صرخات التحذير المنطلقة هنا في أوروبا خوفا من العودة للنظام الأخلاقي تكاد تكون صدى معكوسا لصرخات التحذير المنطلقة في منطقتنا و المنادية بالمحافظة على هذا النظام لمواجهة quot;سمومquot; التغريب. و لو سألت أيّا من الناعقين عن معنى quot;سمومquot; أو quot;خطرquot; أو حتى quot;تغريبquot; فلن تجد أكثر من إجابة ساذجة عن وجوب الحفاظ على خصوصياتنا الثقافيّة و الدينية كغاية في حد ذاتها، و طبعا ما تيسّر من اسطوانة الغرب الحاقد الذي تغيضه quot;صحوتنا الإسلاميةquot; و الحاسد لما منّ الله به علينا من quot;نعمة الإسلامquot;.
أفهم التخوّف هنا من العودة للنظام الأخلاقي الذي لم تتقدّم أوروبا و الغرب عموما إلاّ بعد أن تخلّت عنه، فيوما بعد يوم يغرق المسلمون المقيمون في أوروبا في بئر سحيقة اسمها انطواء الجاليات على نفسها و عودتها لما تراه أصولها و جذورها و خصوصيّاتها quot;الثقافيةquot; و تقوقعها و رفضها الإندماج في مجتماعتها المضيفة (و التي قد تكون بدورها لم تفعل كل المتاح لتسهيل هذا الإندماج من الجهة المقابلة). يوما بعد يوم ترى الحجاب في مترو الأنفاق جنب المكروجيب و الديكلتيه و ترى النقاب (و لو نادرا) في المراكز التجاريّة حيث محلاّت بيع المياهوت و البيكيني، ترى الجلباب و اللحية الغير مهذّبة، عادة في مداخل العمارات و تقاطع الطرق، حيث يسير الجميع مسرعين لأعمالهم و أشغالهم بينما يتميّز هؤلاء بالتسكع و الشكوى من البطالة بحرق السيارات أو السرقة بالإكراه (و لما لا و هناك من أفتى لهم بجواز ذلك باعتبار ضحاياهم من quot;الكفّارquot;). المسألة لا تتوقّف عند المظاهر، صرنا نسمع عن جرائم quot;شرفquot;، عن مآسي تزويج الفتايات صغيرات السن عنوة من رجال من الجالية نفسها أو من الدين نفسه. و القائمة تطول و ستطول.
لم تكن تفجيرات لندن و التي قام بها شبان quot;بريطانيونquot; مسلمون من أصول مهاجرة سوى نتاج طبيعي لعودة هذه الجاليات لنظام بلدانها الأصلية الأخلاقي. في ظل مناخ الحريّة المتاح، و غياب أي تأطير، و حين تكون نافذة شباب المسلمين في بلاد المهجر على أصولهم و بلدانهم الأصليّة من صنف الجزيرة و المنار و اقرأ، حين يكون أئمّة المساجد مستوردين من البلدان الاسلامية و لا يتقنون حتى لغة البلد، فما بالك بالاختلاف الثقافي و ضرورات الاندماج في المجتمعات المضيفة، فأنّ تأطير quot;وعيهمquot; لن يكون سوى باتجاه اعتبار مجتمعاتهم quot;كافرةquot; quot;ظالمةquot; و quot;معتديةquot;، و جبت معاقبتها، ابتغاءا quot;للشهادةquot;. و كلّ هذا ليس سوى الثقافة السائدة في بلدانهم الأصلية. ليس سوى نظم بلدانهم الأصليّة الأخلاقيّة.
في بلداننا عندما نتحدّث عن الأخلاق، فنحن قبل كلّ شيئ نتحدّث عن الجنس، ثمّ الدين. المرأة الشريفة عندنا هي المرأة التي لا تجارب جنسيّة لها و لا شيئ غير ذلك. مع علمنا أنه نفاق سمج، و لكنّنا تعوّدنا النفاق، و تقديس المظاهر، و تجريم كلّ ما هو طبيعي و فطري، فصار الحجاب علامة العفّة، و طقوس الدين علامة الأخلاق، الرجل الذي يصلي هو بالضرورة متخلّق، و خصوصا لو كان له علامة في جبينه من أثر السجود و يمسك سبحة و يذكّر بغير داع أغلب الأحيان أنّه يقيم الصلاة في وقتها و لا يخشى سوى الله. أمّا الصدق في القول، الإخلاص في العمل، اتقانه، رفض الرشوة و المحسوبيّة مثلا لا حصرا، احترام القوانين، احترام انسانيّة الإنسان، طلب العلم (العلم الحقيقي و ليس الخرافة) كلّها بالفعل و ليس بالقول تأتي في المرتبة الثانية، أو الثالثة عشر. و عندما ينادي الجميع بالحفاظ على هذه quot;الأخلاقquot; فإنّهم فعلا لا يقصدون سوى الجزء الأول الخاص بالنفاق و مصادرة حريّة الانسان الشخصيّة.
آلاف العائلات هنا (من الغرب الكافر) تسعى سنويّا لتبني أطفال من العالم الثالث، مع العلم أنّه في أغلب الأحيان فإنّ هذه العائلات لها أطفال، أي أنّ الأمر ليس تعويضا عن عدم الانجاب، كما أنها لا تبحث عن أطفال شقر أو من أصل مسيحي، بالعكس، غايتها و متعتها فعل الخير بتبني أطفال من مناطق نزاع مسلّح أو من العالم الثالث، سمر أو آسيويين أو منغوليين حتى، أي كما نقول نحن (لوجه الله). في ثقافتنا (ديننا) التبني أساسا محرّم. حين يقرّر أحدنا التبرّع بأعضائه أو دمه (و هذه رأيتها بأم عيني) فغالبا ما يشترط أن يكون المستفيد مسلما أو من بلده (و كأن الآخرين كلاب)، لا أريد أن أعمّم و لكنّي لا أرى خصوصيّات ثقافيّة أخرى، كلّها تصب في رفض الحياة و رفض الآخر. ثقافتنا تقديس الطقوس و النصوص الأثريّة التي نعتبرها أهمّ من الانسان، لذلك تعلن المصيبة الجديدة القادمة من الصومال و التي اسمها محاكم شرعية أو اسلاميّة أن من لا يصلي فسيقتل تنفيذاquot; للشرعquot;. الصلاة اذا غاية في حد ذاتها و أهمّ من حياة الانسان. و بتدقيق بسيط سنكتشف أن ما يحدث ليس سوى عودة لجوهر نظامنا الأخلاقي. لذلك وجب التخلي عن هذا النظام الآن و ليس غدا، فالعمل أهم من الصلاة، و الانسان أهم من الطقوس، و لا قدسية الا لحرية الانسان و كرامته، و القوانين و المؤسسات فقط ما يجب احترامه كوسيلة لتحقيق ذلك و ليس كغاية في حد ذاتها عكس الأخلاق (الدين).
إنّهما رؤيتان مختلفتان تماما و لا يمكن أن تتعايشان معا، و ما صرخات التحذير من الجانبين الا بداية لصراع بالتأكيد لن يكون في صالح المتباكين على الأطلال و quot;الأمجادquot; الغابرة. و ما دعوات التوفيق بين الاثنين الا كحرث في البحر. لا بدّ من التخلى عن النظام الأخلاقي، و المجاهرة و الدعوة و [انّ العمل و العلم (و أكرر العلم الحقيقي و ليس الخرافات) أهم من الصلاة (و خير من النوم بدوره).
عماد حبيب
[email protected]
التعليقات