أمضى 30 عاما في فرض السلطة البريطانية على الشعوب الخاضعة للعرش البريطاني في إمبراطورية الشرق، ثم نقل إلى الصومال البريطاني وبعدها إلى مسقط ثم إلى إيران حيث أصبح مقيما سياسيا في منطقة الخليج مسؤولا عن رعاية المصالح البريطانية على الضفتين العربية والإيرانية لذلك الممرر المائي.
وخلال هذه الفترة درس كوكس اللغة العربية واكتسب شهرة، لطلاقته فيها، تلك الشهرة التي لم يكن له مبرر على الإطلاق. كان كوكس شخصا موهوبا وموظفا متفانيا. لكنه كان يخفي وراء هذا التواضع ونكران الذات شخصية المتلهف للسلطة والقادر على استخدامها بعنف.
وفي عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914-1918 كان كوكس يشغل منصب سكرتير الشؤون الخارجية في حكومة الهند. وعندما طلبت لندن من السلطات البريطانية في الهند إرسال حملة عسكرية إلى مدخل الخليج لمنع أي هجوم تركي محتمل على حقول النفط البريطانية في إيران وفي محميتها الكويت، أعرب كوكس عن تحفظاته في بادية الأمر ثم سرعان ما أصبح نصيرا متحمسا للمشروع. إذ التحق بالحملة بوظيفة رئيس للمستشارين السياسيين، وهي وظيفة جعلته، من بين أمور أخرى، مسؤولا عن إقامة الإدارة المدنية في الأقاليم التي تحتلها القوات البريطانية وعن تسيير شؤونها. وقد زار منطقة شط العرب بصحبة لواء من القوات الهندية البريطانية التي نزلت في الفاو عند الطرف الجنوبي للشط في 15/11/1914.
وبعد اشتباكات على نطاق محدود نجح البريطانيون في صد القوات التركية واحتلوا الميناء الرئيسي لمدينة البصرة. ومن هناك تحركوا عشرات الأميال صوب الشمال فوصلوا إلى القرنة وفيها توقفوا. ولكي يواصلوا مسيرتهم كان لابد من تعزيزات لم يكن توافرها سهلا إذ لم يكن الموظفون المسؤولون لا في لندن ولا في الهند، متأكدين من رغبتهم في الحفاظ على موطئ قدم صغير مثل هذا في القرنة.
&
ولكن نظرا لأن الأتراك واصلوا تهديدهم لحقول النفط الإيرانية فقد أرسل البريطانيون تعزيزات عسكرية من الهند. وبحلول 1916 زاد حجم هذه القوة البريطانية إلى فرقتين عسكريتين. وآنذاك بدأت القوات البريطانية تتحرك شيئا فشيئا صوب الشمال. وفي بداية نفس العام شنت هذه القوات هجوما طموحا للتقدم نحو بغداد، إلا أن محاولتها هذه سببت لها كارثة.
ففي أبريل/نيسان تمكنت القوات التركية من محاصرة قوة بريطانية تعدادها 600 11 رجل في القوت، وهي مدينة صغيرة تقع على نهر دجلة، على بعد 200 ميل جنوبي بغداد وأجبرتها على الاستسلام، وبعد هذه الهزيمة النكراء أصبحت القيادة البريطانية العامة مستعدة للتخلي عن خطط احتلال بغداد وانسحبت إلى خط دفاعي بالقرب من البصرة ومن حقول النفط الإيرانية. لكن كوكس عارض بشدة، هذا الانسحاب. إذا غالبا ما يوجه موظفو الإدارة الاستعمارية أنظارهم بصفة دائمة نحو الحدود التالية، ولا يشذ في ذلك عنهم كوكس. فقد كان في مقدمة المؤيدين للخطط السابقة بالتحرك نحو احتلال بغداد، وكان مقتنعا، منذ البداية، بفكرة أن الاحتفاظ بالبصرة والسيطرة على حقول النفط لا يتمان إلا باحتلال بغداد. وأصبح الآن أكثر اقتناعا بذلك من أي وقت مضى.
ربح كوكس الرهان، حيث دخلت القوات البريطانية بغداد يوم 11/3/1917، وسرعان ما عمل كوكس على إنشاء إدارة مدنية فعالة للولاية وللمدينة التي أضحت مقرا لحكومتها، ونجح آنذاك في اجتذاب العديد من رؤساء القبائل من شرق الجزية العربية وجنوب بلاد ما بين النهرين إلى جانب الحلفاء، وحقق بذلك إنجازا يعتبر، من جميع النواحي، معادلا، إن لم يزد، على نجاح لورنس في غرب الجزيرة العربية، ولكنه على خلاف لورنس، (الذي لم تنل خططه إعجاب كوكس) كان يكره الدعاية.
