حال اعلان الجمعية الوطنية العراقية المنتخبة عن تشكيل لجنة برلمانية من 55 نائبا لتولي كتابة الدستور العراقي الدائم المقرر الانتهاء منها بعد نحو ثلاثة اشهر فقط، سارعت الاوساط الفقهية والقانونية والسياسية في العراق الى تنظيم ندوات تدارسية حول المحاور الجوهرية فيه فيما صار واضحا ان قضايا محددة ومعدودة هي التي ستأخذ القسط الاعقد في المناقشات والجدل لعل في مقدمتها دور الدين الاسلامي في صياغة الدستور العراقي.

وبرغم ان تباينات الموقف باتت معروفة في هذا الصدد، حتى قبل تشكيل اللجنة، فان البحث عن حل شامل وواقعي يأخذ بنظر الاعتبار حماية مستقبل العراق ووحدته وتقدمه دون التضحية بالمبادئ هو الهم المشترك المعلن لكافة الاطراف الرئيسية المعنية بالدستور لا سيما تلك التي منحتها انتخابات الثلاثين من كانون الثاني الماضي شرعية تمثيل قانونية لم يعد يمكن الطعن بها جديا اذا استثنينا الجماعات او الجهات المناهضة جذريا او كليا للعملية السياسية الجارية في العراق حاليا.

وعلى العموم فان موقع الدين الاسلامي كمصدر لدساتير او قوانين عدد من الدول العربية والاسلامية المهمة ومواقف بعض الفقهاء والخبراء في هذا الشأن يمتلك اهمية كبيرة في بلورة تصورات السياسيين والخبراء العراقيين المكلفين باعداد الدستور الدائم الذي تفتقد له البلاد منذ عقود طويلة.

يعرف الدين بإنه مجموعة أحكام وفرائض تتصل بالعقيدة وتنظم العلاقات الروحية وتشذب الأخلاق وترفع من مستواها، توحيها شريعة ما وتلزم معتنقيها بها.

وتختلف الشرائع بما تأتي به من أحكام. فقد يقتصر بعضها على التنظيم الروحي والخلقي، كالدين المسيحي، وقد يتناول بالإضافة لذلك ما يربط الأفراد من روابط دنيوية ومعاملات كما هو الحال في الدين الإسلامي.

والدين يكون مصدراً للقانون إذا تضمن قواعد تنظم الروابط الإجتماعية والمعاملات وبهذا القدر فقط. ونحن لانجد أثراً للدين المسيحي في القوانين الغربية وفي نظمها السياسية، وإذا وجد فهو أثر غير مباشر ويكاد يكون مهملاً، ومثال ذلك ما عليه الحال في كثير من الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا والنمسا وسويسرا... حيث نظم القانون فيها، وبدون اللجوء إلى قواعد تنبع من شريعة ما، كثيراً من الشؤون، حتى الأحوال الشخصية، التي يخضع لأحكامها كافة المواطنين بصرف النظر عن عقائدهم الدينية.

بالمقابل، تعتبر الشريعة الإسلامية مصدراً مهماً للقانون في البلاد الإسلامية. إذ أن أثر الدين الإسلامي في معظم قوانين تلك الدول هو أثر ملموس. وذلك لإن الشريعة الإسلامية كانت المصدر الوحيد للقانون بكل فروعه منذ بزوغ فجر الإسلام. واستمرت تحكم، هي وحدها، نشاط الأفراد الروحي والدنيوي زهاء ثلاثة عشر قرناً تقريباً، قبل أن تزحف القوانين الغربية على معظمها في القرن التاسع عشر نتيجة للإستعمار العسكري من جانب الدول الغربية من ناحية، ولتمكن نزعة تقليد الغرب وحضارته في نفوس حكام المسلمين وكثير ممن تأثروا بهذه الحضارة من ناحية أخرى.

ولم يشذ على هذه القاعدة إلا بعض الدول التي نجت من الخضوع للإستعمار، فبقيت الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للقانون فيها.

كما بقيت الشريعة الإسلامية مصدراً مباشراً في تنظيم مسائل الأحوال الشخصية في مصر ومعظم الدول الإسلامية.

بيد اننا في وقتنا الحالي نرى إنقسام واضعي الدستور حول دور الدين والشريعة الإسلامية بين مؤيد ومؤكد على ضرورة تحديد الإسلام كدين رسمي للدولة واعتبار مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. وبين معارض يؤكد على عدم ضرورة تحديد دين الدولة في الدستور كونها ليست شخصاً طبيعياً، وإعتبارالشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع وليس المصدر الرئيسي له.

