يواصل الكاتب اللبناني فؤاد مطر نشر سلسلة الاعمال الشاملة خاصة ما يتعلق منها بما يكتبه عن السودان نتيجة معايشته عن قرب لمجريات التطورات والاحداث خلال العقدين الاخيرين بشكل خاص، وهي بعنوان: حلو، مر السودان ـ تاريخ ما لن يهمله التاريخ عن السودانيين، العسكر والاحزاب".
في كتابه الجديد: "سنوات نميري بحلوها ومرها" لقاءات كان قد اجراها مع الرئيس السوداني السابق جعفر النميري ولم ينشرها، ليس من موقعه كصحافي واعلامي فحسب بقدر قربه مما جرى على الساحة السودانية، خاصة لجهة المصالحات التي نشطت وساطاتها في تلك الآونة.
الكتاب توثيقي ـ تاريخي يقارب، حسب مطر، التدرج الزمني في تجربة حاكم، والكتاب المقبل الذي سيعقبه بعنوان : "هموم العرب: حكاما ومحكومين".
وفيما يلي نص الاسئلة والاجوبة نسأله: ـ لماذا جاءت سلسلة كتبك من السودان متدرجة تحت عنوان جامع عريض يقول: "حلو، مر السودان، تاريخ ما لن يهمله التاريخ عن السودانيين، العسكر والاحزاب"؟ ـ شرحت ماذا يعني "حلو ومر، فهو نوع من الشراب المعروف في السودان، ويصنعه السودانيون في ايام الشهر الفضيل في رمضان، وتحسه ان نصفه حلو ونصفه الآخر مر. في البداية قد تشعر انه مر، لكنه ينتهي بالحلاوة.
والعكس صحيح. امر غريب عجيب. لكن "حلو ومر" انطبقت كتعبير ذات دلالات على الحالة السودانية بشكل كبير. بمعنى ان لكل امر فيها شيئا من الحلو، اي من الايجابيات التي يمكن تنفيذها تحت بند حلاوة كما ان فيه شيئا من المرارة، اما ان يكون مأساويا او تجاوزا للمنطق او العكس.
فاخترت ان يكون الكتاب الاول عن المصالحة الوطنية الاولى في السودان. فهي كانت عملا سياسيا مبهرا جدا في العالم العربي في الثمانينيات.
ـ اين اهميتها التي تصل بها الى مثل هذا المستوى؟ ـ اهميتها ان الحاكم فعل ما يمكن فعله بخصمه، اي قادة الانصار ومعهم المعارضة. والانصار تحدوا النظام كما لايتحدى معارضون نظاما. وسالت دماء كثيرة في بلد مفتون بالديمقراطية ، يحبها.
السودانيون اخذوا الديمقراطية كتقليد من الحكم البريطاني وهو خير ما فعلوه، لكنهم لم يؤصلوها مع الاسف، يعني انها غرست، لكنها مثل اي شجرة لاتحتاج فقط الى الطبيعة: تمطر فتزهر، بل هي بحاجة ايضا الى رعاية جيدة.
صارت المصالحة بين رأس النظام (جعفر نميري)، وأحد رأسي المعارضة (الصادق المهدي، فيما تخلى الرأس الآخر ورفض وهو الراحل الشريف حسين الهندي).
كان مجرد حدوثها عملا عظيما جدا. وتفاصيلها واردة في كتابي، كما لم يسجلها احد من قبل، لانني وضعت فيه كل ما لدي من معلومات واوراق ووثائق.
والواقع انه بشهادة بعض رموز المصالحة، وبالذات الوسيط التاريخي رجل الاعمال السوداني فتح الرحمن البشير كنت احد الساعين لها. كان ذلك نمطا جديدا تماما من التناول في مسألة التأليف. ويمكن لأي قاريء او ناقد ان يلمسه بالمقارنة مع تناولات اخرى.
وكنت قد عقدت عدة جلسات مع نميري الذي يشكل ظاهرة في تاريخ الحكم السوداني، ولها مقوماتها، وعلاماتها، وندوبها ايضا. يعني أنها مليئة بالندوب، كذلك بالايجابيات، وبالسلبيات، والمآسي،والتطور والمزاوجة بين المدني والعسكري، كان حكمه مدنيا ـ عسكريا براقا كثيرا لما حصل، وفي بلد طوائف اين منها طوائف لبنان الطوائف في السودان اساسية جدا.
اجريت جلسات عدة مع نميري، وقد تمت في اواخر حكمه، لكنني لم انشرها في حينه، فاحتفظت فيها. سقط الحكم بعد فترة. ولما بدأت أؤلف فيها وجدت انه بالامكان قراءة تاريخ مرحلة من خلال ما دار خلال تلك الجلسات، فحولتها الى كتاب وسميته: "سنوات نميري بحلوها ومرهاش.
والكتاب الاول في السلسلة (السودانية) كان بعنوان: "المصالحة الوطنية الاولى في السودان: انتكسوها ام انتكست؟ انسجاما وزنيا مع كتاب "نحروه ام انتحر؟" (وهو حول مأساة الحزب الشيوعي السوداني وما جرى له جزاء ما فعله في عهد نميري).
