عن أيّ مجتمع عراقي نتحدث؟ (1-2)


فيما وراء التدهور الخطير في الوضع العراقي منذ السقوط المفزع لدولة النظام الشمولي السياسي السابق. والذي يعكسه بشكل واضح الملفان الأمني والاقتصادي. فإن هناك في الحقيقة تدهور في واقع الاجتماع السياسي في عراق الدولة الراحلة على مر ّ تاريخها. يتضمن الأسس التي قام عليها هذا الاجتماع وتلك التي نتجت عنه.
وإذا ما كـان أرسطو قد أكد على أن الإنسان هو حيوان سياسي Zoon Politikon ]بحسب المصطلح اللاتيني. إذ يراد التقليل كثيراً بمدى هذا التعريف الهام عند ترجمة عبارة Zoon Politikon: بـ quot;حيوان اجتماعيquot;. فحتى الحيوان يمكن أن يكون اجتماعياً. أما الإنسان. فهو وحده الكائن الـ (سـياسي). فبدلاً من أن يعيش في قطعان. أو قوافل أو قبائل رحلّ. فإن ميزته الخاصة هي العيش في قلب هذا التنظيم الجماعي الذي يشكل المدينة. وهذه الأخيرة هي بالنسبة له ضرورة طبيعية ومثال أخلاقي())[. فلا توجد على وجه البسيطة. أي جماعة بشرية دون تنظيم سياسي أو دون سلطة. وبذلك يمكن تعريف السياسة. بأنها علم التنظيم السياسي political organization ().
أما بالنسبة للباحثين في السوسيولوجيا (علم الاجتماع). فليس هناك ما هو أكثر أهميةً من فهم بنية المجتمع. أو الجماعة البشرية. ذلك أن جميع التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية إنما تحدث داخل هذه البنية.
إن كل المجتمعات البشرية التي امتد وجودها في الزمان والمكان الإنسـاني. تتميز بحدٍّ من الفهم المتبادل بين أعضائها shared understandings الذي سـاعد البشر على أن يعيشوا سـوياً. والذي يعمل كقاعدةٍ لإشـباع الضرورات الحياتية لأعضاء المجتمع نفسه. وهذا يعني أن كل فرد من أفراد هذه المجتمع ليس من الضروري أن يشارك في المفاهيم الخاصة بالمجتمع والمتضمنة في الثقافة نفسها. ولكن الحرص في المشاركة أو عدمها لا ينفي كون بعض المفاهيم عامة. يتوجب على الأفراد كلهم المشاركة فيها. مع وجود مفاهيم قد لا يشترك فيها إلا البعض من الأفراد().
فالمشتركات العامة أو تلك التي تحظى بقبول عام هي ما يميز ماهية المجتمع أو الجماعة الاجتماعية وصيرورتها. والحق أننا يمكن أن نسأل وبدهشة وفقاً لهذه البديهية: هل هناك مجتمع عراقي؟
والدهشة تعود إلى أن الإجابة قد لا تكون بالسهولة التي نتخيل. فالمجتمع العراقي (هذا إذا ما استطعنا القول بوجود مثل هذا المجتمع) يبدو منقسماً على نفسه انقسامات عدة يبدو كل واحد منها انقساماً مصيرياً. إذ إننا سـوسيولوجياً نلاحظ أن (المجتمع في العراق) () في سـيرورته التاريخية يتلبّس دورين متناقضين تماماً. فهو من جهة. ونظراً للرابطة العضوية بين جغرافيته وتاريخـه. يعـدُّ مجتمعاً لـه بنيتـه التاريخية الواضحة المعالم (غير الإلتباسـية). والتي تشـكلت منذ البدايـات الأولى للمراكز الحضارية في سـومر وأكد وبابل وآشـور. مروراً بالعصور الإسـلامية التي كان للمجتمع في العراق دوراً بارزاً فيها رغم تواتر عصور الانحطاط بفعل الغزوات المتكررة.
