موسى الخميسي
&
&
&
يمر العراق هذه الأيام بأصعب مرحلة تاريخية حيث المخاطر تحيط به من كل جانب وتهدد وجوده ووحدته ومستقبله إضافة الى حالة الغضب الذي يملأ نفوس العراقيين من الحالة التي تمر بها بلدهم من تدهور الأمن والظروف المعيشية الصعبة.
وفي هذا الزمن الذي يشتد فيه سعار النزعات الطائفية والعشائرية والتكفيرية، تتم عملية تغييبّ واحتجاب الآخر، ليخفت صوته، او يرغم على الصمت.
ونزعة الاستكبار هذه التي تمارسها بعض الأحزاب والجماعات الدينية والطائفية في العراق، تنصّب لنفسها دور احتكاري في توزيع الغنائم، وآخر بوليسي يستلم شرعيته الكاذبة من الدين، ليستعمل السلاح الأصولي في رفض الآخر، بداية بتكفيره وانتهاء بهدر دمه كما يحصل هذه الأيام مع أبناء الطائفة المندائية في جنوب العراق .
لقد تفنن البعثيون خلال سنوات حكمهم من صنع ظاهرة العنف التي امتدت الى دقائق الحياة العراقية لتكتسب شموليتها وتكاملها بمرور الزمن، ولقد جر هذا العنف الى مطحنته مئات الألوف لا لسبب ما فعلوه لكن بسبب ما فكروا به واعتنقوه من عقائد وقيم وأفكار، ولم يسلم أبناء الطائفة المندائية من سياسة حافة الخوف التي كانت تنتجها مؤسسات الدولة آنذاك، فتلثم الصابئي المندائي في ذلك الزمان كما هي الحال هذه الأيام ، بكوفيته(غترته) ليخفي لحيته من الظهور، وبعضهم وضع لها دبوسا ليطويها حتى تختفي تحت رقبته من اجل ان لا يسمع كلمات الإهانة والتهديد والمطالبة بدفعه الجزية مادام من أهل الذمة في زمن مثل زمننا الحاضر يطلق عليه ما بعد الحداثة، فنزلت الجفون المندائية خفية من ان يقطعها حد السيف ، وفرض التعتيم والقسر واجبار نسائنا المندائيات على العودة لعصر الحريم والتخلف وارتداء الاحجبة السوداء الغريبة عن ثقافتنا العراقية المنفتحة، كما صار العديد من الشباب يبدلون اسم ديانتهم في مستندات الجنسية وشهادة الجنسية العراقية ليحولوها الى إسلامية مخافة النظر إليهم كأعداء في وطنهم الذي سكنه أجدادهم منذ آلاف السنين.
ويبدأ المنفى الجديد داخل الوطن ليجعل المندائيين في انكفاء مؤلم، فبعد ان كان آبائنا يصرون بعدم تعلمنا اللغة المندائية الآرامية مخافة ان تكتشف معاداتنا الوهمية لابناء جيلنا من زملاء مقاعد الدراسة ، أصبحت هذه اللغة اليوم منفى عازلا، عوضا ان تكون تعبيرا وانعكاسا عن العلاقة الثقافية المتحركة بين الذات المندائية ومجتمعها، فأغلقت منافذ الرؤيا والتعبير بحجة التمسك بعصا الشريعة وبالعودة الى الجذور، تخفي في طياتها انحطاط التخلف وفرض الجهل.
الا ان الآباء المندائيين في بلدان المهجر ومن منفاهم لا زالوا مع حلم كل أبناء العراق في سعيهم الدائم للحياة العصرية الحديثة، حلم بمشروع حضاري لعصر جديد من الحرية والديمقراطية والإبداع والمواطنة الحقيقية المتساوية بمختلف ألوانها وانتماءاتها، يكون فيها حق الاعتقاد والعبادة أصيلا وليس مّنة من الأكثرية للأقلية
فحضارة الأمة المتقدمة تقوم على وعيها وفكرها وليس على سيفها ورمحها.
المندائيون اليوم يعلمون أولادهم بان الديمقراطية هي فن الاعتراف بالآخر، وهي لا تقوم على قوانين بل تقوم قبل كل شيء على ثقافة سياسية. يعلمونهم بذخيرة الوطن، متلمسين ذكرياته، كما لو انها أشياء حية ، يلقنونهم تفاصيله وجوهره، وتتصل أدعيتهم الدينية اليه وتتجه أغانيهم من ألوان فسيفسائه وأشكاله.
اما في داخل الوطن فانهم يتقطرون خوفا وتحذيرا من الفضاءات المفتوحة على العنف التي لم يسلموا منها في ظل اعتى الديكتاتوريات القمعية في العالم ليصبح كل منهم الآن تحت المشهد القسري في تحويل عقيدته الدينية.
