كل شيء في إسرائيل تغيّر إلا سياساتها. هذا ما يُمكن أن نخرج به من استعراض التجربة الإسرائيلية منذ أن بدأت، مفترضين إن البداية سبقت بكثير
رغم ما طرأ على التجربة الإسرائيلية من تحوّلات فإنها تنتج ذاتها في شروط مأزق وجودي تجرّب الحكومة الحالية حظّها في تجاوزه. لكننا لم نلمس منها أو من رموزها أي استعداد لتجاوز المألوف. فهي ضمن ما ألفناه من النخب الإسرائيلية، انتقلت من رفض الاعتراف بالفلسطيني إلى رفض الاعتراف بالحقّ الفلسطيني أو إلى الاعتراف به منقوصا أو مبتورا ـ في أحسن الطروحات وquot;أكرمها |
إن هذين المكوّنين في التجربة الإسرائيلية ظلاّ ثابتين تقريبا في هذه التجربة الأمر الذي أوصلها رغم النجاحات في كل الميادين إلى هذه الدورة المغلقة تماما كما يتبدى للإسرائيليين بعد مرور عام على تشكيل الحكومة الحالية. فقد اتضح للإسرائيليين إن التبدّل المذعور في اصطفاف القوى والنخب من انتخابات لانتخابات غير قادر على إحداث الاختراق في الوضع الوجودي للدولة وما يُمكن أن يتشعّب عنه. فرغم الإنتاجية الاقتصادية العالية والأداء quot;الغربيquot; للاقتصاد الإسرائيلي فإن توزيع الثراء لا يزال متخلّفا بدلالة إن معدّلات الفقر والبطالة ثابتة تقريبا منذ عقدين تقريبا. لكن الأمر الأكثر إلحاحا العالق في الوحل هو الهاجس الأمني المتعثّر بشكل مقلق منذ أواخر الثمانينيات. لأنه تعثّر على مشارف المدن الإسرائيلية وساحاتها وليس تصعيد على خط الجبهة يُكلّف بأمره الجيش. وقد تفاقم التعثّر بشكل لافت في حرب لبنان الثانية ومع استمرار سقوط quot;القسامquot; في مستوطنات النقب الغربي. ويصبح التعثّر دليل مأزق في ضوء حقيقة إن النخب الإسرائيلية لم تترك وسيلة أو طريقة أو حيلة أو استراتيجية إلا وجرّبتها مرارا وتكرارا مطلقة أو نسبية ولكن لا مخرج من أنشوطة المأزق الوجودي الذي يرسم للإسرائيليين صورة إنهم إنما يراوحون في أماكنهم رغم إن الزمن لم يتوقف ثانية بل جرى على عادته لا يلوي على شيء.
من هنا فإن السجالات حول سؤالي الديمقراطية والأمن في إسرائيل هو سجال مستديم. وكل ما يتغيّر فيه هو أطراف السجال ورموزه. وقد بيّنت أبحاث رصدية في إسرائيل إن أطراف السجال مهما تكن الحقبة الزمنية إنما يتداولون المواضيع ذاتها والاقتراحات ذاتها والادعاءات ذاتها. قد نشير إلى تجربة أوسلو كتطور مغاير يكسر رتابة السياسات الإسرائيلية. لكننا نشير إلى ما تشير إليه أبحاث إسرائيلية إن هذه التجربة المغايرة وإن بدت حوارية تفاوضية تنشد السلام إلا إنها انحكمت إسرائيليا لتوجهات عسكرية ما لبثت أن حضرت بقوة في نصوص الاتفاقيات. وقد قّيض لي الدراسة لدى أحد مهندسي هذه الاتفاقيات ولفتّ نظره إلى هذا الادعاء العربي من إنهم فاوضوا الفلسطينيين بتوجهات أمنية الأمر الذي شكّل عاملا بنيويا أسهم لاحقا في إفشال الاتفاقيات. فأقرّ بأن في الادعاء الكثير من الحقيقة. فقد عكسوا مقولة كلاوزفيتش المنظر العسكري البروسي من إن الحرب استمرار للدبلوماسية ولكن بوسائل أخرى! فإذ هي في النهج الإسرائيلي: الدبلوماسية استمرار للحرب ولكن بوسائل أخرى! فأزمة حكومة أولمرت بعد عام على تشكيلها لا تختلف عن أزمات كل الحكومات السابقة لأنها تقف أمام الأسئلة ذاتها: ماذا نفعل مع الفلسطينيين والعرب أجمعين، مع حركة حماس وأبو مازن وصواريخ القسام، ومع حزب الله وسوريا ومع الجبهة الداخلية. وماذا نفعل مع الديمقراطية العرقية القائمة المفصّلة على مقاسات النخب اليهودية، هل نفصل الدين عن الدولة ونواصل الفصل بين السلطات، هل نقيم المساواة التامة بين اليهود وغيرهم من المواطنين، هل نشرك المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل في الحكم وتوزيع الخير العام أم نعود إلى التطهير العرقي أو العزل المكاني؟ وهل تقوم إسرائيل على تعددية ثقافية أم على هيمنة عبرية ودمج قسري للمختلف أو للآخر كالروسي واليهودي الشرقي والفلسطيني؟ طبعا الأسئلة متأثرة في الطرح وحدّته من بعضها. فإذا برزت الأسئلة الأمنية أُجّلت أسئلة الديمقراطية. أو الأدقّ، إذا ما برزت أسئلة اليهودي الوجودية تأجّلت كل الأسئلة الأخرى.
