ليس بين أمم وشعوب الأرض قاطبة من هو أكثر من شعوب منطقتنا تعلقا بالماضي والتغني بتاريخها المجيد، حتى أنني وجدت الحالة ذاتها لدى الغابرين من أمتنا. فقبل فترة كنت أتابع مسلسلا تاريخيا يروي وقائع معركة( خالدة!) أخرى من معارك العرب، وطبعا كل المسلسلات التاريخية تروي حكايات المعارك الخالدة في تاريخ العرب، ولكني إستمعت الى حوار جرى بين إثنين من شخصيات المسلسل، واذا بأحدهما يتحسر على (الزمن الجميل ) الذي مضى ولن يعود!. وكأني به يحن بدوره الى زمن آشور بانيبال أو إنسان نياندرتال.فلم أفهم الى ماذا حن والمسلسل يروي قصة تاريخية تعود الى ما قبل ظهور الإسلام أي الى 1500 سنة من الزمن الحالي؟؟!!.
فيما عدا حنيني الى أمجاد الماضي من البطولات والمعارك الخالدة، تراني أنا أيضا أحن الى ما مضى من عمري في الزمن الجميل. وأقصد به فترة الستينات من القرن الماضي وليس زمن حرب البسوس.
ففي الستينات كانت الأجواء أصفى مما هي عليها الآن. فعلى الأقل لم تكن حينها مشكلة تسمى خرق في طبقة الأوزون، أو مؤتمرات دولية حول إرتفاع درجة حرارة الأرض، التي أعتقد أنها مشكلتي أنا وحدي من بين سبع مليارات من البشر في هذا الكوكب، لسبب بسيط وهو حبي لفصل الشتاء وكرهي حد الموت لفصل الصيف الذي طرق الأبواب من دون وجود تبريد أو حتى تهوية في كردستان التي تحترق من دون صاعق كهربائي!.
فتلك الحقبة أعتبرها حقبة العباقرة والنجوم المتلآلئة في شتى مناحي الحياة، في الفن والشعر والأدب والرواية والسياسة والعلوم.وهي حقبة جمعت عمالقة الأدب والفن تحت سماء واحدة. سيدة غناء العرب أم كلثوم يكتب لها الشاعر الرقيق والمرهف الأحاسيس أحمد رامي:

هجرتك يمكن أنسى هواك وأودع قلبك القاسي

وقلت أقدر في يوم أسلاك وأفضي م الهوى كاسي

لقيت روحي في عز جفاك بافكر فيك وأنا ناسي

فتنساب تلك الكلمات الرائعة من أعظم حنجرة شهدها عالم الغناء والطرب العربي.
ثم ندير مؤشر الراديو على موجة بغداد وإذا بناظم الغزالي يشدو بصوته العذب:
عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيرت بما هو عار

إن تكن شابت الذوائب مني فالليالي تزينها الأقمار
ثم عشنا في الزمن الأغبر وإذا بمطرب شعبي يتغنى بلحم الفراخ ( لحمة لحمة لحمة) !!.. ثم يثنيها برائعته الأخرى ( السح الدح أمبو الواد طالع لأبو )!!.
ثم نسمع آخرا وهو يراقص عدة فتيات شبه عاريات ويتغنى برائعة شاعر عراقي ولدت موهبته في زمن الميليشيات المتحاربة ما بعد صدام حسين وهو يقول ما معناه ( أنا أعرف انك تريدين أن تخابري بالموبايل، ولكن لا تملكين الفلوس لكي تشترين بها الكارت، فدعيني أنا أخابر.. وتررررلم لم.. البرتقالة غيرت حاله)..
في الزمن الجميل كان رئيس الوزراء نوري السعيد يخرج ببجامته المقلمة في الصباح الباكر ويقف في طابور المخبز قرب بيته ليشتري رغيفا حارا لأطفاله، واليوم لا يستطيع رئيس الوزراء وجميع أعضاء تشكيلته الوزارية غير المعلنة لحد الآن من الخروج من حدود المنطقة الخضراء في بغداد؟!
في ذلك الزمن الجميل كان الملك يخرج بسيارته من دون حماية ويأخذ صديق طفولته وقد يكون إبن احد ضباط الجيش ليتنزهان معا في الراشدية او الكمالية او الزوية،واليوم يتأجل اجتماع البرلمان لأن أحد أعضاء المجلس جرى تفتيشه في الباب فأنسحبت كتلته من الإجتماع!!.
في ذلك الزمن البديع كان عبدالكريم قاسم يخرج في الساعة الرابعة فجرا بلباسه العسكري ومعه رئيس أركان الجيش ليشربا قدحا من الشاي في ساحة النهضة عند العم عباس أو عم أبو ضوية ويستغل الجلسة ليسأل الشاياتي عن أخبار البلد!. واليوم يلوذ مفوض في وزارة الداخلية بميليشيات حزبه لطرد مدير عام في دائرة حكومية، هذا ان لم يقتله باتهام مذهبي!!.
لقد ذهب الزمن الجميل، وأصبحنا في الزمن الأعجف..

شيرزاد شيخاني

[email protected]