أخذ كوكس بعد أن أصبحت بغداد تحت سيطرته، يتطلع شمالا نحو الموصل. وكانت فكرة قيام كيان جديد يمتد من مدخل الخليج إلى جبال طوروس، ويضم الولايات العثمانية الثلاث (البصرة وبغداد والموصل) قد اتخذت شكلا محدودا في تصوراته. حيث يكون هذا الكيان الجديد بمثابة إضافة منطقية إلى الإمبراطورية البريطانية المترامية الأطراف، ويشكل نقطة ارتباط مهمة على الخط الجوي بين أوروبا والهند، وتكملة لمركز بريطانيا في مصر، والممتلكات الجديدة التي من المتوقع الاستحواذ عليها في فلسطين، وحصنا للنفوذ البريطاني في إيران، ومزرعة لإنتاج الحبوب.
وعلى الرغم من أن الأراضي الواقعة بين دجلة والفرات قد تدهورت حالتها إلى مستويات متدنية جدا بظل العثمانيين، فقد ظل الاعتقاد سائدا بأن هذه الأراضي ذات إمكانيات زراعية هائلة.
&وكان هناك شئ مغر آخر، يدركه البريطانيون ولكنهم يتعاملون معه كأنه سر بغيض، يتجنبون ذكره إلا ما ندر حتى في مراسلاتهم السرية: إلا وهو النفط، فقد كانت المنطقة المجاورة لكركوك معروفة بوجود النفط فيها، وكانت كميات كبيرة من المادة اللزجة السوداء تترشح على سطح الأرض يجمعها الكرد ويستخدمونها للوقود. ومن الصحيح أن أحدا لم يكن قد نقب في هذه المنطقة (أو سيفعل ذلك قبل حلول 1927)، إلا أن جميع المبررات كانت متوافرة للاعتقاد بأن في ولاية الموصل مستودعات غنية. فالأسطول البريطاني، يتحرك بالنفط، في حين معظم مصادر النفط خارج سيطرة بريطانيا، أي في الولايات المتحدة والمكسيك ورومانيا وروسيا.
وكان البريطانيون متلهفون للحصول على مصادر للإمدادات تابعة لهم، وكانت حقول ولاية الموصل بمثابة مصدر إضافي مهم للنفط. وكانت بريطانيا قد بدأت في استخراج النفط من بلاد فارس في فترة سبقت نشوب الحرب بسنوات قليلة ناهيك عن رغبة بريطانيا في أن تصبح مكتفية ذاتيا، وكان هذا بدوره سببا قويا لضم ولاية الموصل ذات الأغلبية الكردية الساحقة إلى الولايتين العربيتين في بغداد والبصرة، ذلك لأن لندن تنتظر من المستعمرات تسديد ما يترتب على إدارتها من تكاليف.
وكان من المقرر جعل الكيان الجديد (أي الدولة العراقية الجديدة) ومن وجهة نظر كوكس ونائبه الكولونيل أرنولد ولسن، محمية بريطانية، غير أن السلطات في لندن كانت، على ما يبدو، تستهدي بأفكار أخرى. ففي أبريل/نيسان 1917 علم كوكس أن حكومته تنوي وضع البصرة تحت الإدارة البريطانية المباشرة، وتحويل ولاية بغداد إلى دولة عربية برئاسة حاكم محلي تحت النفوذ البريطاني، وإنشاء منطقة مستقلة للمناطق الشيعية المقدسة في كربلاء والنجف تحت السيطرة البريطانية، وإزاء هذه الحالة، تحرك كوكس بسرعة للالتفاف على هذه الخطة، وأبرق إلى لندن قائلا: "إن محالة إدارة ولايتي البصرة وبغداد، وهما غير قابلتين للانفصال في أي حال من الأحوال، على أسس متضاربة ومبادئ متنافرة، سيؤدي إلى إلحاق الضرر بمصالح جميع الجهات المعنية".
وهكذا ربح كوكس الرهان مرة أخرى، فقد ألغيت فكرة إنشاء حكومتين منفصلتين في بغداد والبصرة، وألغى تعيين حاكم عربي على بغداد. كما تقرر إخضاع الولايتين لحكومة واحدة يديرها، بطبيعة الحال كوكس نفسه.
