د.عبد الخالق حسين


&&
مقدمة
الطائفية مرض خبيث عانى منه الشعب العراقي كثيراً خلال قرون عديدة. وهي ليست من صنع العراقيين، بل من نتاج القوى الخارجية التي اتخذت من العراق مسرحاً لحروبها وفتوحاتها، منذ الإحتلال العثماني بالتناوب مع الدولة الصفوية.
بينما يعتقد البعض خاطئاً، أنه من الأفضل الابتعاد عن الخوض في المشكلة الطائفية، إذ يرى هؤلاء أن في إثارتها ضرراً على وحدة المعارضة، ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، فينكرون وجود هذه المشكلة أساساً، ويكتفون بإلقاء اللوم على صدام حسين أنه وحده المسبب للنعرة الطائفية وكل ما حدث في العراق.
إن موقف أولئك وهؤلاء ليس فقط لا يقدم تفسيراً للمعضلة العراقية المزمنة بل ويلقيها في مستنقع من الضبابية ويضفي عليها طابعاً هلامياً لا يفيد إلا المنتفعين بالطائفية ذاتها. أعتقد أنه قد آن الأوان لتجنب سياسة النعامة في طمس الحقيقة في الرمال.
يقول الأستاذ حسن العلوي في كتابه (الشيعة والدولة القومية في العراق): "لم تحظ الظاهرة الطائفية إلا بالقليل من اهتمام الباحثين بسبب الاعتقاد المنتشر في الوسط الثقافي بأن أحداً يتورط في هذه الكتابة لا يستطيع أن يخرج منها دون تهمة. إذ جرى العرف على& إعتبار الإسهام في إدانة التمييز الطائفي إسهاماً في العمل الطائفي."1
أعتقد إن مشاكل اليوم لم تأتي من فراغ، بل هي من نتاج الماضي واستمراره. لذا يجب العودة إلى تاريخنا لنتفهم على ضوئه، الحاضر ومآسيه ونخطط لمستقبل أفضل. كما إن الاكتفاء بإلقاء اللوم على صدام حسين وحده لما حل في العراق، ليس إلا جانباً من هذه المشكلة المعقدة وليس الحقيقة كلها، ومن الصعب الاتفاق مع الرأي القائل بان الوضع المأساوي الذي يعيشه الشعب العراقي الآن هو نتيجة سياسات وممارسات شخص واحد اسمه صدام حسين. فصدام حسين ونظامه خلقا من جراء احتدام عوامل تاريخية وجغرافية، موضوعية وذاتية في تاريخ العراق الحديث. وما النظام الدكتاتوري الحالي إلا نتيجة لانتصار قوى الظلام في نهاية المطاف في الدولة العراقية التي تأسست على مبادئ خاطئة واعتمدت الطائفية فزرعت الألغام في هياكل الدولة وبنيتها الإدارية والسياسية& لتنفجر في الوقت المناسب. وقد حدث ذلك في الماضي ويحدث الآن.
إن فضح الطائفية لا يعنى الدعوة لتأجيجها. والحكام الذين مارسوا الطائفية، فرضوا السكوت عنها لاستمرارهم في مواقع السلطة والامتيازات والنفوذ. أما الضحايا فكانوا يسكتون، خوفاً من الاضطهاد وذعراً من تهمة الطائفية، فتعايشوا معها وسكتوا على مضض كقدر مكتوب!!.
إن الطائفية سياسة خبيثة يمارسها سياسيون علمانيون ويتجنبها المتدينون. لأن فقهاء المذاهب الإسلامية الأجلاء هم أبعد وأسمى من أن يكونوا طائفيين. فالإمام الأعظم أبو حنيفة (رضي الله عنه) كان من أقرب الناس إلى الإمام موسى الكاظم (ع)، فكلاهما عانى السجن والاضطهاد معاً وبواسطة& الحاكم نفسه ومن أجل القضية ذاتها.
