بعد انهيار الستار الحديدي يبحث كل من الدبلوماسيين الروس والأمريكيين عن العلاقات الخاصة التي تربط بين بلديهما لكي تحل محل العلاقات المتدهورة بينهما خلال الحرب الباردة. بالنسبة للمواضيع الأمنية ليس هناك مجال للتعامل. كما أن العلاقات الاقتصادية أيضا ليس بها قدر كبير من التعاون أو التبادل وذلك نتيجة لضعف المؤسسات الاقتصادية فى روسيا. وهكذا فأن الموضوع الأساسي للتعاون بين البلدين أو الدبلوماسية الأمريكية أو الروسية هو الطاقة.
حيث تعتبر روسيا من البلدان الكبرى المنتجة للنفط فى العالم. وقد طرحت الحكومة الروسية فى أكتوبر 2000 (( استراتيجية تطوير مصادر الطاقة فى روسيا الاتحادية ))، مؤكدة على دفع عجلة الإنعاش الاقتصادي الى الأمام والحفاظ على مصالحها الجيوغرافية من خلال ترسيخ دبلوماسية الطاقة، حيث أن طريق تفكيرها العام هو " الحفاظ على استقرار أوروبا الغربية، و خوض غمار المنافسة في منطقة بحر قزوين، و فتح الأسواق الشرقية، و اختراق أسواق أمريكا الشمالية تحديا لمنظمة الأوبك ". فراحت روسيا، بعد " حادثة الحادي عشر من سبتمبر " تعمل بالكامل على فتح المجالات الدبلوماسية للطاقة على الجبهات التالية : أولها ترسيخ علاقات التعاون بينها و بين أوروبا فى مجال الطاقة ؛ وثانيها فرض تأثيرات أقوى على عمليات تطوير مصادر الطاقة فى منطقة بحر قزوين ؛ و ثالثها إنماء علاقات التعاون بينها وبين بلدان آسيا و محيط البحر الهادى؛ ورابعها تعزيز علاقات التعاون بينها وبين الولايات المتحدة فيما يتعلق باستراتيجية الطاقة
فى مؤتمر القمة الذى عقد فى الكرملين بين روسيا والولايات المتحدة فى مايو 2002 تعهد كل من الرئيس جورج دبليو بوش وفريديمير بوتين بالتعاون على احتواء الاضطرابات فى أسواق الطاقة النفطية على مستوى العالم الى جانب تشجيع الاستثمارات فى صناعة النفط الروسية. وبالفعل تم تكوين فرق عمل من الحكومتين للتعاون فى مجال الطاقة، وقد استحوذ الاهتمام بالطاقة وتجارة النفط فى موسكو على اهتمام وسائل الأعلام والأوساط الاقتصادية حيث أملت تلك الأوساط الاقتصادية والصحفية فى ان يؤدى التعاون بين الحكومتين الروسية والأمريكية فى مجال تصدير البترول الى ان يصبحا ندا لمنظمة الأوبك العالمية للدول المصدرة للبترول وبالتالي يمكنهما تقرير الأسعار العالمية لهذه الطاقة الحيوية.
إلا ان كل من الحكومتين الروسية والأمريكية قد فشلتا بالفعل فى التأثير على أسواق البترول العالمية أو حتى الاستثمار فى قطاع البترول الروسي. وهناك اختيار آخر بالنسبة للتعاون بين الحكومتين الروسية والأمريكية فى مجال الطاقة هو أنتاج القوى النووية، ويمكن للحكومتين من خلال هذا التعاون ان ينتجا تكنولوجيا جديدة من إنتاج الطاقة النووية كما يمكنهما إدارة نفايات هذه الطاقة.
التعاون بين روسيا والولايات المتحدة فى إنتاج الطاقة هذا التعاون يبدو على السطح منتهى العقلانية فى الاختيار. روسيا غنية بمادة الهيدروكربون – hydrocarbons والولايات المتحدة تحتاج الى ذلك العنصر.، ان الزيت والغاز يشكلان خمسي صادرات روسيا. وفى عام 2002 أعلنت روسيا أنها الأولى على مستوى العالم منذ الثمانينيات فى إنتاج البترول. فقد وصل انتاجها فى عام 2003 من البترول الى 8 ملايين برميل فى اليوم وهى تواصل زيادة انتاجها مستقبلا.
