لماذا قتل عمر المختار؟
طرحت هذا السؤال على جماعة من الأصدقاء بعد أن شاهدنا الفيلم الرائع الذي أخرجه الفنان السوري الراحل مصطفى العقاد. أجرأهم على الجواب قال: أنت تعرف السبب.
كنت أعرف ما يعنيه قوله؛ كان يقصد حتما أن الإيطاليين قتلوا عمر المختار لأنهم مستعمرون غزاة، ولأن عمر المختار مدافع شرس عن كرامة المواطن الليبي الأعزل.
وهذا القصد فيه قدر ضئيل من الحقيقة، والبقية تصور خاطئ للأمر بسبب (ما لا يرى) من القضية حسب قول الاقتصادي الفرنسي فريدريك باستيا.
دافع عمر المختار عن كرامة المواطن الليبي، وعن شرفه، وعن وجوده، ولكن بأية وسيلة؟
قد أكون مخطئا إن قلت لكم أن عمر المختار ساهم في مقتله، لكن أريد أن أكون لطيفا مع شعورنا المرهف نحن المسلمين هذه الأيام، وأن نشرح الأمور في ضوء تحليل تاريخ الحدث نفسه.
قبل أن يظهر المشهد المؤلم في الفيلم؛ حيث سقط جواد عمر المختار أرضا، كان قد مر أمام أعيننا جميعا مشهد أكثر تعبيرا، حيث كان عمر المختار شهما حقيقيا يفاوض الإيطاليين، في صورة نبي يدافع عن قيمة الإنسان.


لكن مشهد الشنق، وانحناءة الطفل ليأخذ نظارة شيخه، وسخطنا العارم على الإيطاليين، أمور حجبت حقائق عن بصيرتنا، وحسمنا ndash;بصفة مطلقة- أن الإيطاليين فعلا هم من قتل عمر المختار.
نحن نعرف أن مقتل عمر المختار لم يحرر ليبيا من الاستعمار، إلا حينما كان الإيطاليين أنفسهم مستعدون للرحيل، فعمر المختار خسر الاستقلال بأن قُتل.


ونعرف أيضا -في صورة أخرى لتحرير بلد من الاستعمار- أن المهاتما غاندي قاد الشعب الهندي إلى ميدان التحرير دون أن تتمكن بريطانيا من شنقه، وحرر دولة كبيرة كالهند يفوق سكانها أضعافا سكان ليبيا، وهي بلد يسيل له لعاب المستعمر، بمركزها الجغرافي وخيراتها الطبيعية، وقوة سوقها الاستهلاكية، لكن رغم كل تلك العوامل خرجت بريطانيا من الهند دون أن تتمكن من قتل من قاد تلك الأمة إلى ميدان التحرير.
وغاندي تعلم بعض دروس الكفاح بجنوب إفريقيا، البلد الذي اشتهر بمحرر آخر اسمه نيلسون مانديلا، محرر الأفارقة من العنصرية البيضاء، وهو الاستعمار الأكبر الذي عانى منه السود على مر التاريخ. الاستعمار وفق الألوان.


لكن نلسون مانديلا أيضا لم يقتل، وهو اليوم يتمتع بسنوات عمره، وسط بلده حيث تساوى البشر أخيرا، ويحظى بالتكريم في كل أرض تطؤها قدماه، اعترافا بقيادته لشعب كامل إلى المساواة.
نماذج مثل غاندي ومانديلا قليلة جدا، وفريدة أيضا، ونحن نريد أن نعرف السر وراء مقتل البعض، ونجاة البعض الآخر، هل هي معجزة أم مجرد مصادفة تصنعها الأحداث؟
لقد سال لعاب بريطانيا للهند أكثر مما سال لعاب إيطاليا لليبيا، البلد الصحراوي القاحل، والسوق الاستهلاكية الضعيفة.


لكن من قاد الكفاح من أجل التحرير في الهند نجا وكان عبرة، وسمي حكيما، ومن قاد كفاح الليبيين قتل، وتأسف الناس على ذلك، وترك وراءه شعبا متهما يُذبح جماعات جماعات.
إن مشهد المفاوضات، حيث يقابل عمر المختار الإيطاليين معبر جدا، إذ لا يستطيع أي إيطالي مهما كان أن يمد يده إلى زعيم التحرير.


لكن متى كان مد اليد مشروعا؟كان ذلك حينما صنع عمر المختار لنفسه تهمة، والتهمة أحيانا هي أنك تريد أن تنهي عدوك بقوة السلاح.
هذه هي التهمة التي صنعها عمر المختار لنفسه، وتجاوزها المهاتما غاندي بحكمته.
ولو لم تكن تلك التهمة لما استطاعت أي قوة في الأرض أن تمد يدها لشيخ يدافع عن كرامة أمته، ولكن عمر المختار باع نفسه في ميدان القوة، وقتل، وتلك عملية يتقنها المستعمر جيدا، بآلاته العسكرية المتطورة، وكان ذلك كله من قلة حكمة الشيخ عمر المختار لا غير.