فالمذهب بمعناه الكهنوتي شيء والتمذهب (الطائفية) شيء آخر. المذهب مدرسة فكرية وإجتهاد من إمام بلغ درجة عالية من العلم والتفقه في الدين، فيما الطائفي هو سياسي علماني، غالباً غير متدين، وجاهل في أمور الدين، يستثمر المذهب لخدمة أغراضه السياسية الدنيوية ومصالحه الخاصة للاستحواذ على السلطة والنفوذ والامتيازات، مستغلاً أبناء طائفته مثيراً فيهم النعرة الطائفية البغيضة لحمايته، ولإضطهاد وإذلال أبناء الطوائف الأخرى. وبذلك فأبناء طائفة الحاكم هم أيضاً مضطهَدون ومستغَلون لخدمة الحاكم الطائفي.
ومن السذاجة بمكان ترك حل مشكلة الطائفية للسياسيين وحدهم، فهي من واجبات المثقف الذي تقع على عاتقه مسئولية توجيه السياسيين والرأي العام. وهذا يثبت مقولة فولتير: "أينما وجد الظلم فالكتاب هم المسؤولون عنه".
&
نبذة تاريخية
إن الشعب العراقي، كأي شعب في العالم، يتكون من أعراق وديانات ومذاهب متعددة. وقد تعايشت هذه المكونات البشرية والفكرية في البلاد عبر قرون متآخية ومتحدة حتى جاء الإحتلال العثماني في بداية القرن السادس عشر، ثم الصراع بين الدولة العثمانية السنية والدولة الصفوية الشيعية. فعندما كانت تنتصر الدولة الصفوية، تقوم بارتكاب المذابح ضد السنة ونبش قبور أئمتهم وحرق مكتباتهم. وإذا ما انتصرت الدولة العثمانية، تقوم هذه بإرتكاب المجازر ضد الشيعة بدورها، وحرق مكتباتهم أيضاً ولكن دون نبش القبور!. وفي خضم هذه الحروب كان الخاسر الوحيد هو الشعب العراقي بما فقده من أرواح ومنشئات وكنوز فكرية.&
لقد حكم الأتراك البلاد العربية باسم الإسلام. وأعلن السلطان التركي نفسه خليفة على المسلمين خلافاً للفقه الشيعي الجعفري الذي لا يجيز الخلافة في غير العرب عملاً بحديث نسب إلى النبي محمد (ص) قوله:(الخلافة في قريش). لذلك نكل بهم الأتراك ولم يعترف بمذهبهم وحرموا من الرعاية والثقافة إلى جانب الاضطهادات الأخرى. وإذ ما اجهرت السلطة العثمانية بعدائها للشيعة واعتنقت المذهب الحنفي فإن ذلك لأسباب سياسية بحتة.
&
الطائفية والإحتلال البريطاني
اتبع الإنكليز في تعاملهم مع الشعوب المستعمرة، سياستهم المشهورة (فرق تسد). وكانواً يعتمدون على الأقلية ويسندون لها السلطة على حساب الأغلبية في أي بلد تحت سيطرتهم، وذلك من أجل خلق فجوة عميقة بين هذه الأقلية وبقية الشعب. فمن جهة، تؤدي هذه السياسة على تفتيت الوحدة الوطنية وتجعل الشعب مفككاً وضعيفاً في نضاله من أجل التحرر. كذلك تجعل هذه الأقلية ضعيفة إزاء الأغلبية، ومن أجل استمرارها في السلطة، تضطر إلى أن تعتمد على الدعم الخارجي (المستعمر) واضطهاد الأغلبية في الداخل. وبذلك تسهل سيطرة المستعمر على ذلك الشعب بربط ديمومة حكم النخبة مع مصالح المستعمرين.
وعملاً بسياستها -دعم الأقلية- كانت الحكومة البريطانية قد انتصرت للشيعة في العراق إبان الحكم العثماني، لأن الطائفة الشيعية كانت تشكل الأقلية في الإمبراطورية العثمانية. فهناك الكثير من المناسبات التي تدخلت القنصلية البريطانية في العراق للدفاع عن الشيعة في أواخر القرن التاسع عشر، عندما كانت تتعرض للاضطهاد من قبل السلطات العثمانية. وكانت تعمل ذلك على أمل زعزعة الحكم التركي بالإعتماد على الأقليات من شعوبها.
ولكن تغيرت هذه السياسة (نصرة الإنكليز للشيعة) بعد الحرب العالمية الأولى وبعد طرد الأتراك من العراق، حيث برز الشيعة العرب كأكثرية في العراق، لذلك قرر المستعمرون الإنكليز، معاملة العرب كسنة وشيعة بشكل مختلف، وحكمهم على أساس التمييز العرقي والطائفي والاعتماد على الأقلية العربية السنية وإثارة النعرة الطائفية.