في بداية الشهر الماضي حلّت الذكرى ألـ:11 لاغتيال يتسحاق رابين رئيس الحكومة الإسرائيلي الذي جرُؤ على مكاشفة الإسرائيليين بعدم جدوى الإبقاء على الاحتلال، وبعدم قدرة المجتمع اليهودي على تحمّل ذلك. رابين الذي ما أن تقدّم خطوتين والثالثة خروجا من إسرائيل الحصن/الجيتو حتى طالته يد إسرائيل ذاتها المتشرنقة المنكفئة على ذاتها ترفض الخروج من قفص أنساقها المذكورة آنفا. ونشير هنا إلى إن حكومة رابين على ما أمكننا من تعداد مثالبها وإخفاقاتها إلا إنها كانت الحكومة الأولى في إسرائيل التي استندت إلى دعم أعضاء فلسطينيين في الكنيست الإسرائيلي! ومن هنا فإن اغتيال رابين بيد اليمين الإسرائيلي شكّل في الدرجة الثانية اغتيالا لاحتمالات تطوّر الديمقراطية الإسرائيلية باتجاه مغاير، أيضا. بدا يومها كأن شيئا ما نضج في الطرف الإسرائيلي لكنه اعتقاد نعتبره اليوم ساذجا ثبت بطلانه عند أقدام أنساق السياسات الإسرائيلية المتقادمة في التعاطي مع الذات، مع مفهوم الدولة والسيادة والحكم، وفي العلاقة مع الآخر، مع دول الشرق الأوسط وشعوبها.
رغم ما طرأ على التجربة الإسرائيلية من تحوّلات فإنها تنتج ذاتها في شروط مأزق وجودي تجرّب الحكومة الحالية حظّها في تجاوزه. لكننا لم نلمس منها أو من رموزها أي استعداد لتجاوز المألوف. فهي ضمن ما ألفناه من النخب الإسرائيلية، انتقلت من رفض الاعتراف بالفلسطيني إلى رفض الاعتراف بالحقّ الفلسطيني أو إلى الاعتراف به منقوصا أو مبتورا ـ في أحسن الطروحات وquot;أكرمهاquot;! من ناحية ثانية لا نلمس إنها مستعدّة لإعادة النظر في quot;الدولة القومية الوشائجيةquot; كما عرفتها أوروبا القرن التاسع عشر. دولة قومية تتكرّس فيها الهيمنة المطلقة لصالح عرق أو قومية حتى ولو بالتطهير العرقي (أوروبا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية) بحق شعوب أو أقليات أخرى. بل بالعكس، فإن النخب الإسرائيلية تبدو أكثر صراحة، اليوم، في التعويل على القوة عمليا وخطابيا. كما إنها أقلّ خجلا في تداول فكرة التطهير العرقي وإن اختلفت التسميات التي يُقصد بها غسل المصطلح من مفهومه الكارثيّ! نتبين عند الإسرائيليين الجدد نزعة أصولية وارتدادا إلى ما يعتقدونه زمن النجاحات والانتصارات اليهودية في فلسطين. فيستذكرون الأربعينيات باعتبارها الحقبة الحقيقية التي ينبغي محاكاتها في كل شيء بغية الخروج من المأزق الوجوديّ. وهو مأزق تراكمت شروط خارجية على عوامل موضوعية لتكرّسه. فالسياسات الأمريكية، منذ مجيء بوش الابن، شكّلت قوة ضغط باتجاه شلّ الفكر والعمل الدبلوماسيين في إسرائيل لأنها رهنت الوجود الإسرائيلي بالكامل لمشروع أمريكي مناوب وقلّص هامش التحرك للقيادات الإسرائيلية إلى أبعد الحدود كما كان مع شارون وأولمرت ونتنياهو. من ناحية ثانية، فإن ما تطوّر من مفاهيم كونية عن الحروب الاستباقية وضرورة مكافحة الإرهاب فإنه أعفى إسرائيل ولو لحين من استحقاقات المسألة الفلسطينية التي توارت خلف مشهد الجهد الدولي لمكافحة الإرهاب أو رهاب الإسلام والمسلمين!
ومن هنا فما نشهده في إسرائيل الآن هو شكل جديد قديم للمأزق الوجودي ذاته. ولا نعتقد إنه من الممكن، مهما يكن حجم ا؟؟لتفوّق الإسرائيلي على العرب أجمعين، الخروج من زواياه المعتمة إلا إذا طرأ تغيّر في السياسات الإسرائيلية الجوهرية في القضايا الجوهرية. إن تغيّر القيادات في إسرائيل لم يأت حتى الآن إلا بفروقات طفيفة في التوجهات لم تطل صميم الأنساق المتقادمة في التعاطي مع طبيعة الدولة ونظام الحكم فيها وجوهر العلاقة بين اليهود الذين أقاموا quot;وطنهمquot; في فلسطين مع الفسطيني وغيره من العرب! قد ينمو الاقتصاد الإسرائيلي قفزا وقد تتبدّل الحكومات في الدولة العبرية خطفا، لكن سيظلّ المأزق حاضرا إلى أن تكتشف النخب الإسرائيلية مفهوما جديدا للجرأة والمبادرة غير ذاك المحصور بالحرب والعنف. أما الحديث عن مأزق مستديم في إسرائيل لا يعني إن الوضع في العالم العربي مبهجا!
مرزوق الحلبي
دالية الكرمل
[email protected]
التعليقات