&
&
احتلال إقليم جنوب كردستان
&وبعد أن استولى الإنجليز على بغداد، تحولت استراتيجيتهم نحو الدفاع. بيد أن ذلك يدم طويلا، ففي ربيع 1918 اندفعت قواتهم نحو الشمال واحتلت مدينة كركوك، لكن هذه الحركة جاءت قبل الأوان. فقد اضطرت هذه القوات إلى التراجع تحت ضغط القوات العثمانية. وفي هذا الوضع المتأزم، أخرج كوكس من مسرح الأحداث، حيث استدعى على عجل لتولي مسؤولية المفوضية البريطانية في طهران حيث تطورت أوضاع تهدد المصالح البريطانية وخلفه في وظيفته نائبه ولسن.
&وكان أرنولد ولسن رجلا نحيفا متوسط القامة، وأصغر عمرا من كوكس. وكان، شأن كوكس، موظفا في حكومة الهند البريطانية، ولعله كان أكثر تمسكا من بيرسي كوكس بمبادئ أولئك الذين صنعوا وأشرفوا على إدارة الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية. وكان ولسن على يقين من أنه خير من يدرك ما فيه الخير لأبناء المنطقة. وكان مقتنعا بأنهم غير قادرين على إدارة شؤونهم، وأنهم يفضلون (أو يفكر العاقلون منهم على الأقل) أن يحكمهم البريطانيون بكفاءة من أن يحكمهم أبناء بلدهم بغير كفاءة. وكان التفكير بقيام حكم محلي ذاتي يعد، من وجهة نظر ولسن، بدعة خطرة.
&وقد وضع ولسن، شأن كوكس، نصب عينيه التقدم نحو مواقع متقدمة. فأخذ يلح على ضرورة التقدم شمالا لاحتلال كركوك والاستيلاء على الموصل. وقبل نهاية الحرب بفترة طويلة كتب ولسن "لقد أوضحت.... أن من الضروري أن تحتلها (أي الموصل) القوات البريطانية قبل أو حالما تتوقف الحرب". وبموجب اتفاقيات سرية عقدت بين الحلفاء، كان المفروض منح ولاية الموصل إلى فرنسا، إلا أن ولسن كان قد وضع خطته: "لقد واصلت.... لأشهر عديدة بعد إعلان الهدنة الإلحاح على أن من الأمور الأساسية للاستمرارية الفعالة لأي حكومة، قد تقام في نهاية الأمر، في ما بين النهرين، أن تشمل الولايات الثلاث: البصرة وبغداد والموصل". ولم يكن ولسن يهتم بكون غالبية سكان ولاية الموصل من الكرد، وليس العرب، أو بأنهم قد لا يرغبون في إلحاقهم بدولة عربية. بل أن ما كان يخطط له لم يكن إنشاء دولة قومية، أي قائمة على أساس تماثل عرقي بين السكان، بل مجرد مستعمرة بريطانية أخرى.
&وعندما وقعت اتفاقية الهدنة مع تركيا في 31/11/1918 كانت القوات البريطانية مرابطة على مقربة من الموصل. ولم يكن لدى القائد البريطاني الفريق السير وليم مارشال أوامر بالاستيلاء على المدينة. ولكنه قرر الاستيلاء عليها بمبادرة منه، بإلحاح أكيد من ولسن، مبررا ذلك بتفسير مشكوك به لمادة في معاهد الهدنة تجيز احتلال أية نقاط استراتيجية في حالة نشوء حالة تهدد أمن الحلفاء. ولم يفعل سوى أنه بادر بخطوة واحدة تقدم بها على رؤسائه. وفي اليوم التالي دخلت القوات البريطانية الموصل، ووصلت برقية من مقر القيادة العامة في لندن تأمر مارشال بالاستيلاء عليها.
&وبعد احتلال الموصل، وتوسيع رقعة المنطقة التي سيطروا عليها،وجد البريطانيون أنفسهم، لأول مرة في تاريخهم الاستعماري، يحكمون الشعب الكردي. ولم يكن لدى بريطانيا على الإطلاق ما يمكن أن يسمى بسياسة كردية. لم تكن تفكر بالكرد عندما وقعت الحرب في 1914. وقد برزت مكانة العرب وليس الكرد في الخطط الحربية لبريطانيا. وكان محمد شريف باشا، وهو كردي من أسرة بابان التي حكمت السليمانية سابقا، ووزير مفوض للعثمانيين في ستوكهولم في تسعينات القرن الماضي، قد فاتح البريطانيين فور اندلاع الحرب العالمية الأولى وعرض خدماته في تعبئة الأمة الكردية وراء قضية الحلفاء، غير أن الحلفاء تخلصوا منه على نحو فظ..