وثمة موضوعات اخرى في السلسلة نفسها، اعمل عليها.
ـ اي تبويب او تقسيم اعتمدته في الكتاب الجديد (سنوات نميري؟) هل هو الزمني، او وفق المواضيع التي كانت مطروحة؟ ـ اخذت مراحل حكم نميري بالتدرج من البداية الى ما قبل السقوط بقليل. لذلك يمكن اعتباره انه اخذ منهج التدرج الزمني في تجربة حاكم.
ـ يعني هل هو كتاب تاريخي ام تحليلي ام عرضي ام يندرج ضمن اطر اخرى؟ ـ هو كتاب توثيقي ـ تاريخي.
ـ ذكرت انه تضمن جلسات ولقاءات لم تنشر مضامينها في حينه، فما الجديد الذي فيها سودانيا وعربيا مثلا؟ ـ كله جديد.
ـ اقصد الجديد المهم الذي يكشفه الكتاب للمرة الاولى امام القراء؟ ـ فيه حقائق ومعلومات كثيرة. خذ مثلا انك التقيت مسئولا كبيرا حكم عشر سنوات، وبدأت معه، وبشكل حواري من عندما فكر ان يصل الى الحكم، او يحضر نفسه له، ومن الساعة التي بدأ فيها تلميذا حتى الساعة التي اصبح فيها في قمة المسئولية، تغطي بذلك للقاريء كل المراحل. انت تسأل وهو يروي. وهكذا فانك تخوض عالما ليس بسيطا.
ـ هل تضمن الكتاب اسرارا غير معروفة؟ ـ لا شك. دائما هناك اسرار غير معروفة عند الحاكم عندما يتحدث وهنا تبدو قدرة الصحفي، او الكاتب، او المؤلف، كيف يضع المسئول في اتجاه الكشف عن هذه الاسرار، ربما ما ساعدني بذلك بشكل خاص، انني تحاورت مع هذا المسئول (نميري) بروحية انني عارف هذه الاشياء، او بعضها على الاقل، او ملم بشيء، فكان متروكا له هو اما ان يعزز كلامي فيضيف عليه، او يكشف عن امور جديدة تماما، حتى يبدو ان ما يرويه اهم بكثير مما انا اعرفه.
ـ بحكم ضلوعك المعرفي في المسائل السودانية، الى اين يتجه السودان برأيك؟ ـ اما الى وفاق وطني، واما استمرار الاحتراب الى ماشاء الله، احيانا يمكن ان يبلغ الاحتراب مداه بتآمر وبدماء، يعني الاحتراب البارد. لكن لا حل الا بالوفاق الوطني. الحالتان السودانية واللبنانية كثيرتا الشبه. وكأن هذا هو قدر كل بلد في العالم ينتهي اسمه "بالالف والنون": (السودان، لبنان، افغانستان، ايران).
ـ عملك التأليفي المقبل بعد "سنوات نميري"، عن السودان ايضا؟ ـ لا .. سيكون عملي المقبل مفاجأة كبيرة بالنسبة لي، ولمعارفي، وزملائي ولعدد كبير من القيادات العربية، والحكام العرب، لكنها ليست في اطار المفاجآت المثيرة.
وسيكون عنوانه: "هموم العرب: حكاما ومحكومين"، وهو دراسة وتحليل واعداد لمراحل عملي كصحفي وناشر ومؤلف، وقد انجزها الدكتور خليل احمد خليل (الاستاذ في الجامعة اللبنانية)، وضمنها نصوصا مختارة من الكتابات. وسيكون الكتاب بأسلوب جديد كثيرا في مجال التأليف وكان العمل فيه مضنيا.
يبدأ مطر كلامه ردا على السؤال: ـاين يقع الكتاب في سياق الكتب الاخرى التي اصدرتها من حيث العدد والعناوين والمواضيع؟ .. هل هو تكملة للكتاب او كتب اخرى؟ فيجيب بقوله: ـ بالنسبة للكتب المتعلقة بالسودان، فقد عايشت الحالة السودانية من عام 1965، وبمتابعة دؤوبة جدا، وبدون انقطاع. وكانت المعايشة قائمة منذ البداية على انني صديق لجميع الاطراف في السودان، سواء كانت خارج الحكم او فيه، فالامر سيان. ولذلك وجدت نفسي بعد فترة ان المغضوب عليهم اصدقاء لي، والغاضبين الاشتراكيين اصدقاء، والاسلاميين اصدقاء، الثوريين اصدقاء، والمهديين (حماية حزب الامة وطائفة الانصار) اصدقاء .. وهكذا.
وقد كنت من القلائل الذين جابوا السودان من جوبا في الجنوب الى العاصمة المثلثة : الخرطوم، الخرطوم بحري، ام درمان، فوجدت ان لدي مخزونا كبيرا جدا من الامور السودانية. وساعد على تحويله، وان اخصص له سلسلة من الكتب، امران: اولا سبق انني في العام 1970 اصدرت كتابا حفر موضوعه، واسمه بالتالي في الذهن السوداني، وذهن اليسار العربي عموما، واسمه: "الحزب الشيوعي السوداني: نحروه ام انتحر"، عن "دار النهار" في بيروت. واعتمدت فيه بالدرجة الاولى وبالاضافة الى المتابعة والتحليل، على كمية كبيرة جدا من الوثائق.