فالمجتمع في العراق من وجهة النظر التاريخية هذه. يبدو مجتمعاً ثابتـاً (مستقراً غير قلق) حسـب التوصيفات التراثية بهذا الشـأن. ولكن ومن الجهة الأخرى. فإن المجتمع في العراق يتسـم بسـمات تتفق مع سمات المجتمع (النابت) () أو غير المسـتقر. فهو متعدد دينيـاً على الرغم من أغلبية مُسـلمة وأقليات غير مسـلمة (من مسيحية ويهودية وصابئية ويزيدية). ومتعدد إثنياً على الرغم من غلبة الثقافـة العربية عليـه (بالإضافة إلى الأغلبية عربية هنالك إثنيات كردية وتركمانية وفارسـية وأرمنية و.. ما إلى ذلك). وهو متفرّع طائفيـاً في تعدده الديني. فالجماعة الإسـلاميـة تضم أغلبية شـيعية عربية ونسبة قليلة من الأكراد (الفيلية) والتركمان. بمقابل عدد لا يسـتهان بـه من السُـنّة العرب والأكراد والتركمان. مثلما نجد أن الطوائف المسـيحية عديـدة هي الأخرى. وفي هذا الشـأن نجد أن وصف فسـيفسـاء mosaic هو الأقرب لتوصيف المجتمع في العراق.
لكن هذه الانقسامات الاجتماعية تأخذ أبعاداً وتوجهات سياسية في الوضع الراهن. فعلى سبيل المثال. لنراجع مثلاً كيف تقف الجماعات الاجتماعية في العراق من قضية رئيس النظام السياسي السابق ومن النظام السياسي السابق ككل. فالموقف من هذه القضية يشكل هاجساً يصدر بإزائه نوعين من ردود الفعل. يرى الأول منهما (وهو موقف الأكراد والغالبية من الشيعة) في صدام مجرماً من طراز بشع. أباح الدم والمال العراقي. قتل وقمع ونكّل بمئات الآلاف من الأفراد. فيما يرى الثاني (غالبية السنة العرب) في صدام الرئيس الشرعي للعراق. والبطل القومي. فهل هناك مجتمع عراقي واحد أم مجتمعان؟
وكما نرى فإن الأمر بالنسبة للطرفين يتمحور حول هذه القضية. لكنه لا ينفك يتناسل سراعاً حول مسائل ترتبط بها وتتشابك معها من قريب أو بعيد (كالموقف من الاحتلال الأمريكي. والموقف من المشهد السياسي الذي استجد في العراق. ومن الفاعلين في هذا المشهد. و.. ما إلى ذلك حتى يصل بنا التناقض في أقصى مداه إلى حدود استثنائية متطرفة. تتمثل في الموقف من أفراد الشرطة العراقية الجديدة وأفراد الحرس الوطني الذين أصبحت هناك فتاوى عدة تحلل قتلهم. فضلاً عما يعتري المشهد العراقي من سيارات مفخخة تستهدف أفراد الشرطة والحرس الوطني ومن يحاول أن ينتمي لهذين القوتين من الشباب. مثلما تستهدف الأطفال والمدنيين العراقيين مثلاً !!) كل ذلك في سلسلةٍ مترابطة من المفاهيم. يمكن لأيٍ منها أن يشكل المحور الأساس لهذه الآلية. مثلما يمكن الانطلاق منه في دورةٍ أخرى.
استناداً إلى ما سبق. هل يمكن بأي حال من الأحوال أن نتحدث عن وجود مجتمع عراقي (واحد)؟ أو أن الحال. وكما رأينا. هو مجتمع (موحَّد) - إذ يشير التشديد إلى تصعيد الفعل بالقوة لا بالإرادة ndash; أي إنه موحدٌّ بالقوة في اجتماعه السياسي. وهنـا يصبح لزاماً أن نسأل: حتى متى يبقى فعل توحد المجتمع في العراق محكوماً بالقوة؟؟

د. علي وتوت
باحث في سوسيولوجيا السياسة
[email protected]