الواجهة الشرعية الحالية بعد سقوط النظام السابق، تبقى هشة ممنوحة من فوق، وقابلة لان تسترد في أية لحظة بوجود حياة طوارئ للنظام الحالي، وإزاء هذا الوضع الخطير لا يريد أحد منا في الداخل او الخارج ان يضع حياته وأيمانه موضع التجريب لنوايا قادرة بجعل كل الضمائر الحية تشعر بالوجع.
فالآخر الذي هو نحن، يمتلك سمات تاريخية ومعرفية وثقافية، ومفهوم الوطن متجذر في وعيه وفكره، له مطالبه ويسعى لتوسيع وبناء مجاله الثقافي، كما ان هذا الآخر يدرك تماما بان الرغبة بالتمايز جوهرية في مسيرة أي مجتمع معاصر، لأنه يعرف بنفسه قدر معرفته للآخرين الذين حوله، مع التأكيد على شعوره بأنه جزء من كيان اجتماعي متعدد القوميات والأديان والثقافات، الا انه يحتاج أيضا الى ترسيخ إحساسه بكينونته بوصفه جزء مكمل من فسيفساء البناء، لان مثل هذا جوهري لهويته التي ينبغي النظر اليها بوصفها ارث مشترك يساهم بربط الثقافات الأخرى داخل وحدة البناء الاجتماعي.
الاعتراف بالآخر يعني قبوله في المراكز والوظائف المرموقة بالدولة، واحترام هويته وانتمائه الفكري والديني والثقافي، وعدم النظر أليه بوصفه غريبا ووضع سياجا لفصله عن محيطه، انه غير قابل للانفصال عن كينونات مجتمعه الأخرى، فمثل هذه العلاقة حاسمة لفهم دورة التفاعل الاجتماعية المشتركة التي تشترط التفاعل والاتصال بطريقة تحفظ التلاحم الداخلي وتسمح بالاحترام والاعتراف بينه وبين الآخرين، اذ لا يمكن لأي مجتمع متعدد الثقافات ان يتواصل في سيرورته من خلال سحق وتهميش وتغييب الآخر.
يتطلب من الجميع وخاصة مجلس الحكم الحالي، جهدا واعيا لمعالجة ظاهرة إبعاد وتهميش الآخر عن المسؤولية في اتخاذ القرار في عملية إعادة بناء الجسد العراقي وما يحمله من مفاهيم وقيم ووظائف وعلاقات، فالآخر حتى وان كان صغيرا قياسا للآخرين، فهو بحاجة الى إعادة صياغة إحساسه بالهوية الوطنية التي تكفل له التعامل مع عملية البناء الجديد لهذا الجسد المريض ، تتوافق مع ما موجود ، فله خبرته وكفاءته ومقدرته، تطالب الجميع السعي بعدم فصله وركنه في زاوية بعيدة حتى لا يشعر بأنه غريب عن بلده.
وفي هذا الزمن الذي يشتد فيه سعار النزعات الطائفية والعشائرية والتكفيرية، تتم عملية تغييبّ واحتجاب الآخر، ليخفت صوته، او يرغم على الصمت.
ونزعة الاستكبار هذه التي تمارسها بعض الأحزاب والجماعات الدينية والطائفية في العراق، تنصّب لنفسها دور احتكاري في توزيع الغنائم، وآخر بوليسي يستلم شرعيته الكاذبة من الدين، ليستعمل السلاح الأصولي في رفض الآخر، بداية بتكفيره وانتهاء بهدر دمه كما يحصل هذه الأيام مع أبناء الطائفة المندائية في جنوب العراق .
لقد تفنن البعثيون خلال سنوات حكمهم من صنع ظاهرة العنف التي امتدت الى دقائق الحياة العراقية لتكتسب شموليتها وتكاملها بمرور الزمن، ولقد جر هذا العنف الى مطحنته مئات الألوف لا لسبب ما فعلوه لكن بسبب ما فكروا به واعتنقوه من عقائد وقيم وأفكار، ولم يسلم أبناء الطائفة المندائية من سياسة حافة الخوف التي كانت تنتجها مؤسسات الدولة آنذاك، فتلثم الصابئي المندائي في ذلك الزمان كما هي الحال هذه الأيام ، بكوفيته(غترته) ليخفي لحيته من الظهور، وبعضهم وضع لها دبوسا ليطويها حتى تختفي تحت رقبته من اجل ان لا يسمع كلمات الإهانة والتهديد والمطالبة بدفعه الجزية مادام من أهل الذمة في زمن مثل زمننا الحاضر يطلق عليه ما بعد الحداثة، فنزلت الجفون المندائية خفية من ان يقطعها حد السيف ، وفرض التعتيم والقسر واجبار نسائنا المندائيات على العودة لعصر الحريم والتخلف وارتداء الاحجبة السوداء الغريبة عن ثقافتنا العراقية المنفتحة، كما صار العديد من الشباب يبدلون اسم ديانتهم في مستندات الجنسية وشهادة الجنسية العراقية ليحولوها الى إسلامية مخافة النظر إليهم كأعداء في وطنهم الذي سكنه أجدادهم منذ آلاف السنين.
