في العاشر من شهر ايلول من العام 1998 تم تبليغنا من قبل مركز الشرطة القريب من دارنا الذهاب الى سجن أبي غريب لأمر هام جدا. انتاب القلق أفراد العائلة، لاسيما والدتي ( رحمها الله ).

ربما هو الفرج.. هذه هي الجملة التي خرجت من لسان أحد اخوتي. يقصد بالفرج أنه ربما سيسمحون لنا بزيارة أخي ( طالب ) الذي مضى على اعتقاله أكثر من عام دون أن نراه. أخي الذي أعتقلوه ولم نعرف مكان اعتقاله أو أسباب اعتقاله. هذا هو الفرج الذي ننتظره بعد أكثر من عام.

ربما حكموا عليه بالسجن المؤبد. هذه الجملة خرجت من لسان جارتنا الطيبة التي جاءت لتواسي أمنا المسكينة. ردت أمي بسرعة: فال الله ولا فالك.. ماذا فعل طالب ليحكموا عليه بالسجن المؤبد.

ردت المرأة الطيبة: وماذا فعل علي ليعدموه وماذا فعل هاشم وماذا فعل جميل وماذا فعل حسن. علي هو ابنها الذي أعدموه قبل سنوات بحجة انتمائه الى تنظيم ديني معارض للنظام أما هاشم فهو زوج أختي وابن عمتي وقد تم اعدامه للسبب نفسه وهو الأمر نفسه مع جارنا جميل وحسن أيضا.

لم تنته التوقعات فعمي توقع أن الحكومة قد أكملت تحقيقاتها معه وحولته الى سجن أبي غريب بانتظار محاكمته وآخر قال: أن التحقيقات والمحاكمة قد تم الانتهاء منها لذا تم ترحيله الى السجن لتقومون بزيارته كل اسبوع كالمساجين الآخرين في هذا السجن.

في الأحوال كلها سنكون في لقاء مع أخي ( أبوعلي وأحمد ) وخريج كلية الادارة والاقتصاد والمتدين الذي يخاف الله والذي يحبه جميع أبناء المنطقة لأخلاقه العالية.

ذهبنا الى سجن أبي غريب وهناك قابلنا ضابطا من ضباط أمن السجن. كان عابسا وغاضبا وأمر لحظة دخولنا بمعاقبة أحد الأشخاص الواقفين أمامه بالسجن سبعة أيام. سألنا بعصبية أيضا: هل أنتم عائلة الخائن طالب.

نعم نحن عائلة طالب. قال: الخائن طالب كان يعمل مع تنظيم معارض للسيد الرئيس ( حفظه الله ورعاه ) وللثورة التي لها أفضال عديدة عليكم ولهذا فقد نال مصيره.

رمى علينا ورقة. كانت الورقة هي شهادة وفاة.

لحظات لا يمكن وصفها. قال عمي بصوت خائف: ومن أين نستلم جثته؟

رد الضابط بعصبية: جثة مَن.. جثة الخائن.. وماذا تفعلون بها.. اسمع.. عليكم الالتزام بهذه التعليمات.. أولا لاعزاء على الخونة.. لا في الجامع ولا خارج البيت.. فقط داخل البيت ولا نريد أن نسمع صوت بكاء أو لطم.. خائن لا يستحق بكائكم ولطمكم وان سمعنا فستلقون المصير نفسه وعليكم أن تعرفوا أن عيوننا ستكون قريبة منكم.

خرجنا من غرفته.. خرجنا من الباب الرئيسي للسجن.. بعض أفراد العائلة بانتظارنا.. ينتظرون الفرج.. ماذا نقول لهم.. أصبح طالب ورقة فقط.. حتى جثته رفضوا تسليمنا اياها.. أمي المريضة تنتظر الفرج.. من المؤكد أنها لو كانت تعرف أن مصير ابنها هو الاعدام لما كانت قد ردت بعصبية على جارتنا المسكينة، بل أنها تمنت كما توقعت جارتنا الطيبة.

الحزن الحقيقي خرج بصرخة من قلبي أعقبها صرخة من عمي.. التقيا مع صرخات من قلوب من كان ينتظرنا. لقد تم اعدامه وسلمونا شهادة وفاته.. هكذا انتهت قصة مواطن عراقي في ظل عهد صدام.

هذه ليست قصة من الخيال وهي لم تكن قصة القسوة الأكثر ألما التي عانى منها أهل العراق في ظل النظام الساقط، بل أن هناك قصصا أكثر قسوة وأكثر ألما.

بالمناسبة.. لحد هذا اليوم لم نعثر على جثمان أخي.. ولحد هذا اليوم لم نعرف تهمة أخي.. ولم نعرف أية محكمة حكمت على أخي وهذا يعني أنه لم يسمح لنا بتكليف أي محامي للدفاع عن أخي، بل لا نعرف هل أن هذه المحكمة قد سمحت لأخي بالدفاع عن نفسه؟ !!

هذه رسالتي الى المحامي خليل الدليمي لعله يخجل من نفسه، إذ أنه يدافع عن نظام كان لايسمح للمتهمين وعوائلهم بالدفاع عن أنفسهم، بل يعدمهم دون محاكمة ودون أن يسمح لهم باقامة مجلس عزاء.

طارق الحارس

[email protected]