د. عاصم خليل
&
&
&
يطرح المراقبون الدوليون والعرب تساؤلات كثيرة تعبر عن آراء متناقضة (مشجعة، متحفظة أو معارضة) بخصوص "قانون المحكمة العراقية المختصة بالجرائم ضد الانسانية" (قانون رقم 1 لسنة 2003 وسنشير إليه هنا بكلمة "القانون"). وهي ترتبط قبل كل شيء بالطريقة التي تم فيها تبني ذلك القانون إذ قام بذلك مجلس الحكم العراقي في 10/12/2003 بناء على تفويض من المدير المدني الأمريكي في اليوم نفسه وقد تم نشر قرار التفويض والقانون في الصفحة الرسمية لسلطة التحالف. وقد أعلن "وزير الداخلية" لمجلس الحكم العراقي السيد نوري حمودي بدران (رئيس اللجنة القضائية للمجلس) في تونس في 5/1/2004 بأن التحضيرات بدأت لتأسيس المحكمة الجنائية الخاصة.
قرار التفويض
&ينص الأمر 48 بتخويل مجلس الحكم "الذي يعكس المصالح والاهتمامات العامة للشعب العراقي" سلطة انشاء محكمة عراقية خاصة بموجب تشريع يصدر عنه، لكن المدير الإداري احتفظ لنفسه بحق تعديل التشريع لحاجات أمنية. ويقوم بول بريمير بتبرير ذلك القرار بموجب السلطات المخولة له بصفته المدير الإداري لسلطة الإئتلاف المؤقتة (بحسب اللائحة التنظيمية رقم 1 الصادرة عن سلطة الائتلاف المؤقتة في 16/5/2003)، بالقوانين والأعراف المتبعة في حالة الحرب (اتفاق الهاج لسنة 1907 يمنع المحتل من تغيير النظام القانوني الساري في البلد المُحتَل إلا تحت ظروف خاصة ترتبط بالنظام العام، مصلحة السكان والحفاظ على الأمن) وبقرارات مجلس الأمن (1483، 1500، 1511). كذلك فرض الأمر بعض الشروط أهمها أولاً أن تكون صلاحيات المحكمة محدودة بالعراقيين أو الساكنين الدائمين فيها وإن يحدد بأنه يمكن أن يتم تعيين قضاة غير عراقيين؛ ثانياً، أن يقوم مجلس الحكم بتلك المهمة دون أن يخالف القانون العراقي -بحسب التعديلات التي أدخلتها سلطة الإئتلاف المؤقت- أو القانون الدولي. بموجب ذلك الأمر، أي قرار يصدر عن المجلس أو أي حكم أو قرار يصدر عن المحكمة يُعتبر باطلاً إذا تناقض مع أوامر سلطة الإئتلاف.
إن مجلس الحكم العراقي ليس جسماً منتخباً بل تم تعيينه من قبل المدير الإداري لسلطة الإئتلاف بحسب اللائحة التنظيمية رقم 6 الصادرة في 13/7/2003. ومن هنا يتسائل الكثيرون حول شرعية قانون تم تبنيه من قِبل مجلس (تنفيذي) غير منتخب بناء على تفويض من سلطة الاحتلال، وتم توقيعه من قِبل الحاكم المدني الأمريكي؟ صحيح أن الأمريكيين يناقشون في مجلس الأمن الجدول الزمني لنقل السيادة إلى العراقيين (وهذا ضروري) وصحيح أن المحكمة قد تبدأ عملها بعد نقل السيادة (وهذا ضروري أيضاً)، لكن المخول الوحيد لتبني قانون لتأسيس محكمة خاصة ويضفي عليها الشرعية الضرورية هو صاحب السلطة التشريعية في البلد والذي سيتم انتخابه من قِبل الشعب عند نقل السيادة إلى العراقيين وليس قبل ذلك. هنالك اعتراف غير مباشر بذلك في الأمر 48 الذي ينص بأن ذلك القرار يبقى نافذاً إلى أن يتم "إنشاء حكومة عراقية منتخبة ومعترف بها دولياً".