ان الولايات المتحدة مازالت اكبر مستورد للبترول واكبر سوق استهلاكية للبترول ومشتقاته. ففى هذا العام سوف تستورد الولايات المتحدة 60% من البترول وسوف يزداد استهلاكها واستيرادها الى 70% فى عام 2010، وهكذا تستمر فى الزيادة وبالرغم من هذه الزيادة المطردة فى استهلاك واستيراد البترول. إلا ان الاقتصاد الأمريكي لا يتأثر بتذبذب أسعار البترول مثلما كان الحال عليه من قبل ثلاث عقود. أما الذى يقلق الإدارة الأمريكية هو عدم الاستقرار فى الدول المصدرة للبترول.
على سبيل المثال عدم الاستقرار السياسي الموجود فى منطقة الخليج العربي الذى يصدر ربع احتياجات العالم، تليها نيجيريا والتي تعانى من صراعات مذهبية تؤثر على استمرار عمليات الإنتاج وكذلك أمريكا اللاتينية.
ربما بسبب عدم الاستقرار فى المناطق المصدرة للبترول، توثقت العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة ذلك ان كلا الحكومتين لديهما مصالح فى إنتاج الطاقة النفطية. بالنسبة للولايات المتحدة فمن مصلحتها ان تنوع مصادرهما من البترول حتى لاتعتمدان على مصدر واحد ومصلحة روسيا ان تزيد انتاجها وتصديرها للبترول وبالتالي زيادة العائد القومي إلا انه فى واقع الأمر الى الآن لم تستطيع الحكومتان التأثير على تجارة البترول ولا على آليات السوق التى تتحكم فى هذه التجارة كما أنه فى نهاية الأمر برغم تبادل المصالح بين الحكومتين إلا ان كلا منهما لديها استراتيجيتها وأوليتها الخاصة التى ربما قد تتعارض مع المصالح المشتركة. الولايات المتحدة لديها القدرة والقوة الاقتصادية التى تجعلها تتحمل تقلبات سوق البترول والأسعار ويمكنها استخدام نفوذها فى التحكم فى أسعار البترول عندما يرتفع بدرجة عالية لكن فى النهاية يظل نفوذها محدودا بالنسبة لروسيا فان كل ما يهمها هو البقاء على اقتصادها الذى يعتمد فى تمويله على الصادرات من البترول فهي لا تستطيع تحمل الهزات التى تحدث فى تجارة البترول وليس لديها هذا النفوذ الذى لدى الولايات المتحدة.
ان المثال على هذا الموقف بين الحكومتين الذى ضرب فى الصميم اثر الاختلاف فى القضية العراقية والرفض الروسي للغزو الامريكى للعراق. لاشك ان روسيا لديها مصلحة فى العراق لأمرين هما :-
أولا : الفاتورة التي كانت تدفعها العراق بأثر رجعى منذ عهد الاتحاد السوفيتي والتي تقدر ب12 مليار دولار.
ثانيا: شركات البترول الروسية التى كانت تسيطر على بعض حقول بترول العراق من خلال تأثيرها والاستفادة من عائدها وهذا يعنى ان الضمان الوحيد لبقاء هذه الحقول تحت سيطرة روسيا كان هو بقاء صدام حسين لأن بعض شركات البترول كانت قد نسقت مع المعارضة العراقية وكانت النتيجة ان صدام حسين قد الغي عقود الإيجار لصالح روسيا. لذلك كان يضغط المسئولون الروس على الإدارة الأمريكية لكي تضمن لهم حق تأجير استخدام حقول البترول المتفق عليها سابقا بين الحكومة الروسية وحكومة صدام حسين خاصة. إلا ان اندلاع الحرب وعدم الاستقرار فى العراق حيث تتعرض المنشات لهجمات يومية بالإضافة الى زيادة الواردات الصينية من النفط والاضطرابات فى نيجيريا الدولة الأفريقية البترولية مما أدى الى ارتفاع كبير فى أسعار النفط وقد يكون ذلك مؤشرا جيدا بالنسبة لروسيا واقتصادها حيث أنها تهتم بالدرجة الأولى بزيادة واردتها من عائدات البترول.
لا شك ان العلاقات الأمريكية الروسية ليست على قدر كبير من الاستدامة حيث ان من مصلحة الإدارة الأمريكية تنويع علاقتها مع الدول المنتجة للبترول فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية. هذا التنوع يكون فى صالح الإدارة الأمريكية أكثر منه فى صالح الحكومة الروسية حيث تجنب الولايات المتحدة التعرض للأحوال الغير مستقرة فى أسواق البترول بالفعل، فهناك مشاركة بين الولايات المتحدة وأسواق البترول مثل انجولا والبرازيل وكندا والمكسيك ونيجيريا وقبل كل هؤلاء العراق.
