د. شاكر النابلسي
&

&
كان في بغداد صنم من الوهم.
وهم القوة، ووهم التسلط، ووهم الجبروت، ووهم آلهة الرافدين التي كانت تمنح وتأخذ، تُحيي وتميت، ترفع وتخفض، تخلق وتُسخِط، وتجفف النهرين، ثم تعيد مجراهما ثانيةً.
كان "صنم الوهم" في بغداد أشبه بآلهات التمر والعجّوة التي كانت تصنعها الأعراب في الجاهلية، حتى إذا جاعت الأعراب أكلت أربابها.
إذا كان التاسع من نيسان 2003 قد أنهى تأريخا للعرب وبدأ تأريخاً جديداً، بحيث أصبح التأريخ العربي في القرن الحادي والعشرين يُؤرخ فيما قبل التاسع من نيسان وفيما بعد التاسع من نيسان، ليس لأن عاصمة عربية احتُلت من قبل أجنبي. فكثير من العواصم العربية قبل بغداد في القرن العشرين وقبل القرن العشرين احتلتها جيوش أجنبية، فلم يكن لهذا الاحتلال الأثر الذي ظهر بعد التاسع من نيسان 2003 ، وذلك للاسباب التالية:
&
1-&& أن الجيوش المحتلة السابقة، لم تكن قد أتت لكي تحرر شعباً من حكامه الطغاة الذين قتلوه ونهبوا ثرواته.
2-&&& أن الجيوش المحتلة السابقة، كانت تحتل العالم العربي بحجة أنها تلقت أمراً من السماء بذلك، كما قال تيمورلنك في دمشق عام 1401 رداً على ترحيب المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون بمقدم تيمورلنك، باعتباره سلطان العالم وملك الدنيا، كما قال له ابن خلدون في ذلك الوقت.
3-&& أن الجيوش المحتلة السابقة غزت أجزاء من العالم العربي بحجة المحافظة على الإسلام وتنفيذ أوامره كما فعل العثمانيون في عام 1517 عندما دخل السلطان سليم الأول حلب وصلى صلاة الجمعة، فاستقبل الغازي بالمصاحف المرفوعة والتسبيح والتكبير، ووقف الخطيب يبلغ الغازي بأنه غزوه للشام إنما هو أمر من الله وقاله له: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، كما& ذكر محمـد كرد علي في& (خطط الشام، ص211).
4-&& أن الجيوش المحتلة السابقة قد غزت العالم العربي لاستنزاف ثرواته كما فعل الفرنسيون في الجزائر عام 1832 ، وكما فعلوا في بقية انحاء المغرب العربي في 1912 وفي سوريا ولبنان بعد الحرب العالمية الأولى، وكما فعل البريطانيون في مصر 1882 والعراق بعد الحرب العالمية الأولى وفلسطين والأردن والخليج العربي.
&
في حين أن التاسع من نيسان 2003 جاء بحجة الكشف عن أسلحة الدمار وهي حجة لتبرير الهدف الرئيسي من الحملة، وهو الاطاحة بالنظام الديكتاتوري القائم، لأن العرب لم يكونوا ليقبلوا اطلاقاً من أمريكا وبريطانيا منذ البداية أن يأتوا للاطاحة بنظام عربي حتى ولو جلد هذا النظام ظهور مواطنيه وسرق مالهم، وذلك تصديقاً للحديث النبوي الضعيف الذي تردده المؤسسات الدينية العربية المختلفة الرسمية في بعض الدول العربية والقائل: "أطع حاكمك ولو جلد ظهرك وسرق مالك".
&فلماذا تم اختيار النظام العراقي، ولماذا كانت القرعة على اسقاط صنم الوهم الأكبر العراقي وليس اسقاط "أصنام وهم" كبرى كثيرة غيره في العالم العربي؟
لقد كان لدى دول التحالف التي أسقطت نظام صنم الوهم الأكبر العراقي مبرراتها في أن تكون الأولوية لهذا النظام منها: أن النظام العراقي هو أكثر الأنظمة العربية الديكتاتورية طغياناً وجبروتاً وقوة وبوليسية، وكان لا بُدَّ من البدء في الكبير لكي يرتعد الصغير، وكان لا بُدَّ من البدء بالقوي لكي يكون عبرة للضعيف، وكان لا بُدَّ من البدء بالغني لكي يحذر الفقير. ومن هذه الأسباب أيضاً أن العراق بموقعه الجغرافي وحضارته القديمة وتقدمه العلمي النسبي وتعدده العرقي والديني وخصوبته الزراعية وغناه النفطي، يمكن أن يكون بهذه الامكانات مجتمعة، المثال المُحتذى للحداثة السياسية والتطبيق الديمقراطي السليم في العالم العربي، فيما لو تم تطبيق المشروع السياسي الحداثي في العراق بدقة ونجاح تامين.