ومن أصحاب الرأي الأول الدكتور السنهوري الذي وجد في الإسلام دينًا ودولة، مع تميز الدين فيه عن الدولة، فهو جامع بينهما، ومميز -في ذات الوقت- لكل منهما عن الآخر.. فالدين الإسلامي فيه "العقيدة" و"الشريعة"، وعقيدته خاصة بالمسلمين دون سواهم، أما شريعته، ففيها "عبادات" و "معاملات"، وعباداتها خاصة بالمسلمين وحدهم، بينما معاملاتها، التي بسط الفقهاء مبادئها ونظرياتها وقواعدها في "الفقه الإسلامي" فإنها جزء من ثقافة الأمة، وأساس مدنيتها المتميزة، وقانونها الذي أبدعته الأمة -بالاجتهاد- الذي مارسته وتمارسه "سلطة الإجماع" -إجماع الفقهاء- الذين هم نواب الأمة، الذي يتولون -نيابة عنها- سلطاتها في التشريع والتقنين.

وإذا كان القرآن الكريم هو البلاغ الإلهي، وكانت سنة رسول الله هي البيان النبوي لهذا البلاغ القرآني، فإن السنهوري قد رأى أن ما في القرآن والسنة -وهما المصادر العليا للفقه الإسلامي كقانون عام لكل الأمة على اختلاف عقائدها الدينية- هو "التوجيهات" التي ترسم للفقه فلسفته التشريعية، ومبادئه الكلية، ونظرياته العامة، وقواعده التي تستنبط منها الأحكام… فالقرآن والسنة ليسا الفقه الإسلامي -الحاكم والموحد لكل الأمة- وإنما فيهما "التوجهات" التي يبدع في إطارها الفقهاء -نواب الأمة- صناعة الفقه -كقانون محض- بواسطة سلطة وآلية الإجماع.

فهذا الفقه الإسلامي ليس "دينًا خالصًا" حتى يكون خاصًا بالمسلمين وحدهم دون سواهم من رعية الدولة الإسلامية، بل إن "توجهاته" التي جاء بها القرآن والسنة من الممكن أن تزاملها "توجهات" الشرائع الكتابية السابقة على الرسالة المحمدية -في ملة إبراهيم وشريعة موسى ووصايا المسيح -عليهم الصلاة والسلام-؛ أي أن شرائع غير المسلمين -من رعية الدولة الإسلامية- في المعاملات -إذا وجدت ولم ينسخها التطور والتغير- كما هو حال الوصايا العشر مثلا، والقيم الإيمانية والأخلاقية، هي جزء من الشريعة الإسلامية، وفق القاعدة الإسلامية: "شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تُنسخ".

ومن ثم فإن هذه الشريعة الإسلامية، في توجهاتها الخاصة بالمعاملات، والحاكمة لصناعة الفقه والقانون، هي المرجعية الحاكمة لكل الأمة -وليس للمسلمين وحدهم- في شؤون الدولة المدنية والثقافة والقانون. فإذا كان غير المسلمين قد تُركوا مع ما يدينون به من عقائد، أي أن منطقة اختصاصهم وتميزهم عن غيرهم هي العقائد والعبادات، فإن المسلمين مثلهم في هذا التميز والاختصاص لهم عقائدهم وعباداتهم الخاصة بهم، والتي لا يعممونها على الآخرين.
فكل أبناء الديانات المتعددة في الدولة الإسلامية يتمايزون في العقائد والعبادات المتمايزة، بينما يشتركون جميعًا في الاحتكام إلى فقه واحد، وقانون واحد، وضعه فقهاء الأمة، الذين ينوبون عن الأمة في ممارسة سلطاتها في التشريع والتقنين، فالفقه الإسلامي فقه محض، وقانون خالص لكل الأمة، يصوغه فقهاء الأمة بسلطة الإجماع، في إطار توجهات الشريعة الإسلامية، وما لم ينسخ من توجهات الشرائع السماوية السابقة على شريعة الإسلام.

وللعودة إلى أصحاب الرأي الثاني الذين يدعون إلى إقامة الأحكام على أساس وضعي عقلي مستمد من أصول تشريعية رومانية وفرنسية وانكلوسكسونية باعتبارها أرقى ما توصل إليه الفكر القانوني العالمي، وإعتبار إن الإسلام نظام ثيوقراطي، نجد ان الردود على هذا الإتهام كانت تؤكد إن الدولة في الإسلام ليست ثيوقراطية لأن الحاكم في النظام الثيوقراطي سلطته فيه إما من رجال الدين وإما من الحق الإلهي بوصفه ظِلُّ الله في الأرض، بينما سلطة الحاكم في الدولة الإسلامية مستمدة من الناس لا من الله (سبحانه وتعالى). وهذا ما عبر عنه المفكر الاسلامي المصري السيد قطب في قوله ان: "مملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الألهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) والحكم الإلهي المقدس - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة".

من جانبه يقول الدكتور محمود أبو السعود "لا إشارة في الإسلام للحكم الثيوقراطي"، بمعنى لا يعطى الإسلام مطلقاً لشخص أو مجموعة أشخاص احتكار تفسير كلمات الله أو حكم المسلمين ضد إرادتهم الحرة".