إن العلاقات الأمريكية الروسية فيما يتعلق بموضوع الطاقة المستخرجة من البترول قد لا تكون على قدم الوثاق أو التوافق حيث ان أمريكا تعتبر اكبر دولة مستوردة لديها مصالح مختلفة عن روسيا باعتبارها اكبر دولة مصدرة للبترول خاصة وان لدى الحكومة الروسية مشاكل عديدة فى هذا السوق بالذات لأنه ليس حكرا على الدولة، فالدولة ليست المنتج والمصدر الوحيد لجميع حقول البترول فى روسيا هناك شركات خاصة محلية وأجنبية. على سبيل المثال فقد خسرت شركة البترول البريطانية وهى من اكبر الشركات المستثمرة داخل روسيا نصف مليار دولار فى بداية التسعينيات لوجود عدم استقرار فى الاقتصاد الروسي وحيث تعرضت الكثير من شركات البترول الروسية الى الإفلاس. ربما يكون الاقتصاد الروسي أفضل حالا بعد تولى الرئيس بوتين،إلا انه مازالت هناك حالة من التشكك فى الاقتصاد الروسي لا تشجع عمليات الاستثمار الاجنبى خاصة فى قطاع البترول.
البترول وأبعاد أخرى للطاقة لتوثيق العلاقات الأمريكية الروسية :
وترى مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية انه يتعين على الحكومتين الروسية والأمريكية ان يضعا أجندة لإنتاج الطاقة والتي تركز على مصادر أخرى بديلة لمصادر الطاقة ليس فقط البترول حتى تصبح العلاقة بين الدولتين أكثر دواما. انه يتعين على الحكومتين ان يدرسا برامج تتعلق بالطاقة النووية وكيفية استخدامها للصناعات الصديقة للبيئة وليس لإنتاج الأسلحة. لذلك-وفق تلك الدراسات - قد يكون من المفيد ان تشترك روسيا وأمريكا فى برامج للتخلص من التكنولوجيا النووية المتخصصة فى إنتاج الأسلحة النووية حتى لا تقع فى ايدى الإرهابيين أو الدول المعادية. وبالتالي يتم التعاون والتنسيق بين الحكومتين على أساس الحد من أسلحة الدمار الشامل. فى هذا السياق يمكن توظيف عدد كبير من العلماء الروس بالذات فى إنتاج طاقة نووية تكون فى خدمة الإنسان وليس لتدميره. لأنه فى إطار الاتفاقيات العالمية للحد من الأسلحة سوف يصبح هؤلاء العلماء بلا عمل، إلا ان الأمر ليس بهذه السهولة حيث ان روسيا محاطة بالدول التي تمتلك التكنولوجيا النووية، وعلى الولايات المتحدة ان تفهم حساسية الحكومة الروسية فى التعاون مع مواضيع تتعلق بالتكنولوجيا النووية لأن الحكومة الروسية تعتبرها من أسرارها العسكرية. وهناك أيضا مشكلة قد تقف حائلاً للتعاون المشترك ويرجع ذلك للعلاقة بين روسيا وإيران.
إن التعاون بين موسكو وطهران فى الطاقة النووية له أبعاد متشابكة حيث تعتمد موسكو على التمويل الايرانى فى هذا الأمر الى جانب العلاقة بين البلدين فى مجال التبادل التجاري وصادرات البترول هذه الروابط الوثيقة بين حكومتي طهران وموسكو لا يمكن فضها بسهولة لأن لها جذورا جغرافية. لذلك إذا تم اى تعاون بين الولايات المتحدة وروسيا فى مجال الطاقة النووية فلا بد من وضع استراتيجية مدروسة لكي تتعامل مع واقع الأمر وهى العلاقة الجغرافية بين إيران وروسيا.
على كل حال ان مبدأ التعاون المشترك بين موسكو وواشنطن محاولة جيدة إلا ان الروابط التي تجمع بينهما لن تكون طويلة الأمد حيث تعتمد بالدرجة الأولى على البترول والطاقة النووية وكلاهما يشكلان اختلافات جوهرية بين الحكومتين بالنسبة للبترول فان أمريكا من مصلحتها التحكم فى أسعار البترول حيث لا ترتفع ارتفاعا كبيرا باعتبارها مستوردة، أما روسيا فمن مصلحتها ان تتدخل فى سياسة التسعير لأنه يعود عليها بالفائدة باعتبارها مصدرة.
أما بالنسبة للتكنولوجيا فانه موضوع شائك لانه يرتبط بحساسية العلاقة بين روسيا وإيران وبين اعتبار هذه التكنولوجيا من الأسرار العسكرية والأمنية لروسيا.
شريف عبد العظيم محمود
باحث فى العلوم السياسية القاهرة