ومن هنا نقول أن التاسع من نيسان لم يكن للعراق وحده ولكنه كان الفاتحة والباب العريض لدخول الحداثة السياسية للعالم العربي.
أما لماذا كان التاسع من نيسان 2003 بداية تاريخ جديد للعالم وعلى وجه التحديد أوروبا وأمريكا فذلك يعود للاسباب التالية:
&
1-&& أن التاسع من نيسان قد فرز فرزاً واضحاً ودقيقاً بين بعض الدول الأوروبية وبين أمريكا وكشف الغطاء عن وجه بعض الدول الأوربية التي لا تريد لأمريكا أن تكون مُعلمة للحداثة السياسية في العالم العربي في الوقت الذي كانت فيه فرنسا من خلال حملة نابليون على مصر 1798 هي الرائدة في هذا المجال، حيث يُعزى لهذه الحملة تحقيق عصر الأنوار "نهضة مصر" في عهد محمد علي باشا وما بعد ذلك، وحيث يُعزى لها أيضاً أنها أطلقت أو شعاع للتنوير في العالم العربي كله، وفتحت أبواب الغرب لعيون مثقفي الشرق لكي يتعرفوا على منجزات التنوير الغربي من خلال بعثات محمد على باشا الدراسية لفرنسا وغيرها.
2-&& أن التاسع من نيسان قد فرز فرزاً واضحاً بين الدول الأوروبية التي لم يكن من مصلحتها الاطاحة بـ صنم الوهم الأكبر العراقي والانتظار حتى يسدد ديونه لها، وبعدها لتفعلوا ما تشاؤون به. وكان ذلك واضحاً من خلال الخلاف الذي دب بين بريطانيا واسبانيا واستراليا من جهة وبين فرنسا والمانيا وروسيا (أصحاب الديون الكبيرة والمصالح مع النظام العراقي) من جهة أخرى. وقد امتد هذا الخلاف وهذا الفرز السياسي إلى الأوساط الدولية وشهدنا المشاجرات وعمليات الشدِّ التي تمت بين هذه الدول في محافل الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي.
3-&& أن التاسع من نيسان وضع أمريكا في قلب العالم العربي بحسناتها وسيئاتها، دون منافس لها كما كان عليه الحال أثناء الحرب الباردة، وكما كان الحال عليه عندما كان الاتحاد السوفياتي 1956-1989 يسيطر بسياسته وسلاحه وخبرائه ومستشاريه وعلمائه وسفرائه وبعثاته التعليمية على أكثر من نصف العالم العربي (مصر، سوريا، العراق، الجزائر، ليبيا، جنوب اليمن). وتلك هي المرة الأولى الآن في تاريخ العرب وفي تاريخ الغرب التي يجري فيها انفراد دولة واحدة عظمى بالعالم العربي دون الآخرين. ولعل وضع أمريكا ونفاذها في العالم العربي من خلال العراق فرصة ذهبية للعرب لكي يأخذوا من أمريكا حسناتها ويتركوا سيئاتها. فهاهي امريكا (العالم الجديد) قد جاءت إلى العالم العربي بنظامها السياسي البراق، وحداثتها، وعولمتها، وعلمها الغزير، ومالها الوفير، وإعلامها المتألق، إلى العالم العربي، دون أن يكلف العالم العربي نفسه بالذهاب اليها. أما السيئات الأمريكية فهي تتمثل في عدم خبرة الادارة الأمريكية سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية في ادارة شؤون البلاد الأخرى وخاصة العالم العربي المتميز. وهو ما حصل في العراق عندما صممت امريكا تطبيق النموذج الياباني بعد 1945 على العراق، دون مراعاة لكل الاختلافات الكبيرة واختلاف الزمان والمكان بين اليابان والعراق. فللمرة الثانية يأتي الغرب الينا حاملاً مشعل التنوير. المرة الأولى كانت في حملة نابليون على مصر 1798 والمرة الثانية 2003 في حملة التحالف على العراق. وللأسف أننا في كلا المرتين ورغم مرور أكثر من مائتي سنة (1798-2003) ما زلنا ننظر إلى الغرب تلك النظرة العدائية التكفيرية الدينية القومية التعصبية الضيقة. بل إن المصريين قابلوا نابليون في مصر بأحسن مما قابلنا بريمر في العراق. وكانت ردود الفعل العربية على حملة نابليون على مصر أفضل بكثير وأكثر ايجابية من حملة التحالف على العراق لمن يقرأ التأريخ ويدقق في تفاصيله ويومياته.
(يُنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية،
&و"الأحداث المغربية"، و "المدى" العراقية)