تقوم فلسفة الإرلندي جورج بركلي (1682-1757)، المعروفة بالمثالية الذاتية، على الفكرة المحورية التالية: إن الوعي الذاتي هو الذي يمنح الوجود إلى الموجودات الأخرى بالنسبة إلى صاحب الوعي ذاته. فأنا حينما ادرك الآن أن هناك أشخاصاً يحيطون بي، فهذا معناه انهم موجودون بالنسبة إليّ؛ ومصير هذا الوجود مرتبط بعملية الإدراك التي تنقذ الوجود من العدم. فالكتاب الذي تركته على طاولة المكتب، لم يعد موجوداً بعد خروجه من دائرة ادراكي له، هذا على الرغم من أنه هو الكتاب ذاته الذي أقرأ فيه كل يوم.


وهنا ربما اعترض احدهم قائلاً: ما هذا الهراء! فالموجودات تظل هي هي، حتى ولو توقف بركلي أو غيره من أتباعه عن ادراكها. والدليل على ذلك شهادات الناس الآخرين الذين يعترضون على ما يذهب إليه.
لكن الفيلسوف كان قد احتاط لهذه الدعابة، وكان جوابه المعد بالاتساق مع بنيانه الفلسفي هو التالي: وما قيمة هذه الشهادات طالما أنا الذي أمنح الوجود لأصحابها.


ما دفعني إلى هذا الاسترسال هو ما سمعناه من علي حسن المجيد في جلستي المحاكمة الأخيرتين، جلسة يوم الأربعاء الموافق ل 24-1-07، وجلسة يوم الأحد الموافق ل 28-1-07، وذلك حينما أراد أن يسوّغ كل جرائمه الانفالية قائلاً: كنت أمتلك الصلاحيات، واقدّر الظروف، وكل ما كان يصدر عني كان هو القانون. بمعنى لتذهب الشهادات جميعها، ولتذهب الوثائق كلها، إلى الجحيم، أمام قناعاتي وتقديراتي التي كانت بمثابة وحي يوحى.


ومنعاً لأي التباس، لابد من الإقرار باستحالة إمكانية المقارنة بين موقف الفيلسوف بركلي والكيماوي علي على الصعيدين المعرفي والقيمي، و ما جمع بينهما هنا كان مجرد التداعي الفكري ليس إلاّ. فالأول كان يريد أن يصل إلى رأي فحواه: ان الادراك الإلهي هو الأساس لحماية الموجودات من الانزلاق إلى دائرة العدم. في حين أن الثاني كان يريد إرسال كل العراقيين إلى دائرة العدم، انقاذاً للوجود السلطوي لحفنة من النكرات الذين اغتصبوا العراق بتاريخه وتراثه، باقتصاده وامكانياته، بكل مكوّناته في غفلة من الزمن؛ واعتقدوا مع الوقت أن العناية الإلهية هي التي قد اختارتهم، ومنحتهم حق إبادة الجميع بكل الوسائل التقليدية والخاصة، وذلك اشباعاً لنزوات سادية عصابية، أغرقت البلاد والعباد في بحار من الدماء، ما زالت تتدفق نتيجة ما غرسه النظام البائد من مفاهيم الحقد والكراهية، والعنف والشراسة.


