في بلادنا عبور من نوع آخر

أغنية تخونني الذاكرة في استرجاع اسمها وما اذكره فقط أنها كانت للفنان (هاني شاكر) ترددت إلى مسامعي قبل سنوات عدة، وما يعنيكم أو يعنيني في الأمر أنه ردد فيها مقطعا قائلا فيه: ( وآخرة الضحية..برقية اعتذار) هكذا تماما بلهجته المصرية، أعجبني المقطع حينها لكنه مر مرور الكرام ولم يأخذ حقه من التفكير، إلا أنني لم أكن أتصور أن ذاكرتي قد اختزنته بهذا الشكل وليس بمقدوري أن أتصور أيضا كيف اجترته ذاكرتي ليظهر على لساني مرة أخرى، ولكن هذه المرة بتمعن وتروٍ شديدين. كيف؟؟ ولماذا؟؟ وهل بقي الأمر عند حد الإعجاب بالموسيقى والمقاطع الغنائية أم تجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك؟؟.
إليكم آنساتي سادتي الجواب...
هذه المرة أخذت أربط المقطع الغنائي السابق (وأي ربط هذا؟) بكل النوائب والمصائب والكوارث العمدية وغير العمدية وما تخلفه دائما وأبدا من ضحايا يقل عددهم مرات ويزيد بل ويتزايد في أغلب المرات، ضحايا قضوا في العواصف والزلازل أو في البراكين والفيضانات (اللهم لا اعتراض)، وضحايا آخرون قضوا ويقضون في الحروب والنزاعات والمجاعات والكوارث غير البيئية (وهنا بيت القصيد وكل الاعتراض)، والمسلم به أن الضحية في جميع الأسباب هي نفس الضحية، الإنسان أينما وجد وعلى أية حالة كان. والإنسانية جمعاء هي من تتقبل العزاء وتدفع فاتورة الموت الباهظة. لكن ما لم يتحمل عقلي مجرد التفكير به لا التسليم له، هو هاته المعادلة كيف يكون الإنسان الجاني والضحية، القاتل والمقتول؟، وكيف يقبل أن يلعب الدورين معا؟، وهل الطبيعة الإنسانية تتحمل هذا الازدواج؟ (مع احترامي لنظريات العالمين إميل دور كايم وسيزارلامبروزو وأدبياتهما في الجريمة)، أم أن الأدوار توزعت منذ الأزل، بعيد قتل قابيل لأخيه هابيل؟.
قد يكون ذلك محاولة لاستخراج الزبدة من الماء أو دورانا في حلقة مفرغة أو نوعا من المنطق العاطفي الأجوف في قياس الأمور، وقد يفسر البعض ذلك بأن الشيء يحمل نقيضه وإلا كيف سيكون القتل إذا لم يجد القاتل من سيرضى بدور القتيل؟، ويزيد البعض الآخر بقوله إن لكل قاعدة شواذاً، وبالتالي هناك الذكر والأنثى، الحامل والمحمول، الظالم والمظلوم، الغني والفقير. وبالمجمل السلب والإيجاب، الشر والخير.
برأيي المتواضع كل ما سبق صحيح حتما بمفهوم النتيجة ولكن لا يجد مكانا إذا ما أردنا البحث بمفهوم الدوافع والأسباب. ولا يفسر قبول الإنسان الطبيعي السوي لأن يكون سببا في إنهاء حياة إنسان آخر، يشاركه البسيطة والصفة الاجتماعية.

هناك حقيقة أمنية أو قاعدة جنائية فقهية مفادها (ابحث عن المستفيد..ستعرف من القاتل)، ولكن أي استفادة هذه التي تحلل هلاك بني البشر بالجملة، وتجعل منهم طعاما لذيذا سائغا لأسماك القرش.
بالتأكيد أنا لا أتحدث عن ضحايا طائرة (لوكربي) أو عن غرقى (التايتانيك)، فتلك كانت للصفوة وعلية القوم، والمجال أيضا يضيق لضحايا فلسطين والعراق وكوسوفو ورواندا، أنا أتحدث وحتى لحظة كتابة هذه السطور عن ألف إنسان انفجرت رئتهم تحت الماء، لا لشيء سوى أنهم فقراء لا يستطيعون شراء زوارق سريعة ويخوت يقطعون بها البحار والمحيطات ويحملونها بكل ما لذ وطاب، بل لا يستطيعون حتى أن يدفعوا ثمن تذكرة الدرجة الثانية في سفن محترمة، أتحدث عن ضحايا سفينة الموت (السلام 98) الذين سجلناهم كأرقام فقدت، وجردنا أنفسنا من الإنسانية، وفقدنا نحن أيضا الشعور بالذنب والمسؤولية، وما أصعب أن يصبح الضمير (كاوتشوك) لا يحس ولا يتحرك. وما يفجر رئتي أنا أمران أولهما أن صاحب السفينة عضو مجلس شورى مصري، وثانيهما أن اسم السفينة هو (السلام)، سلام كذلك الذي كان ينادي به (نتنياهو)، ولكن هذه المرة الموت من أجل السلام.

الأنباء التي سمعتها تتحدث عن تعويضات بقيمة ثلاثين ألف جنيه لكل أسرة من أسر المفقودين المصريين، وعلى فكرة المبلغ لا يختلف كثيرا عن مبلغ تعويض ضحايا (لوكربي) إلا بعدد من الاصفار، كم أنت رخيص أيها الموت في بلادنا، وكم هي غالية فاتورتك.

(وآخرة الضحية..برقية اعتذار)، صدقت يا هاني شاكر، ولكن اقترح أن يعدل المقطع ليصبح (وآخرة الضحية..برقية اعتذار وثلاثون ألف جنيه!!!).


المحامي فضل عسقلان.
كاتب وباحث قانوني.
فلسطين-نابلس.
جوال: 00972599720784
عمل: 0097292378425

[email protected]