أما الدكتور أحمد العسال فيرى بان: "الأمة في الإسلام هي الحاكمة، وهي صاحبة السلطة، هي التي تختار حاكمها، وهي التي تشير عليه، وهي التي تنصح له وتعينه، وهي التي تعزله إذا انحرف أو جار... والخليفة في الإسلام ليس نائباً عن الله، ولا وكيلاً له في الأرض، إنما هو وكيل الأمة ونائب عنها".

وردا على قول معارضي إعتبار مبادىء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع على اساس إن للقوانين الغربية أفضلية على الشرع الإسلامي، توسع المفكرون الإسلاميون من رجال الفقه والقانون في ردودهم على ذلك وناقشوا من منطلقات قانونية بحتة وعبر مقارنات دقيقة، أفضلية الأصول القانونية في الشرع الإسلامي على نظيراتها في القانون الروماني وغيره من الأصول الوضعية. فعلى سبيل المثال يستشهد الدكتور توفيق الشاوي بكتاب عبد الرازق السنهوري – "الخلافة ونظام الحكم الإسلامي" الذي أثبت فيه أن مبدأ الفصل بين السلطات هو حجر الزاوية في نظام الحكم الإسلامي، سواء من الناحية النظرية أو من الناحية العلمية مشيرا إلى اعتزاز البروفسور أدوارد لامبير الذي قدم للكتاب بسبب كشفه أن مبدأ الفصل بين السلطات، والسيادة الشعبية اللذين لم تعرفهما أوروبا إلا في العصر الحديث هما من أصول العلم الإسلامي في الشريعة الإسلامية قبل أن يعرفهما الفقه الأوروبي بعدة قرون. كما استشهد بكتاب "نظرية التعسف في استعمال الحق في الشريعة الإسلامية" للدكتور محمد فتحي، الذي أثبت فيه أن هذه النظرية التي لم تعرف في القوانين الغربية إلا في العصور الحديثة وجدت في الشريعة الإسلامية قبل ذلك بعدة قرون أيضا.


ومن خلال دراستنا لثمانية عشر دستورا من دساتير العالم العربي وجدنا فيما بينها إختلافاً في تحديد دين الدولة وفي تحديد دور الدين كمصدر للتشريع. فمنها من حدد الإسلام كدين للدولة ومنها لم يحدد لها ديناً معيناً. ومنها من إعتبر الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع فيما لم تنظم بقية الدساتير هذا الموضوع.

فقد ظهر لنا إن خمسة عشر دستورا قد حدد وبالــنص الواضح إن ديــن الدولة هو الإسلام وهـــي مصر والإمارات العربية المتحدة واليمن والكويت وسلطنة عمان والبحرين وقطر وليبيا والصومال والأردن وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا ومسودة دستور فلسطين. وفي سوريا حدد الدستور إن الإسلام هو دين رئيس الجمهورية دون تحديد دين الدولة، فيما حدد دستور السودان إن الإسلام هو دين غالب السكان. أما الدستور اللبناني وبالعودة إلى إتفاقات الطائف فقد إكتفى بتحديد دين رئيس الدولة على إنه يجب أن يكون مسيحيا مارونيا على أن يكون رئيس الوزراء مسلما سنيا.

بالمقابل، لم تحدد دساتير مثل الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا ديناً للدولة، بينما أشارت فرنسا في دستورها الى إن فرنسا جمهورية علمانية ديمقراطية إجتماعية، كذلك فعلت دساتير ساحل العاج وتركيا وبهذا لم يتم تحديد دين معين للدولة وتم فصل الدين عن الدولة وإعتبار كل منهما مؤسسة قائمة بذاتها لها نظامها الخاص.

أما فيما يتعلق بدور الدين كمصدر للتشريع فقد تباينت دساتير الدول العربية ما بين تلك التي تعتبر الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ومنها مصر والإمارات العربية المتحدة واليمن والكويت وسلطنة عمان وسورية والبحرين وقطر وليبيا ومسودة دستور فلسطين والصومال، فيما لم تنظم دساتير دول أخرى هذه المسألة كما هو حال الأردن وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا والسودان ولبنان.

وبنظرنا، فأن الشريعة الإسلامية تمتاز عن القانون الوضعي بأنها مزجت بين الدين والحياة، وشرعت للدنيا والآخرة. وهذا هو في الواقع السبب الوحيد الذي يحمل المسلمين على طاعتها في السر والعلن والسراء والضراء. اي أنهم يؤمنون طبقاً لأحكام الشريعة بأن الطاعة نوع من العبادة يقربهم من الله، بينما الحال في القوانين الوضعية عكس ذلك فهي مطاعة بقدر ما تخشى من الوقوع تحت طائلتها وهي لهذا تخرق كلما أمكن الإفلات من يد القائمين على تنفيذ القانون. الأمر الذي يفسر الزيادة المضطردة للجرائم في البلاد التي تطبق القوانين الوضعية بينما يلاحظ حدوث العكس أينما طبقت مبادئ الشريعة وساد التمسك بقيم الإسلام.


* حمدية الحسيني، ماجستير في القانون، وخبيرة دولية في الدستور والانتخابات.