ويبدأ المنفى الجديد داخل الوطن ليجعل المندائيين في انكفاء مؤلم، فبعد ان كان آبائنا يصرون بعدم تعلمنا اللغة المندائية الآرامية مخافة ان تكتشف معاداتنا الوهمية لابناء جيلنا من زملاء مقاعد الدراسة ، أصبحت هذه اللغة اليوم منفى عازلا، عوضا ان تكون تعبيرا وانعكاسا عن العلاقة الثقافية المتحركة بين الذات المندائية ومجتمعها، فأغلقت منافذ الرؤيا والتعبير بحجة التمسك بعصا الشريعة وبالعودة الى الجذور، تخفي في طياتها انحطاط التخلف وفرض الجهل.
الا ان الآباء المندائيين في بلدان المهجر ومن منفاهم لا زالوا مع حلم كل أبناء العراق في سعيهم الدائم للحياة العصرية الحديثة، حلم بمشروع حضاري لعصر جديد من الحرية والديمقراطية والإبداع والمواطنة الحقيقية المتساوية بمختلف ألوانها وانتماءاتها، يكون فيها حق الاعتقاد والعبادة أصيلا وليس مّنة من الأكثرية للأقلية
فحضارة الأمة المتقدمة تقوم على وعيها وفكرها وليس على سيفها ورمحها.
المندائيون اليوم يعلمون أولادهم بان الديمقراطية هي فن الاعتراف بالآخر، وهي لا تقوم على قوانين بل تقوم قبل كل شيء على ثقافة سياسية. يعلمونهم بذخيرة الوطن، متلمسين ذكرياته، كما لو انها أشياء حية ، يلقنونهم تفاصيله وجوهره، وتتصل أدعيتهم الدينية اليه وتتجه أغانيهم من ألوان فسيفسائه وأشكاله.
اما في داخل الوطن فانهم يتقطرون خوفا وتحذيرا من الفضاءات المفتوحة على العنف التي لم يسلموا منها في ظل اعتى الديكتاتوريات القمعية في العالم ليصبح كل منهم الآن تحت المشهد القسري في تحويل عقيدته الدينية.
الواجهة الشرعية الحالية بعد سقوط النظام السابق، تبقى هشة ممنوحة من فوق، وقابلة لان تسترد في أية لحظة بوجود حياة طوارئ للنظام الحالي، وإزاء هذا الوضع الخطير لا يريد أحد منا في الداخل او الخارج ان يضع حياته وأيمانه موضع التجريب لنوايا قادرة بجعل كل الضمائر الحية تشعر بالوجع.
فالآخر الذي هو نحن، يمتلك سمات تاريخية ومعرفية وثقافية، ومفهوم الوطن متجذر في وعيه وفكره، له مطالبه ويسعى لتوسيع وبناء مجاله الثقافي، كما ان هذا الآخر يدرك تماما بان الرغبة بالتمايز جوهرية في مسيرة أي مجتمع معاصر، لأنه يعرف بنفسه قدر معرفته للآخرين الذين حوله، مع التأكيد على شعوره بأنه جزء من كيان اجتماعي متعدد القوميات والأديان والثقافات، الا انه يحتاج أيضا الى ترسيخ إحساسه بكينونته بوصفه جزء مكمل من فسيفساء البناء، لان مثل هذا جوهري لهويته التي ينبغي النظر اليها بوصفها ارث مشترك يساهم بربط الثقافات الأخرى داخل وحدة البناء الاجتماعي.
الاعتراف بالآخر يعني قبوله في المراكز والوظائف المرموقة بالدولة، واحترام هويته وانتمائه الفكري والديني والثقافي، وعدم النظر أليه بوصفه غريبا ووضع سياجا لفصله عن محيطه، انه غير قابل للانفصال عن كينونات مجتمعه الأخرى، فمثل هذه العلاقة حاسمة لفهم دورة التفاعل الاجتماعية المشتركة التي تشترط التفاعل والاتصال بطريقة تحفظ التلاحم الداخلي وتسمح بالاحترام والاعتراف بينه وبين الآخرين، اذ لا يمكن لأي مجتمع متعدد الثقافات ان يتواصل في سيرورته من خلال سحق وتهميش وتغييب الآخر.
يتطلب من الجميع وخاصة مجلس الحكم الحالي، جهدا واعيا لمعالجة ظاهرة إبعاد وتهميش الآخر عن المسؤولية في اتخاذ القرار في عملية إعادة بناء الجسد العراقي وما يحمله من مفاهيم وقيم ووظائف وعلاقات، فالآخر حتى وان كان صغيرا قياسا للآخرين، فهو بحاجة الى إعادة صياغة إحساسه بالهوية الوطنية التي تكفل له التعامل مع عملية البناء الجديد لهذا الجسد المريض ، تتوافق مع ما موجود ، فله خبرته وكفاءته ومقدرته، تطالب الجميع السعي بعدم فصله وركنه في زاوية بعيدة حتى لا يشعر بأنه غريب عن بلده.
التعليقات