&بيد أن الكرد لم يكونوا مجهولين تماما أو دون مناصرين في بريطانيا. فقد غامر ما يزيد على دزينة من البريطانيين منذ أوائل القرن التاسع عشر بزيارة كردستان، وعادوا ليكتبوا عن تجاربهم وعن الشعب الرائع الذي وجدوه هناك. وإذا كان معظم هؤلاء من الموظفين فقد كان بينهم أيضا دبلوماسي ومبشر ورسام وعالم في الفيزياء ورجل أعمال، ورجل آخر اسمه إيلي بانيستر صون، وكان الأخير غريب الأطوار كأي شخصية يمكن العثور عليها في أية رواية. وغالبا ما تحدث هؤلاء عن الكردي بأنه شخص همجي غليظ الطباع وقاطع طريق خطير. لكنهم تحدثوا أيضا عن الكردي رجلا مضيافا وكريما وجبليا هماما ومناضلا من أجل حريته ويطمح للتخلص من نير الحاكم التركي ويأمل في قيام دولة كردية.
&ومن المؤكد أنه يمكن فهم الكرد من خلال هذا الكم من الأدبيات ومنحهم نوعا من الدعم، لكنه يتعذر القول بإمكانه وضع أدبيات روائية عن الكرد شأن الذي خص بها العديد من البريطانيين العرب. إذ أن للبريطانيين تاريخ طويل وغني بالتجارب مع العرب، فقد تعاملوا معهم لقرون طويلة وحكموهم لعقود من السنين، منذ أن احتلوا مصر، ودخلوا عدن، ومنطقة الخليج الفارسي. وكان من الطبيعي جدا أن ينظر الإداريون البريطانيون، أولئك الذين قضوا حياتهم بين العرب، وعانوا مشقة تعلم لغتهم أو حاولوا ذلك، إلى الأشياء من وجهة نظر العرب، وقد (برزت نفس الظاهرة بين المستعمرين الأمريكان في النصف الثاني من القرن العشرين). فشخص مثل لورنس، وهو مستعرب ضليع، بإمكانه أن يخطط لإقامة دولة عربية عظمى تمتد من شبه الجزيرة العربية شملا حتى جبال طوروس. وقد عاش ولسن و كوكس سنوات عديد بين العرب، وكلاهما معجب بالحضارة والتاريخ العربيين. لكن ولاءهما كان للإمبراطورية البريطانية، وإذا ما تحتم عليهما أن يختاروا بين العرب والكرد، فإنهم سيختارون الكفة التي ترجح العرب دون شك. أما مكانة الكردي لدى ولسن فقد وصفه قائلا: "قاس ذو نفس فظة وغارق في الظلام ومقيد بالبؤس والحديد". ولم يتحدث مطلقا بمثل هذه العجرفة والجهل عن العرب. ويحمل لونكريك، وهو مستعرب وضابط خدم في الإدارة البريطانية الأولى في العراق، والذي أصبح فيما بعد مستشارا لحكومة العراق المستقلة، ذات النظرة الناقصة نحو الأكراد. فقد كان يعتقد بأنهم (أي الكرد) غير قادرين تماما على حكم أنفسهم. ويشارك العديد من رجال الإدارة البريطانية آراء ولسن و لونكريك المتحاملة على الكرد هذه.
&لكن الكرد وجدوا بطلا في واحد من الضباط البريطانيين الشباب الذين أرسلوا لمساعدة ولسن، ذلك هو الرائد إدوارد وليم جارلس نويل، فقد كانت وجهات نظره تختلف عن آراء ولسن و لونكريك اختلاف الليل عن النهار. فقد كتب قائلا: "لقد كان الكرد أفضل عناصر" الشرطة المحلية تحت الإدارة البريطانية. وفي فيلق العمل أثناء الحرب كانوا يحققون إنجازات أفضل بكثير، مما يحققه العرب أو الفرس. وكان الكرد أكثر استجابة للتعليم وللتقدم، ومتفوقين على أقرانهم من العرب والأتراك والفرس. ولم يكن نويل يشك مطلقا في قدرة الكرد على حكم أنفسهم. فمن بين جميع القوميات في الشرق كتب يقول: "يتفوق الكردي بقدرته على الاستفادة من المنافع والمزايا من إنشاء حكومة مستقرة وحديثة في بلاده".