صلاحيات المحكمة العراقية بحسب "القانون"
ينص "القانون" على تأسيس محكمة خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب العراقيين وهو يحتوي على 38 فقرة مقسمة في 11 فصل وهو يشبه إلى حد كبير (وخصوصاً في تعريف الجرائم الدولية) القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كما نوّه الممثل الأمريكي لدى الأمم المتحدة جون نيجروبونتي عند عرضه القانون على مجلس الأمن الدولي. يمكن تفسير ذلك لكون البروفوسير شريف بسيوني رئيس قسم حقوق الإنسان في جامعة ديبول في شيكاغو الذي حضَّر ذلك القانون لمجلس الحكم العراقي، هو من الداعمين للمحكمة الجنائية الدولية. بحسب الفقرة الأولى من القانون، يتم تحديد صلاحية المحكمة بالشروط التالية:
أولاً، أن يكون مواطناً عراقياً أو مقيماً في العراق وبالتالي فإن الجنود الأمريكيين مستثنيون، وهذا ما يدفع الأمريكيون لقبول ذلك القانون بينما تعارض بشدة المحكمة الجنائية الدولية. بالإضافة إلى ذلك، لا يدخل من صلاحية المحكمة ملاحقة العرب غير العراقيين الذين دخلوا العراق عند بداية الحرب لمناصرة صدام حسين وبالتالي تبقى السلطات الأمريكية حرة بملاحقة هؤلاء ؛
ثانياً، بالإضافة إلى الجرائم المشتركة مع المحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم الجنائية الأخرى - الإبادة الجماعية (11)، جرائم ضد الإنسانية (12)، جرائم حرب (13) - يضيف القانون في الفقرة 14 بعض الجرائم المخالفة للقانون العراقي. وهي أولاً، مخالفة دستور العراق لسنة 1970 بما يخص استقلالية القضاء؛ ثانيا، مخالفة القانون المعدل رقم 7 لسنة 1958 بما يخص تبذير أموال الدولة؛ ثالثاً، مخالفة الفقرة رقم 1 من القانون المعدل رقم 7 لسنة 1958 والذي يخص تهديد الدول المجاورة والاعتداء عسكرياً على بلد عربي مجاور؛
ثالثاً، أن تكون قد ارتكبت بين 17 تموز 1968 و1 أيار 2003 وهذا يعني أن للمحكمة صلاحيات للجرائم المرتبطة بالحرب مع ايران والكويت. وهذه الفترة الواسعة جداً زمنياً تمتد من الانقلاب العسكري الذي قام به أحمد حسن البكر وحتى احتلال العراق من قبل قوات التحالف، مع التنويه إلى أن صدام حسن تولى الحكم في حزيران 1979 وأن الحرب على العراق بدأت في 20 آذار 2003؛
رابعاً، صلاحية المحكمة تخص الأشخاص الطبيعيين وهذا جديد مقارنة مع المحاكم الأخرى، إذ أن محكمة نوتربرغ كانت قد ادانت النازية واعتبرتها "منظمة إجرامية وكان هذا سبباً في تسهيل عملية المحاكمة؛ الوضع الآن يختلف إذ أنه لا يكفي أن ينتمي عراقي إلى حزب البعث حتى تتم إدانته إذ أنه لن يتم بحسب تلك الفقرة "تجريم" حزب البعث وبالتالي لن يدين بالضرورة أشخاصاً بحجة انتمائهم إلى حزب البعث.
المحكمة العراقية بين مؤيدين ومعارضين
هنالك كثيرٌ ممن يدعمون فكرة "محكمة عراقية" لمجرمي الحرب العراقيين (هذا هو رأي كثيرٍ من العراقيين والأمريكيين) معللين ذلك بكون المحاكم العراقية مؤهلة بقضاة ذي كفاءة قادرين على القيام بتلك المهمة على أكمل وجه. وهنا نتساءل عما إذا ارتبط تفضيلهم هذا برغبتهم الحقيقية والنزيهة لتقصي الحقائق أم برغبة بعض العراقيين بالانتقام ورغبة الأمريكيين باغلاق ذلك الملف بأسرع وقت ممكن؟ هنالك خطر فعلي لأن يكون الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى الواقع، إذ أن القضاة الذين سيتولون النظر في تلك القضايا سيكونون بالضرورة من المعارضين لحزب البعث (لأن القضاة القريبين من النظام السابق تركوا وظائفهم وفَرُّوا ولأن القانون يمنع تعيين قاضٍ إن كان ينتمي إلى حزب البعث) أو من المحامين والقضاة الذين تم تدريبهم حديثاً وبالتالي تنقصهم الخبرة في ذلك المجال أو سيكونوا قضاة غير عراقيين، في الوقت الذي تمارس فيه سلطات الاحتلال الأمريكية تأثيراً مباشراً على مجلس الحكم العراقي، وبالتالي على تعييناتهم للقضاة الذين سيوكلون بتلك القضايا.
قامت كثير من المؤسسات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان بإبداء رأيها المؤيد لتكليف مهمة محاكمة مرتكبي تلك الجرائم إلى محكمة دولية إذ أن من سيقوم بتلك المهمة يجب أن يحظى بالشرعية ويضمن محاكمة نزيهة. وبما أن صلاحية المحكمة الجنائية الدولية الدائمة تخص الدول التي أبرمت اتفاق روما وهي سارية على الجرائم التي تمت بعد 1/7/2002 وتعمل فقط عندما لا تقوم الدولة المعنية بمحاكمة المجرمين الدوليين وذلك لعدم رغبتهم في ذلك أو لعدم قدرتهم؛ وبما أن العراق لم يوقع على اتفاقيات روما الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية فإنه من الممكن أن يكون التوجه الأفضل (وهذه أيضاً رغبة أفراد عائلة صدام حسين) هو تأسيس "محكمة جنائية دولية خاصة بالعراق" كما كان الحال مع يوغسلافيا سابقاً، ومع رواندا، تحت إشراف الأمم المتحدة المباشر.

&دكتوراة في القانون&
[email protected]