سألتني ابنتي الصغرى بحيرة ممزوجة بالحزن، وهي تشاهد الصور الكئيبة: بابا لماذا أعدموه؟

إن التمسّك بأية صيغة من صيغ التماهي بين الصدامية ودائرة عرب السنة في العراق، إنما هو اجحاف صارخ، وظلم فادح، بحق هذه الأخيرة، فهي واسعة رحبة تضم الصالح والطالح، شأنها في ذلك شأن دائرة العرب الشيعة وتلك التي تخص الكرد
شرحت لها الموقف بطريقة تتناسب مع سنوات عمرها، وتجربتها الحياتية. فأردفت قائلة انسجاما مع براءة الطفولة: وما الدليل؟ وإذا تبين لهم فيما بعد انه ليس هو المسؤول فمن الذي سيعيده إلى الحياة ثانية؟
حاولت أن أبيّن لها الموقف بصورة أفضل؛ علّني أخفف الوقع عليها بعض الشيء، وهي التي لم تختبر مطلقاً جرائم صدام، والعقلية البعثية الإقصائية اللامعقولة، المختلطة بالفاشية والنازية، فقلت لها: إنني لا استسيغ عقوبة الاعدام أبداً، والأفضل في حالات كهذه أن يحكم على المجرم بالسجن المؤبد، شرط وجود الضمانات التي تؤكد أن العقوبة العادلة ستظل سارية المفعول، ولن يأتي احدهم ليعفو، أو يساعد في الفرار، بموجب حسابات وصفقات متعددة المنابت والتوجهات. وهذا ما يُخشى من حدوثه - بكل أسف - دائماً في منطقتنا التي تسير وفق حسابات لامرئية، تُسلّم الأوطان بأهلها إلى مصائر مجهولة مفتوحة. والمسألة برمتها تتصل بمراعاة الحق والعدالة، ومواساة الملايين من الذين فقدوا أحبتهم، وتعرضوا للتعذيب والمطاردة والتشرّد نتيجة حكم صدام وأعوانه. لاأعلم إلى أي حدٍ استوعبت ابنتي الحجج التي أوردتها؛ غير انها ظلت متشبثة بموقفها، مؤكدة معارضتها لعقوبة الإعدام، هذا على الرغم من تعاطفها مع الضحايا، وآلام الأهل وعذاباتهم، وقالت جازمة: كان من الأفضل السجن المؤبد.


وتوقفت المناقشة بيننا، وانصرفت إلى التمعن في اللوحة السريالية القاتمة التي تمثل العراق راهناً. جموع مصفقة، وأخرى تعيش في المأتم، وثالثة لاتدري ماذا تفعل؛ تلوذ بقدسية الزمن، ولسان حالها يقول: أما كان من الأفضل الإقدام على ذلك بعد العيد؟ ولكل فريق من النسيج العراقي المتهتك، الموزع بين المحتفين والمتبجحين والمتوعدين؛ بين تصريحات المتفاخرين وشعارات المتضررين؛ وبين هذا المعسكر وذاك، تسلّم الغالبية العراقية نفسها إلى الصمت المترقب. تتساءل همساً: وماذا بعد؟ هل هي النهاية أم البداية؟ أليس من سبيل للخروج من النفق المظلم الذي يسير فيه العراق منذ أكثر من نصف قرن؟ أما آن الآوان لإيقاف حمّامات الدم، والجلوس معاً بعقل وقلب مفتوحين، والقطع مع نزعات الشر وأصحابها؛ وتجاوز مآسي الصدامية التي كانت وما زالت وبالاً على العراق والعراقيين والمنطقة بأسرها. فالصدامية هي حالة استثنائية هجينة هيمنت على دائرة العرب السنة في العراق بالحديد والنار، وأخلّت إلى الحد الأقصى بموزاين الدور التوحيدي الذي كان من المفروض أن تؤديه هذه الدائرة بين العرب الشيعة في الجنوب والكرد السنة في الشمال.


إن التمسّك بأية صيغة من صيغ التماهي بين الصدامية ودائرة عرب السنة في العراق، إنما هو اجحاف صارخ، وظلم فادح، بحق هذه الأخيرة، فهي واسعة رحبة تضم الصالح والطالح، شأنها في ذلك شأن دائرة العرب الشيعة وتلك التي تخص الكرد، وهي بمجملها الدوائر الأساسية التي يقوم بها ومن أجلها الجسد العراقي المنهك، هذا الجسد المثخن بالجراح، المثقل بالأحزان؛ لكنه على الرغم من كل شيء يتوق إلى الحياة الكريمة وفق رؤى جديدة، تتعارض بالمطلق مع الظلم بكل أشكاله، وتتنافى مع الإقصاء والإبعاد؛ بصرف النظر عن الانتماءات والخصوصيات. جسم يتكامل، ويتعافى بالوطنية العراقية الأصيلة، هذه الوطنية التي تُعد الحاضنة الكبرى التي تتسع للجميع، وتستطيع مسح الدمعة عن كل العيون، وتزرع الأمل في نفوس الأجيال، من أحفاد السومريين والأكاديين، البابليين والآشوريين، الجوتيين والكاشيين والسوباريين، أحفاد الحضارة العباسية التي تمكّنت بإبداع متميّز من بلورة معالم موازييك حضاري غير مسبوق، موزاييك ما زال مُثار اعجاب واعتزاز الجميع.

د. عبدالباسط سيدا

[email protected]