&كان نويل رجلا مجازفا يحب أعمال البطولة، على النقيض تماما من الماكرين والبيروقراطيين كوكس و ولسن. "وحيثما عمل نويل اكتسب شهرة" هكذا كتب عنه أحد رؤسائه. فقد كان دائم التجوال بقلب تواق. وكان جزءا من كل الذين التقى معهم. ومن الصعوبة بمكان أن نتصوره سعيدا وقد علاه الصدأ بمرور الوقت وألا يزداد نشاطه توهجا. كان نويل رجلا يحب المجازفة، ويحاول دوما التلذذ بالتصدي للأخطار. فحينما نقل عام 1915 إلى وظيفة المقيم البريطاني للخليج الفارسي في البحرين، عكف بنشاط ملحوظ، على مطاردة العملاء الألمان الذين أرسلوا لتحريض الإيرانيين على الجهاد ضد الحلفاء.
&واستطاع اقتناص أشد أولئك العملاء خطرا، وهو شخص يدعى واسموس. لكن الأخير هرب من حراسه، وبدأ بتحريض رجال القبائل ضد نويل، حتى كادوا يقضون عليه. وفي ربيع 1918، تطوع نويل لمهمة اقتضت منه السفر عبر المناطق الشمالية من إيران والقوقاس ليلتحق بقوات بريطانية كانت تقاتل البلشفيك. وفي طريق عودته اعتقله رجل من قبيلة معادية. وحاول الهرب مرارا، ولكنه فشل، وأمضى في السجن خمسة أشهر في ظروف قاسية جدا. وتكاد مثل هذه المجازفات تكفي رجلا آخر، طوال حياته، ولكن ليس لشخص مثل نويل، إذ سرعان ما توجه إلى بغداد بعد إطلاق سراحه ليتطوع في مهمة أخرى. وقد يتصوره المرء مغامرا ليس إلا. لكنه لم يكن كذلك. فقد كان طويل القامة نحيفا، و ذو شعر أسود كثيف ومنظم، ويظهر في صورة التقطت له في العشرينات وقد ارتدى سروالا قصيرا، وسترة مزررة باعتناء وعلى صدره وردة قرنفل، بحيث بدا وكأنه أحد أغنياء الريف الإنجليزي، وليس مغامرا باحثا عن الأخطار.
&وكان أرنولد ولسن رجلا نحيفا متوسط القامة، وأصغر عمرا من كوكس. وكان، شأن كوكس، موظفا في حكومة الهند البريطانية، ولعله كان أكثر تمسكا من بيرسي كوكس بمبادئ أولئك الذين صنعوا وأشرفوا على إدارة الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية. وكان ولسن على يقين من أنه خير من يدرك ما فيه الخير لأبناء المنطقة. وكان مقتنعا بأنهم غير قادرين على إدارة شؤونهم، وأنهم يفضلون (أو يفكر العاقلون منهم على الأقل) أن يحكمهم البريطانيون بكفاءة من أن يحكمهم أبناء بلدهم بغير كفاءة. وكان التفكير بقيام حكم محلي ذاتي يعد، من وجهة نظر ولسن، بدعة خطرة.
&وقد وضع ولسن، شأن كوكس، نصب عينيه التقدم نحو مواقع متقدمة. فأخذ يلح على ضرورة التقدم شمالا لاحتلال كركوك والاستيلاء على الموصل. وقبل نهاية الحرب بفترة طويلة كتب ولسن "لقد أوضحت.... أن من الضروري أن تحتلها (أي الموصل) القوات البريطانية قبل أو حالما تتوقف الحرب". وبموجب اتفاقيات سرية عقدت بين الحلفاء، كان المفروض منح ولاية الموصل إلى فرنسا، إلا أن ولسن كان قد وضع خطته: "لقد واصلت.... لأشهر عديدة بعد إعلان الهدنة الإلحاح على أن من الأمور الأساسية للاستمرارية الفعالة لأي حكومة، قد تقام في نهاية الأمر، في ما بين النهرين، أن تشمل الولايات الثلاث: البصرة وبغداد والموصل". ولم يكن ولسن يهتم بكون غالبية سكان ولاية الموصل من الكرد، وليس العرب، أو بأنهم قد لا يرغبون في إلحاقهم بدولة عربية. بل أن ما كان يخطط له لم يكن إنشاء دولة قومية، أي قائمة على أساس تماثل عرقي بين السكان، بل مجرد مستعمرة بريطانية أخرى.