وهناك عامل آخر دفع الإنكليز إلى إضطهاد العرب الشيعة وحرمانهم من التمتع بالحقوق وتكافؤ الفرص في بلادهم، ألا وهو أن المرجعية الشيعية وعشائر الوسط والجنوب، قد أعلنوا الجهاد ضد الإحتلال البريطاني ووقفوا إلى جانب الأتراك على أساس الدفاع عن الدولة الإسلامية ضد "الكفار". كذلك ثورة العشرين التي كان الهدف منها هو الإستقلال التام للعراق والدفاع عن كيانه وقيام حكم دستوري، ديمقراطي، برلماني مستقل.
إن ثورة العشرين وإن لم تحقق جميع أهدافها، فإنها قد حققت بعضها، وأهمها: إرغام بريطانيا على التخلي عن مشروعها الإستعماري الإستيطاني وتأسيس الدولة العراقية الحديثة. وهذا بحد ذاته يعد مكسباً عظيماً من مكاسب الثورة. وهناك مقولة فرنسية تفيد: (يقوم بالثورة الشجعان ويموت فيها المجانين ويقطف ثمارها الجبناء). وهذا ما حصل لأبطال ثورة العشرين. لقد استلم الحكم الأهلي أولئك الذين وقفوا إلى جانب الإنكليز إثناء الثورة، فيما نفي معظم قادتها إلى الهند ومن ثم تم تهميشهم في حكم بلادهم.
وهناك إعترافات من قبل الحكام الإنكليز في العراق على أهمية ثورة العشرين. فتقول المس بيل في أوراقها بهذا الخصوص: ((لم يكن يدور بخلد أحد ولا حكومة صاحبة الجلالة، ان يمنح العرب مثل الحرية التي سنمنحهم إياها الآن كنتيجة للثورة -ثورة 1920-))2 . كذلك يعترف ناجي شوكت في مذكراته أنه لولا ثورة العشرين لما تأسست الدولة العراقية.
لقد أثارت الثورة ضغينة الإنكليز ضد الشيعة. فقد أوضحت المس بيل وبانفعال شديد موقفها من الشيعة قائلة: "أما أنا شخصياً فأبتهج وأفرح أن أرى الشيعة الأغراب {الأوباش} يقعون في مأزق حرج. فإنهم من اصعب الناس مراساً وعناداً في البلاد"3.
لذلك قرر الإنكليز تشكيل حكم أهلي في العراق وإعطاء المناصب لأولئك الذين ناصبوا الثورة العداء، وعزل الشيعة. لقد اختير عبد الرحمن النقيب رئيساً للحكومة الأهلية، مكافئة لإخلاصه للمحتلين. وينقل المؤرخ مير بصري في كتابه (أعلام السياسة في العراق)، عن النقيب قوله: "إن الإنكليز فتحوا هذه البلاد وأراقوا دماءهم في تربتها، وبذلوا أموالهم من أجلها، فلا بد لهم من التمتع بما فازوا به".
قرر الإنكليز تنصيب الأمير فيصل ملكاً على العراق بعد استفتاء صوري. وقد بايعه قادة ثورة العشرين على شروط وهي: تحقيق الاستقلال الناجز، والديمقراطية والدستور وبرلمان منتخب. لكن الإنكليز أرادوا أن يحكموا البلاد من وراء الكواليس وربطها بالمعاهدات الجائرة. الأمر الذي لم يرض عنه قادة ثورة العشرين، فتم نفيهم، لأنهم أرادوا تحقيق كل شيء بدفعة واحدة.
وهكذا تأسست الدولة العراقية الحديثة على أساس الطائفية ومارستها ببشاعة ضد أغلبية الشعب العراقي، جميع الحكومات العراقية المتعاقبة، باستثناء حكومة ثورة 14 تموز المجيدة، لأن قائدها الشهيد الزعيم الوطني الخالد عبد الكريم قاسم أصر على معاملة العراقيين بالتساوي وبدون أي تمييز عنصري أو طائفي، لذلك انتقموا منه شر انتقام.
يتبع