والأمر اللافت في مداخلات الكيماوي هو رغبته في بيان مقدرته الفلسفية، وذلك من باب الرد على خبث الخصوم الذين يتساءلون عن مؤهلاته العلمية. فهو يدافع عن أفعاله زاعماً: إننا إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي كانت سائدة في العراق أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، علينا الإقرار بمشروعية عمليات الأنفال التي قضت على أكثر من 180 ألف كردي، من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب. هكذا بكل صفاقة ووقاحة يريد الكيماوي أن يعطي العذر لنفسه ولنظامه المقيت، ويحاول اقناع الناس بأنه لم يكن ينفذ مشروعاً تصفوياً يستهدف الشعب الكردي في كردستان العراق، هذا مع وجود الأطنان من الوثائق المكتوبة والمسموعة والمرئية - وقد عرض الإدعاء العام في محكمة الأنفال قسما كبيرا منها وربما يعرض المزيد- وهي كلها تدينه، وتدين نظامه الذي امتهن القتل الوسيلة الأساسية لإسكات الناس، وتثبيت المواقع لصالحه.
لكن الأغرب من هذا وذاك، هو تمسّك العديد من quot;المثقفينquot; والإعلاميين العرب - على الرغم من كل شيء- بزعم خادع مضلّل مفاده أن نظام صدام كان هو المنقذ المرتجى، فهؤلاء الذين قد غطت الغشاوات العصبوية أو المالية على بصائرهم، الأمر الذي يمنعهم من الإعتراف بالحقائق والمعطيات، يخوّنون كل سكان العراق، لصالح جوقة من المستفيدين جلبت المصائب والويلات المتتالية على العراق والمنطقة والأمة.


وبمناسبة محاكمة جرائم الأنفال، أذكر هنا حديثاً - كنت طرفاً فيه- دار بين مجموعة من الأساتذة الذين كانوا يدرّسون في جامعة سبها - ليبيا بعد حرب تحرير الكويت 1991. فقد كنا في ذلك الحين نلتقي بعد انتهاء الدوام في الباحة الداخلية للجامعة، نتبادل الأحاديث والآراء والمعلومات؛ والمفيد في الأمر أن مجموعة الأساتذة كانت تضم مواطنين من مختلف الدول العربية، وهذا ما كان يجعل المناقشات أكثر تنوعاً والحصيلة أكثر غنىً. ولعله من المناسب الإشارة هنا إلى أن المناخ الشعبي الليبي العام كان ميّالا في ذلك الحين إلى تأييد نظام صدام، لأسباب عدة منها: عدم توفر المعلومات الدقيقة لدى الناس، وبعد المسافة، والرغبة في التشبث بأي كان طالما أنه يمنحهم بريقاً - حتى ولو كان خادعاً- من الأمل والثقة بالمستقبل.


ما أذكره بخصوص الحديث المأتي عليه، هو ما عرضه زميل عراقي - انطلاقاً من تجربته الخاصة في الجيش - من جرائم اقترفها الجيش العراقي بأمر من علي الكيماوي وبطانته بحق الكرد خلال عمليات الأنفال. ذكر الزميل الكثير من التفصيلات المرعبة التي تقشعر لها العقول والأفئدة، لا أوردها هنا منعاً لإثارة الأحاسيس والمشاعر. وما زلت أذكر التفاته الإنسانية نحوي التي كانت بمثابة الإعتراف والإعتذار. لكنه لم يكتف بذلك، بل أضاف قائلاً: يحق للكرد أن يفعلوا بنا ما يشاؤون، فمهما فعلوا لن يتمكنوا من بلوغ القصاص العادل لتلك الجرائم التي اقترفناها بحقهم.


وهنا أذكر أيضاً تدخل واعتراض أحد الأسائذة اللبنانين الذي لم يكن موضع اعجاب وتقدير بين الأساتذة والطلبة على السّواء- وكان على شاكلة السيدة بشرى خليل التي تستطيع التحدث في كل شيء ما عدا اختصاصها المفروض. ما ذهب اليه الاستاذ المذكور هو: مشكلتكم أيها العراقيون انكم لاتستحقون هذا القائد الكبير صدام حسين. فرد عليه الصديق العراقي العربي على الفور محقاً: quot;دخيلكم خدوه، خلصونا منه،مبروك عليكمquot;.
إنها محنة حقيقية بالفعل. شعب يتلظى، ينادي، يستصرخ، والآخرون يصرّون على شهامة القتلة، وملائكية الزبانية.

د. عبدالباسط سيدا
[email protected]