من الجوانب غير المطروقه في ازمة دار فور انها ساحة اختبار لعرف قانوني دولي اطلق عليه مسمي quot; مسئولية الحمايه quot;، الترجمة العربية ل The responsibility To Protect او R2P، بلغة الموبايلات. في مواجهة حملة الغرب والامم المتحده المكثفه حول القرار 1706 صورت الحكومة هذا الاهتمام غير العادي بكونه مغرضا يبطن غير مايظهر من اهدافه. واذا كان من وجه للصحة في هذا القول فهو ان سياسات الدول تحددها مصالحها فهي بهذا المعني مغرضه ولكن هناك فرقا جوهريا بين مصالح يصوغها المجتمع بكامله من خلال الية ديموقراطيه واخري تصوغها الية الاستفراد الانقلابي. الاخيرة قابلة للتغيير حفاظا علي سلطة فئوية ولو علي حساب المجتمع بينما الاولي قابلة للتغيير حفاظا علي مصلحة وطنية بمقاييس المجتمع المعين. علي اية حال، احد مفسرات هذا الاهتمام، بعيدا عن ماهية الغرض في مصالح الدول، هو تزامن انفجار الصراع المسلح في دارفور مع الذكري العاشرة لمذابح رواندا عام 1994 التي وقف فيها المجتمع الدولي امما متحده ودولا غربيه متفرجا علي مقتل مايقارب المليون من اثنية الهوتو علي يد اثنية التوتسي. غير ان العلاقة الرواندية بموضوع دارفور لاتتوقف عند هذا الحد لان الفشل هنا كان تكرارا لماسي قريبة العهد نسبيا مثل الصومال عام 1993 ومذبحة سريبرينتسا عام 1995 ضد المسلمين، عززت تحركات تستهدف اعادة النظر في احد اهم قواعد النظام العالمي وهي سيادة الدولة الكاملة ومن ثم لامشروعية التدخل في شئونها الداخليه. ومعروف ان هذه القاعدة جري ارساؤها فيما سمي بمعاهدة وستفاليا عام 1648 التي انهت سلسلة من الحروب الاوروبية وجاء ميثاق الامم المتحده الموقع عام 1945 ليكرس هذا المبدأ عالميا في الفقرة الثانية من المادة السابعة التي تنص علي عدم جواز التدخل في مايعتبر شئونا داخلية للدول الاعضاء.


ضربة البدايه في عملية اعادة النظر بهذه القاعده كانت نداء وجهه كوفي انان خلال دورة الجمعية العامة للامم المتحده عام 1999 تشكلت علي اثره لجنة دوليه خرجت عام 2001 بتوصيات من بينها مصطلح quot; مسئولية الحمايه quot; ومؤداه اعادة تعريف السيادة الوطنية بما يدخل فيها مسئولية الدوله عن حماية الشعب من عمليات القتل الجماعي بفعل المجاعات والحروب الاهليه وغيرها. وفيما يبدو انه التطور قبل النهائي لتجاوز هذا المفهوم مرحلة العرف ليصبح جزء من القانون الدولي كانت الوثيقة التي وافق عليها رؤساء الدول الاعضاء في الامم المتحده خلال اجتماعهم بمناسبة الذكري الستين لتأسيسها في سبتمبرعام 2005 وورد فيها: quot; علي كل دوله تقع مسئولية حماية سكانها من الابادة الجماعيه، جرائم الحرب، التطهير العرقي والجرائم ضد الانسانيه وكذلك علي المجتمع الدولي من خلال الامم المتحده...في هذا السياق نحن مستعدون لاتخاذ خطوات جماعيه بسرعة وحزم من خلال مجلس الامن تمشيا مع الميثاق، بما في ذلك الفصل السابع، علي اساس كل حالة علي حده وبالتعاون مع المنظمات الاقليمية المعنيه اذا ثبت عدم كفاية الوسائل السلميه وتأكد عدم قدرة السلطات الوطنيه علي حماية مواطنيها من الابادة الجماعيه الخ.. الخ.... quot;


