عبدالله الحكيم

&

قدر لي الاطلاع على فصول من أدبيات العبوية عبر كتب وقصاصات صحافة واحالات لا تزال تراهن على سقوط تجارة العبيد بتعدد تبعاتها وانساقها الانتهازية، كما لو كانت سجلات حقوق الانسان لم تكتب بعد.
وفي لحظات خيل الى أن الموقف الانساني والقانوني أيضا حيال هذه التجارة الجاهلية لا يزال يراوح مكانه، فيما لا تطرح البنى الفكرية في رواياتها المتعددة ذات الحالة الواحدة أكثر من اقتباسات لفيلم الجذور الذي ألفه الزنجي الرائع اليكس هيلي ومارس العقل الأمريكي معه حقوق الرعاية الملحمية لتبيان معاناة ملايين العبيد التقليدين ممن لا زالوا يعيشون استلاب مستديم.
ومع أن العالم ممثلا بحضارته الأممية المزدهرة يوما راء آخر قرر طمس ماضيه الأسود الا أن كتابا وصحافيين لا زالوا ينبشون عبر سرديات مهنية& اسوأ ملاحم عصرية للرق. وعموما فالعبودية رغم ضراوة قوانين أجمعت على الغائها منذ زمان بعيد لا تزال تعيش ازدهارا في العالم بقاراته الممتدة في كل الاتجاهات، وهناك شرائح بشرية متعددة الألوان ومتفاوتة الثقافات وموارد الرزق أيضا تعيش أدبيات هذه العبودية عبر آخر صيحة حضارية للعالم.
في الثاني من فبراير هذا العام اعادوا في الصحافة الأمريكية مراجعة قصتين مختلفتين، ولكنهما في النهاية رغم تباعد المسافات والجهات تتناولان حكاية واحدة.
انهم الآن ينقحون في أحد دور النشر بأمريكا رواية ( قصتي تنتهي بالحرية)، لمؤلفتها هاريت جاكوبس التي كانت من بين روائيين قلائل يكتبون سيرة ذاتية عن الرق من داخل عالم الرق نفسه. ولسبب أو لآخر فالنقاد يعيدون مراجعة هذه القصة لاعتقادهم من نواح حرفية أنها رواية تنتمي قلبا وقالبا الى الأدب الأمريكي.
هذه السيرة الذاتية تظهر الآن بطرح جديد تكتبه محررة الأخبار الأدبية من جريدة النيويرك تايمز، جين فاجان وتركز فيها على مقاطع تعبيرية من حياة هاريت اذ تواجه الأخيرة صنوفا من الذل على يد السادة.
ذات مرة ساومها السيد على فض بكارتها مقابل منحها قليلا من اللطف في تعاملاته اليومية معها، وفي حين لم يكن الخيار واردا للاحتفاظ بتلك البكارة التعيسة في بيت الأسياد، فقد قررت الهروب الي بيت جدتها، حيث بقيت مختبأة هناك لبضعة سنوات.
القصة لا تنتهي هنا، وانما تواصل هاريت الهروب لاحقا من الجنوب الى الشمال، حيث كتبت لاحقا في مذكراتها عام 1842 ( كم كان الشمال الامريكي جميلا وقاسيا في الوقت نفسه.
كانت هاريت تصور تداخلات الجمال مع القسوة في كأس واحدة.
غير أن هاريت تروي في جوانب من مذكراتها أن سيرتها الذاتية ربما كانت أفضل من غيرها سيرة، فهي مثلا تروي كيف تعلمت القراءة والكتابة لاحقا لدى سيدة كانت تعمل خادمة لديها
وللواقع فكتاب فاجان رغم حداثته التاريخية يبدأ أساسا من حيث أنتهت السيرة الذاتية لهاريت جاكوبس، حيث عملت الأخيرة مع لاجئين من الحرب الأهلية واسست لاحقا مدرسة للأطفال السود ولم تتزوج وعندما اصبح عمرها سبعين سنة قررت الالتحاق بخدمة ارملة سيدها السابق، وهكذا ربما تكون وجدت حريتها بالطريقة التي تمنحها حق الاختيار.