جعلني هذا التوثيق اميل بعد ذلك الى ان تكون الوثيقة جزءا اما اساسيا من الكتاب الذي اؤلفه، او اعمل عليه، او مكملا ودعاما له.
ولذلك صرت اجمع بين التوثيق والتحليل واستحضار وقائع كانت ام غابت او تأخذ حقها في حينه بدأت بهذه السلسلة السودانية".
ـ كيف يندرج التحليل في اطار التوثيق؟ ـ كصحفي لاتستطيع ان تتناول قضية الا وتجد نفسك تحلل. انه تحليل لخدمة الموضوع، وليس في اطار الرأي الشخصي. من جهتي ابتعد عن كل ما يمكن ان يكون فيه رأي شخصي.
وأؤمن بأن علي ان اقدم للقاريء، وادعه هو يستنتج اكثر من خلال متعة القراءة، فبدل ان يقرأ الموضوع والتحليل والنتائج، وكل شيء، فأي دور يكون له؟ انا اعطي القاريء، الموضوع، والحيثيات، وما يمكن ان يكون على مشارف التحليل، تماما كمن يفتح ابوابا. واتركه لمتعته في الاستنتاج والخروج بنتيجة.
ـ لمن الغلبة في كتاباتك: الصحفي، ام للباحث، ام للكاتب، ام المعلق مثلا؟ ـ انها مزيج، يبدأ فيه الصحفي، ثم الباحث، فالمحلل، (وهكذا). وهذه امور ثلاثة متواصلة، اضافة الى ان جمعها يشكل نجاح العمل او عدم نجاحه، انني اتصرف كصحفي، لان هذه هي ارضيتي، وتكويني، واهمية الصحفي كبيرة في التأليف، لان لديه دائما بطبعه ما يدفعه الى ان ينبش حقائق او "يركض" وراء حقيقة.
اما الباحث فيبحث عن نقطة معينة، اذا وجدها تنتهي المسألة لديه. لكن الصحفي يصل الى هذه النقطة، فينطلق منها للمزيد، باحثا عن دوافعها، وخلفيتها، وابطالها، واشخاصها الذين سعوا من اجل تكوينها وما الى ذلك.
ولذلك اذا عملت مقارنة بين الكتاب الذي يؤلفه صحفي، والآخر الذي يكون من تأليف شخص غير صحفي، نلاحظ ان ثمة فارقا كبيرا في تلك المسألة.
اضافة الى ذلك ان الصحفي يعطي الكتاب قدرة على هضم الامور بطريقة افضل. اذ ليس لديه التعقيد، فيبسط الامور اكثر. ربما يعود هذا الى طبيعة العمل والاسلوب الصحفيين".
ـ بالنسبة للكاتب السياسي هل الحياد ضروري؟ واذا كان ضروريا في اهمية الالتزام بالنسبة له؟ وهل يمكن القول ان الحياد والالتزام على طرفي نقيض او تضاد؟ ـ انني على ابواب الاربعين سنة كصحفي. اعتقد ان الالتزام ضروري في مسألة واحدة، وبعد ذلك لديك هامش وساحة تصول فيهما وتجول ... وهو ، تحديدا، الالتزام بالقضية الوطنية، والقضية القومية، والى جانبه احترام المسألة الدينية الى اكثر حدود، سواء بما يخصك او يخص الآخرين. وعدا ذلك فانك ساحة كاملة من الاجتهادات اجتهد الى ما شاء الله. لكن ضمن تلك السقوف الالتزامية هنا يمكن الالتزام وذلك، فانني عندما احس بأن التزامي القومي يمكن ان يهتز قليلا اتراجع. كذلك بالنسبة لالتزامي الوطني. اما مراعاة المشاعر الدينية، فان لها عندي مكانة كبيرة جدا، والحقيقة ان مثل ذلك السقف هو حصانة على كل الاصعدة.
ـ برأيك اي نوع من الكتابات يستهوي القاريء العربي في هذه المرحلة؟ وهل صحيح ان التأليف مثل القراءة كلاهما الى تراجع؟ ـ ليس هناك تراجع في الحقيقة. بل هناك هجمة للقراءة بالعين، وبالمشاهدة، والذي كان ينتظر ليأتي الليل حتى يقرأ في كتاب قبل ان ينام، تماما كما هو الحال لجيلنا، صار امامه بحر من الفضائيات والبرامج الغريبة والعجيبة، وهي تأخذ من طريق القراءة والمطالعة.
لكن للكتاب حرمته، نكهته، وحس تذوقه مختلف.
والى ان تتراجع تلك الهجمة قليلا، فان الكتاب لن يندثر، لا هو ولا الصحيفة لانه لا شيء يوازي متعة ان تمسك بكتاب وتقرأ، او متعة قراءة صحيفة الصباح مثلا.(البيان الإماراتية)
&