الاتفاق كان حصيلة مساومة بين توجهات غربيه رسميه وغير رسميه مسنودة ببعض دول افريقيا وامريكا اللاتينيه تود الذهاب خطوة ابعد بتحديد معايير معينه بحيث يستدعي انتهاكها تدخلا دوليا، وتوجهات مشتركة بين روسيا ومجموعة من دول العالم الثالث الاخري لازالت متمسكة بالمفهوم التقليدي للسيادة الوطنيه. ويذكر في هذا الصدد ان دولا مثل جنوب افريقيا، وكندا التي كانت مرشحة لقيادة قوات الامم المتحده، وشخصيات مثل محمد سحنون الدبلوماسي الدولي الحزائري لعبت وتلعب دورا هاما في اقرار هذه التوجهات المستجده وجميعها ظهرت علي شاشة ازمة دارفور. كذلك الامر فيما يتعلق بالاتحاد الافريقي فانتقاله من صيغة منظمة الوحدة الافريقيه رافقه تفكير قريب من هذا العرف الجديد من مؤشراته تبني مبدأ عدم الاعتراف بحكومات الانقلابات العسكريه ( قمة الجزائر عام 1999 ) الذي يغلب الظن بأن احدا لايجرؤ علي طرحه حتي كفكره في الجامعة العربية.


المعلومة الاخيرة هذه لها بعد سوداني دارفوري يتصل بدوافع اعمق وقد تكون لاشعوريه وراء تصلب موقف الحكومه من مسألة القوات الامميه قبل ان يلين لاحقا في سوق مساوماتها صونا للمصلحة ( الوطنيه ). فمن الملاحظ ان الدول الافريقية غير العربيه اكثر استعدادا للقبول بالتدخل الاجنبي لتفكيك ازماتها المصيريه من الدول العربيه. وفي حالات مثل سيراليون وليبريا والكونغو وصل الامر درجة القبول بأستدعاء المستعمر ( بكسر الميم ) السابق الفرنسي والبريطاني ماأدي بالفعل الي ايقاف انزلاقها نحو التفتت ووضعها علي طريق التطور الديموقراطي الذي اثبتت تجربة البشرية المعاصره كونه الشرط الاولي لتمتين السيادة الوطنيه. فقوة الدولة كروابط مواطنيه ونمو اقتصادي - معيشي من قوة مجتمعها الحي وليس قوة اجهزة مخابراتها وجيشها. عندنا عربيا السائد هو ثقافة الفصل بين الاثنين مما يسهل استثارة العواطف والغرائز الشعبيه بالشعارات الدينية والوطنية والقومية التبسيطيه وتعطيل اي امكانية للتأسيس الديموقراطي لمجرد اقترانها بمصدر اجنبي اممي او ثنائي. ولعل ذلك راجع الي الانفصام بين الماضي الذهبي العربي ndash;الاسلامي وتيارات الاستنارة والعقلانية مما يوفر مادة غنية جاهزة لهذا النوع السلبي من الاستخدام للتراث الحضاري بينما التراث الحضاري الافريقي ليس جاهزا بنفس الدرجه. وفي مثل هذا المناخ تزدهر نماذج الافكار والايدولوجيات الشمولية وانظمتها المتخصصة في ( الدفاع ) عن كرامة الوطن وعزته مجردتين عن كرامة وعزة المواطن والمجتمع المنتهكة بالخوف من السلطه والفقر معا. والنتيجة هي تحلل النسيج الوطني ودولة قوية ظاهريا في عالم تجتاحه الان موجات العولمه. وبما ان القانون محليا كان او دوليا هو تقنين لافرازات الواقع فأن الاثر التذويبي لهذه الموجات علي الحدود السيادية بين الدول هو الذي ينعكس في عرف يتكرس تدريجيا في شكل قانون بعنوان quot; مسئولية الحمايه quot;، سيسجل التاريخ دور معاناة اهل دار فور في صياغته.

عبد العزيزحسين الصاوي