غير أن موضوع العبيد في علاقتهم بالسادة لا يتوقف عند هذا المنعطف فالصحافة الأمريكية تثير الى جانب تلك القصة حكاية أخرى تتولى فيها احدى الجواري من بلاد النوبة قصة لا تقل معاناتة عن سابقتها الامريكية.
هنا يمكن أن نقرأ شذرات من ذكريات الجارية النوبية، ماندي ناصر.
انها تروي للصحافة الأمريكية كيف أن أشخاصا أختطفوها عام 1993 من جوار منزل والدتها في قرية جبلية نائية.
كان عمر ماندي 12 عاما وقتئذ، ولا يوجد لديها شهادة ميلاد وقد باعها الخاطفون لعائلة سودانية من أصول عربية في الخرطوم. وبقين ماندي تعمل في ظروف نفسية تعيسة جدا على مدى سبع سنوات.
والقصة هنا تعيد نفسها، فكما أن السيد راود هاريت لفض بكارتها مقابل منحها ابتساماته الرقيقة، نجد أن ضيوف العائلة العربية لا يترددون في منح ماندي قليلا من اللمسات التي باعتقادهم انها ترتقي باحاسيسها الى مشاعر السادة، فيما تصور رواية ماندي كيف كانت سيدتها العربية تنزل بها أسوأ أنواع العقوبات حرقا بادوات ساخنة لكونها طهت بيضا مقليا، ولم تقدمه مسلوقا على مائدة افطار العائلة البورجوازية.
وهكذا يستمر الأثر الكابوسي لغرور الأسرة البورجوازية في صيغة جرعات متفاوتة للاحساس بالضعة والدونية، اذ تتحدث السيدة عن خادمتها بمنتهى السخرية أمام ضيوف جاءوا لتناول العشاء في بيتها، فهي مثلا تذكر لضيوفها أن وجود العبدات في بيوت السادة أشبه ببركه الهية تحل على اولئك السادة.
ولكن العائلة البورجوازية لا تلبث طويلا بعد سبع سنوات اذ يعلنون الاستغناء عن خدمات الجارية النوبية. ولأنهم يمتلكونها فهم يقررون ارسالها الى لندن لكي تخدم لدى اقرباء لهم يعيشون في بريطانيا.
وفي ليلة ما قبل السفر الى بريطانيا تصادف ماندي عبدة أخرى اصغر سنا منها، وقد جاءت لتملأ فراغ ماندي، وهكذا تروي لاحقا ماندي في كتابها أن الأشخاص يتغيرون، ولكن تبقى مواقف الرق تتجدد على ما هي عليه الحالة.
هنا تنتهي فصة ماندي في الخرطوم، ولدى انتقالها فعلا الى الفصل البريطاني من القصة ينتهي درو النييورك تايمز، ويبدأ درو الجارديان.
في الثامن من يناير عام 2003 تفاعلت قصة ماندي على هامش الجزء البريطاني، وكتب المحرر ديفيد ليخ أن وزارة الداخلية البريطانية منحت ماندي حق اللجوء السياسي كاشفا في قصة له نشرها في الجارديان أن ماندي هربت من بيت دبلوماسي سوداني كانت تعمل لديه في منزله الكائن بأحد أحياء لندن، وقد بررت ماندي في استجواب لها الى القضاء البريطاني سبب هروبها بكونها ادركت أن الدبلوماسي يحتفظ بها لديه كعبدة وليست عاملة.
وقال الدبلوماسي السوداني وقتئذ في حواره الى الجهات المختصة انها هربت من منزله لانها مبتهجة أكثر من اللازم حسب اقتباس المحرر نفسه، فيما انكر الدبلوماسي جملة وتفصيلا دعوى خادمته ماندي مهددا باقامة دعوى قانونية حيال طباعة مذكراتها في سوق الكتاب البريطاني والأوربي أيضا وبذلك فقد أثارت قصة ماندي خلافات وجدلا حول حقيقة القصة.
ولكن ماذا عساهم جميعا يفعلون، فهي الآن تقيم في بريطانيا بطريقة شرعية، وقد منحها القضاء البريطاني حق اللجوء السياسي ثم أنها أساسا، برغم النفي الدبلوماسي وقتئذ الذي لا يستطيع المطالبة بارسالها الى السودان أو اجبارها على الخدمة أصبحت شخصية مشهورة لأنها فعلا كتبت القصة.
كاتب صحافي سعودي
[email protected]