ولكن المهاتما غاندي كان حكيما، ومولانا محمد علي أيضا؛ صاحب المرافعة الرائعة (أيها المحلفون الله لا الملك)، وهو هندي غير معروف كثيرا، وقد أكرم الشاعر هشام علي حافظ، والمفكر خالص جلبي، وداعية اللاعنف جودت سعيد هذه المرافعة بأن أخرجوها في كتاب ساهم فيه الأول بقصائد شعرية جميلة، والثاني بمقالاته غير المحصورة عن اللاعنف، والثالث بقراءة معاصرة للمرافعة وفق منطق القرن الذي ندخله، والكتاب يحمل عنوان المرافعة (أيها المحلفون الله لا الملك)، صدر عن دار الريس منذ بضعة سنوات، ولكنها أمور لا ينتبه لها العامة ولا الكتاب في الغالب من الأحيان.


شَدَّ مقتل عمر المختار انتباهي كثيرا، وقلت أن الرجل قتل نفسه بخطأ يرتكبه كل الناس، وهو استباحة دم الآخرين، وهي فكرة ظل يرددها خالص جلبي وجودت سعيد منذ عقود، ولكنهم اليوم كاتبان بدأنا ننساهم، في زمن استنفذ فيه العالم الإسلامي كل الحلول بما فيها حل الوصول عن طريق العنف، وهو ربع حل كلفنا كثيرا، وولد جماعات مفجرة، للأسف صدرناها في زمن غفلة إلى كل أرجاء العالم، وهذا خطأ سنتحمل نحن المسلمين تبعاته كثيرا.


فاستباحة دم الآخرين فعل خطير، وإذا كان عدوا لك كانت الاستباحة أخطر، لأنك تعطي له الفرصة ليقوم بتصفيتك في أول غفلة.
وهذا باب كان بإمكان عمر المختار ألا يفتحه، لو ظل مفاوضا من أجل الكرامة، على طريقة المهاتما، ولكنه فتح باب القتل، وقُتِلَ هو، وقُتِلَ من بعده آلاف الليبيين ما كان أن يُقتلوا.


هذا خطأ يتكرر اليوم في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان، وهي أخطاء ترتاح لها إمبراطوريات من حجم أمريكا، حيث تفضل السرية والتصفية الجسدية والحرب، وأشد أعدائها من يطالبها بالكرامة محتجا حاملا وردة، لأنه يزرع على وجهها خجلا حقيقيا، ويضعها في صورة إمبراطور يدوس على حديقة مملوءة بالزهور.


والأمور تنقلب رأسا على عقب، حينما تلجأ الزهور للعنف.
فالمؤسف أننا في العالم الإسلامي لم ننتبه بما يكفي لهاته الأخطاء، ولم نتشرب ثقافة اللاعنف، وأجرؤنا على الدفاع هو أجرؤنا على حمل السلاح، وأول الحلول تهديم أبواب البيوت.
كانت رغبتي عارمة في أن أشرح للصديق أن عمر المختار ساهم في مقتله، لكن الأجواء النفسية المشحونة بالحقد تعمي الأبصار، وتفقد التركيز، وليس لي من وسيلة سوى التزام الصمت حتى تتلطف الأجواء.


وهذا الفيلم المشحون بالحقد تلعب فيه الإمبراطورية الأمريكية دور البطل كل يوم، ولا تترك لنا أية فرصة لنقنع السادة النبهاء أن الالتجاء للعنف يضع القضية في كف الشيطان، ويرسل صاحب القضية بطريقة مستعجلة إلى المقصلة بالتهمة الأبدية، تهمة القتل.


وهذه التهمة لصقت بنبي الله موسى، حيث وكز الرجل فقضى عليه، وهو في مواجهة علنية مع أخطر عدو للإنسانية على مر التاريخ، الفرعون الذي جمع بيده سلط الربوبية والملك، ولم يشفع لموسى إلا الاعتراف والهجرة من تلك الأرض، ولو لم يكن ذلك الحل الذكي لقتله الفرعون، ولما تمكن من تبليغ رسالة ربه، وتحرير الإسرائيليين من الطاغوت.


أظن أنكم فهمتم الآن أن ما ينقص عمر المختار هو الساتياغراها (أو الحكمة) وليس الإرادة.
يزداد حماس الشباب المسلم اليوم، وتبلغ القلوب الحناجر، وتنغلق مسالك التنفس، ويضطرب القلب في ضرباته، ويتمنى المرء لو قتلت أمريكا وإسرائيل والشيطان والمستشرقين والعلمانيين كلهم دفعة واحدة.
وتزداد جرعات التسمم العنفي، وينفجر الشباب هنا وهناك. هذا تأزم خطير، ودخول لنفق مظلم حيث تختلط السرية بالعنف.


واليوم ليس لنا إلا أن نحمد الله أن نجح على مر التاريخ بعض الأفراد في تحقيق العدالة دون أن يفرضوها بقوة السلاح.
ولو لم يكن أولئك الأفراد، وفي مقدمتهم الأنبياء، ونماذج أخرى مثل غاندي، ومانديلا، لما تمكنا أن نفسر اللاعنف للبعض إلا كدعوة مجردة، وكنا آنذاك أفرادا ينقصنا الوعي حسب ادعاء البعض.

رشيد أوراز