&وعندما وقعت اتفاقية الهدنة مع تركيا في 31/11/1918 كانت القوات البريطانية مرابطة على مقربة من الموصل. ولم يكن لدى القائد البريطاني الفريق السير وليم مارشال أوامر بالاستيلاء على المدينة. ولكنه قرر الاستيلاء عليها بمبادرة منه، بإلحاح أكيد من ولسن، مبررا ذلك بتفسير مشكوك به لمادة في معاهد الهدنة تجيز احتلال أية نقاط استراتيجية في حالة نشوء حالة تهدد أمن الحلفاء. ولم يفعل سوى أنه بادر بخطوة واحدة تقدم بها على رؤسائه. وفي اليوم التالي دخلت القوات البريطانية الموصل، ووصلت برقية من مقر القيادة العامة في لندن تأمر مارشال بالاستيلاء عليها.
&وبعد احتلال الموصل، وتوسيع رقعة المنطقة التي سيطروا عليها،وجد البريطانيون أنفسهم، لأول مرة في تاريخهم الاستعماري، يحكمون الشعب الكردي. ولم يكن لدى بريطانيا على الإطلاق ما يمكن أن يسمى بسياسة كردية. لم تكن تفكر بالكرد عندما وقعت الحرب في 1914. وقد برزت مكانة العرب وليس الكرد في الخطط الحربية لبريطانيا. وكان محمد شريف باشا، وهو كردي من أسرة بابان التي حكمت السليمانية سابقا، ووزير مفوض للعثمانيين في ستوكهولم في تسعينات القرن الماضي، قد فاتح البريطانيين فور اندلاع الحرب العالمية الأولى وعرض خدماته في تعبئة الأمة الكردية وراء قضية الحلفاء، غير أن الحلفاء تخلصوا منه على نحو فظ..
&بيد أن الكرد لم يكونوا مجهولين تماما أو دون مناصرين في بريطانيا. فقد غامر ما يزيد على دزينة من البريطانيين منذ أوائل القرن التاسع عشر بزيارة كردستان، وعادوا ليكتبوا عن تجاربهم وعن الشعب الرائع الذي وجدوه هناك. وإذا كان معظم هؤلاء من الموظفين فقد كان بينهم أيضا دبلوماسي ومبشر ورسام وعالم في الفيزياء ورجل أعمال، ورجل آخر اسمه إيلي بانيستر صون، وكان الأخير غريب الأطوار كأي شخصية يمكن العثور عليها في أية رواية. وغالبا ما تحدث هؤلاء عن الكردي بأنه شخص همجي غليظ الطباع وقاطع طريق خطير. لكنهم تحدثوا أيضا عن الكردي رجلا مضيافا وكريما وجبليا هماما ومناضلا من أجل حريته ويطمح للتخلص من نير الحاكم التركي ويأمل في قيام دولة كردية.
&ومن المؤكد أنه يمكن فهم الكرد من خلال هذا الكم من الأدبيات ومنحهم نوعا من الدعم، لكنه يتعذر القول بإمكانه وضع أدبيات روائية عن الكرد شأن الذي خص بها العديد من البريطانيين العرب. إذ أن للبريطانيين تاريخ طويل وغني بالتجارب مع العرب، فقد تعاملوا معهم لقرون طويلة وحكموهم لعقود من السنين، منذ أن احتلوا مصر، ودخلوا عدن، ومنطقة الخليج الفارسي. وكان من الطبيعي جدا أن ينظر الإداريون البريطانيون، أولئك الذين قضوا حياتهم بين العرب، وعانوا مشقة تعلم لغتهم أو حاولوا ذلك، إلى الأشياء من وجهة نظر العرب، وقد (برزت نفس الظاهرة بين المستعمرين الأمريكان في النصف الثاني من القرن العشرين). فشخص مثل لورنس، وهو مستعرب ضليع، بإمكانه أن يخطط لإقامة دولة عربية عظمى تمتد من شبه الجزيرة العربية شملا حتى جبال طوروس. وقد عاش ولسن و كوكس سنوات عديد بين العرب، وكلاهما معجب بالحضارة والتاريخ العربيين. لكن ولاءهما كان للإمبراطورية البريطانية، وإذا ما تحتم عليهما أن يختاروا بين العرب والكرد، فإنهم سيختارون الكفة التي ترجح العرب دون شك. أما مكانة الكردي لدى ولسن فقد وصفه قائلا: "قاس ذو نفس فظة وغارق في الظلام ومقيد بالبؤس والحديد". ولم يتحدث مطلقا بمثل هذه العجرفة والجهل عن العرب. ويحمل لونكريك، وهو مستعرب وضابط خدم في الإدارة البريطانية الأولى في العراق، والذي أصبح فيما بعد مستشارا لحكومة العراق المستقلة، ذات النظرة الناقصة نحو الأكراد. فقد كان يعتقد بأنهم (أي الكرد) غير قادرين تماما على حكم أنفسهم. ويشارك العديد من رجال الإدارة البريطانية آراء ولسن و لونكريك المتحاملة على الكرد هذه.
