من أحب المواضيع الى نفسي، موضوع تجربة الهجرة وعلاقتها بالمكان ودلالاته، وقدرة الانسان على التعامل مع فخ إستعباد الاشياء والطموحات له وتحويله الى مجرد شيء مطحون تتلاعب به مجريات الأحداث وتدوسه أوهام جمع المال وخدعة العيش في مكان افضل من مكانه الأول الأصلي.


كل هجرة هي قتل لذاكرة الروح، فالمكان الأول الذي ولدنا فيه هو قدر لافكاك منه وغير خاضع لمعايير الجودة والسوء مقارنة بالأماكن الاخرى، فمعايير ذاكرة الروح مهمومة بمعاني ودلالات المكان والحوار اليومي الذي يجري بينها وبينه، ومعنية بما يحركه المكان من حنين واشواق الى عوالم روحية وجمالية ومعاني فكرية.


أما مسألة مردودات المكان المالية وما يوفره من خدمات فهي قضية اخرى قد تعني الاشخاص المستعبدين بطموحاتهم وأوهامهم، والذين يشعرون في أعماقهم بمشاعر النقص التي يتم تخديرها بأوهام العيش في مكان يوفر لهم الشعور بالتعالي والتكبر عندما يقارنون أنفسهم بالاخرين الأدنى منهم الذين يعيشون في المكان الأول الأصلي.


والهجرة في أفضل أحوالها وأنجح صورها.. هي ذل وتنازل عن الذات والحرية الداخلية النفسية وليست السياسية، فالمهاجر شخص لايتصرف بعفوية كما هو الحال في وطنه الأول، وانما هو دوماً يقتل عفويته التي تربى عليها ويتصرف بأفتعال وتصنع.


والمهاجر مهما كان سلوكه مستقيماً ونزيهاً يظل في حالة قلق من المجهول وعدم أطمئنان، وهذا الشعور يجتاح المهاجر بصورة لاأرادية قهرية وهو احد الفروقات الهامة ما بين المكان الاول الوطن والمهجر.


وهناك العذاب اليومي الذي يصيب المهاجر، اذ انه أين ما ذهب ومهما كان موقعه والتعامل الجيد الذي يحظى به فأنه يظل يشعر بينه وبين نفسه انه مواطن من الدرجة الثانية، وان هذا البناء والانجازات في بلد المهجر هو لم يصنعها وانما من صنعها هم أهل البلد الأصليين وبالتالي سيظل محروماً من متعة الشعور بالزهو والفخر بما يحققه وطن الهجرة.



ان الهجرة تجربة غير انسانية بالمرة وهي قتل للروح وسجن للذات داخل جدران مكان وبيئة مهما كانت رحبة وكريمة فأنها لايمكن ان تعوض المهاجر عن احضان وحنان الأم، وهي أستهلاك لأيام العمر بأوهام وخدع المقارنات بين البلد الأصلي وبلد المهجر ونسيان حاجات الروح لدفء المكان الأول الوطن.. البيت والزقاق والشارع والمدينة بتفاصيلها الحميمة من مقاهي ومطاعم واسواق ومعالم شتى كونت ذاكرة الروح ومصادر شعورها بالمعنى.

خضير طاهر

[email protected]