عودة الماضي


كانت بداية العودة لهذا البحث، رسالة تلقيتها من صديقة تخصصت بدراسة الأختام الاسطوانية في البحرين من نهاية الإلف الثاني قبل الميلاد، في الرسالة كنت على موعد جديد في البحث عن الجنة، حيث حملت صديقتي الرسالة بعنوان صحفي يفيد باكتشاف جنة عدن في تركيا!، طبعا هذا الموضع يثير شهية البحث لدى العديد من العلماء و اللاهوتيين و غيرهم، و هو عنوان ضخم إن صح.

ملخص ما وجدته منشورا عن الموضوع بعد التحري أفاد بأن الدكتور كلاوس شميدت( Klaus Schmidt ) من معهد الآثار الألماني في برلين أعلن مؤخرا للصحافة ( الأربعاء 11/10/2006 ) بأنه اكتشف موقعا أرخه إلى الألف الحادي عشر قبل الميلاد، و من خلال الرسوم المنحوته للحيوانات و الحشرات التي اكتشفها على جدران المباني، و من خلال الموضع الجغرافي الذي يمكن مقارنته بموضع مملكة بيت عديني الآرامية في التوراة و المسلات الرافدية، فقد اقترح أن يكون موقعه هذا هو جنة عدن، حيث كان آدم.

اسم الموقع هو جو بيكلي تيبه ( Gouml;bekli Tepe ) و يقع جنوب شرق الأناضول، شمال سوريا. و بحسب طبوغرافيا المكان، يمكن أن نجد توافقا مع النص التوراتي، فغوبليك تيبه تقع شمال حران، حيث تنحدر من حولها الأنهار من الجنة quot; دجلة و الفراتquot;، كما تذكر التوراة إحاطة الجبال بجنة عدن، و من خلال وجودك في الموقع الأثري يمكنك رؤية جبال طوروس.

العجائب التي تكشفت بفعل التنقيب كانت مذهلة بمعنى الكلمة، حيث ظهر معبد وصفه بأنه أقدم معبد في العالم مكون من ثلاث حلقات دائرية، بمسلات ضخمة؛ تشبه حلقات ستون هنج في انتصابها؛ منقوش على واجهاتها نقوش بارزة لأشكال حيوانية من أفاعي و خنازير، و ثعالب، و عقارب، و طيور برية من نعام و طواويس، و مالك الحزين، و بطات، و رسوم للعقبان؛ مثلت في فترات لاحقة رمزا لانتقال الروح إلى السماء، كما أن الأفاعي كانت ترمز إلى الحياة و الولادة؛ و نحوت لنمل.

لكن تأريخ هذا الموقع بكل ما ظهر فيه إلى الألف الحادي عشر قبل الميلاد، وضع العديد من التساؤلات، ففي هذه الفترة لم يكن سوى مرحلة و الجمع و الالتقاط و التي تلاها الصيد، أي أن الفترة كانت قبل الزراعة و قبل اكتشاف النار و اختراع الفخار، و العجلة!.

لكن الدراسات المختصة تشير إلى أن زراعة الحنطة قد انتشرت بشكل واسع النطاق بين الألف الثامن و التاسع قبل الميلاد، فيما كان مهد الزراعة الأول جنوب بلاد الشام، و منطقة ما بين النهرين شمالا حتى تركيا اليوم.

الأمر الآخر المذهل في الموضوع، هو إن كان كما أرخ كلاوس الموقع إلى مرحلة ما قبل الزراعة حيث عاش الإنسان الأول بمجموعات شبه بدوية مرتحلا بحثا عن الغذاء، فكيف تسنى له صناعة الأدوات التي قطع بها الحجر، و بأي أدوات نقشه؟ إضافة إلى حاجة مثل هذا المعبد إلى مجموعة منظمة من الرجال لتشييده، بمعنى آخر إلى مجتمع طبقي منظم ذو رخاء اقتصادي، و محترفين في العلوم الرياضية المتعلقة بالحساب و القياس، و نقل الحجارة، وصولا إلى تغذية العمال مما لا يتناسب بشكل مع مجتمع ما قبل الزراعة و المعدن.

ولو افترضنا بكونه معبدا، فأين هو النموذج الأول! مما يعني أن هناك ما هو أقدم من هذا المعبد مبطلا كونه الأقدم؟ فمن أين أتت هذه الخبرة و من أين انتقل بناة هذا المعبد؟، و لو افترضنا بكونها جنة آدم، فلماذا المعبد أصلا حيث لم يكن في جنة آدم سوى آدم و حواء و لمدة وجيزة، و لم يحتاجا لإشادة معبد هناك مطلقا، فيما يقال بأن جنة آدم هذه قد أتى عليها الطوفان العظيم ولم يبق منها سوى الاسم المتيمن به و الذكريات المنحوتة في الذاكرة الإنسانية، التي كرستها الأساطير و الروايات الدينية.

الأمر الآخر هو في اكتشاف هياكل عظمية منزوعة الرؤوس، فهل كانت تقدم كقرابين؟ و لماذا يفترض بآدم أن يقدم في أبنائه كقرابين مع وفرة الحياة البرية من حوله؟؟

الاكتشاف مذهل، و تأريخه بشكل دقيق يصحح لدينا العديد من المفاهيم الخاطئة حول عمر الإنسان و مصادر ثقافته، و تطوره، حيث أن الاكتشاف و ضعنا في مشكلة مع الأحكام المسبقة التي نطلقها من كون الإنسان الأول بدائي متوحش، لمجرد كونه عاش في زمن موغل في القدم، لكن ماذا لو كان غير ذلك! ماذا لو كان الإنسان الأول على صورتنا كما هو دون تطور كما يفترض الداروينيون!. أو ؛ لو جادلنا مفترضين صحة ما ذهبوا إليه؛ ماذا لو كان هنالك مخلوقات ذكية ( غيرنا) سبقتنا على الأرض؟.

بالخلاصة، فإن كلاوس يخلط كما التوراة بين عدن آدم، و بيت عديني الآرامية المذكورة في التوراة من الألف الأول قبل الميلاد و بينهما فاصل عشرة آلاف سنة، و إن بقي كلاوس مصمما على راية، فسأطالبه بنواة التفاحة التي زرطها آدم.

محمد ملكاوي
http://sadoog.maktoobblog.com