&لكن الكرد وجدوا بطلا في واحد من الضباط البريطانيين الشباب الذين أرسلوا لمساعدة ولسن، ذلك هو الرائد إدوارد وليم جارلس نويل، فقد كانت وجهات نظره تختلف عن آراء ولسن و لونكريك اختلاف الليل عن النهار. فقد كتب قائلا: "لقد كان الكرد أفضل عناصر" الشرطة المحلية تحت الإدارة البريطانية. وفي فيلق العمل أثناء الحرب كانوا يحققون إنجازات أفضل بكثير، مما يحققه العرب أو الفرس. وكان الكرد أكثر استجابة للتعليم وللتقدم، ومتفوقين على أقرانهم من العرب والأتراك والفرس. ولم يكن نويل يشك مطلقا في قدرة الكرد على حكم أنفسهم. فمن بين جميع القوميات في الشرق كتب يقول: "يتفوق الكردي بقدرته على الاستفادة من المنافع والمزايا من إنشاء حكومة مستقرة وحديثة في بلاده".
&كان نويل رجلا مجازفا يحب أعمال البطولة، على النقيض تماما من الماكرين والبيروقراطيين كوكس و ولسن. "وحيثما عمل نويل اكتسب شهرة" هكذا كتب عنه أحد رؤسائه. فقد كان دائم التجوال بقلب تواق. وكان جزءا من كل الذين التقى معهم. ومن الصعوبة بمكان أن نتصوره سعيدا وقد علاه الصدأ بمرور الوقت وألا يزداد نشاطه توهجا. كان نويل رجلا يحب المجازفة، ويحاول دوما التلذذ بالتصدي للأخطار. فحينما نقل عام 1915 إلى وظيفة المقيم البريطاني للخليج الفارسي في البحرين، عكف بنشاط ملحوظ، على مطاردة العملاء الألمان الذين أرسلوا لتحريض الإيرانيين على الجهاد ضد الحلفاء.
&واستطاع اقتناص أشد أولئك العملاء خطرا، وهو شخص يدعى واسموس. لكن الأخير هرب من حراسه، وبدأ بتحريض رجال القبائل ضد نويل، حتى كادوا يقضون عليه. وفي ربيع 1918، تطوع نويل لمهمة اقتضت منه السفر عبر المناطق الشمالية من إيران والقوقاس ليلتحق بقوات بريطانية كانت تقاتل البلشفيك. وفي طريق عودته اعتقله رجل من قبيلة معادية. وحاول الهرب مرارا، ولكنه فشل، وأمضى في السجن خمسة أشهر في ظروف قاسية جدا. وتكاد مثل هذه المجازفات تكفي رجلا آخر، طوال حياته، ولكن ليس لشخص مثل نويل، إذ سرعان ما توجه إلى بغداد بعد إطلاق سراحه ليتطوع في مهمة أخرى. وقد يتصوره المرء مغامرا ليس إلا. لكنه لم يكن كذلك. فقد كان طويل القامة نحيفا، و ذو شعر أسود كثيف ومنظم، ويظهر في صورة التقطت له في العشرينات وقد ارتدى سروالا قصيرا، وسترة مزررة باعتناء وعلى صدره وردة قرنفل، بحيث بدا وكأنه أحد أغنياء الريف الإنجليزي، وليس مغامرا باحثا عن الأخطار.
التعليقات