بعد نجاح حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان في الانتخابات البرلمانية تركيا، وفوزه بالأغلبية وتشكيله الحكومة ونجاحه في إيصال الرجل الثاني في الحزب عبدالله غول الى رئاسة الدولة التركية، توقع أغلب المراقبون والمتابعون السياسيون إحداث تغييرات ايجابية وإصلاحية لصالح الشعب التركي الذي يتكون من قوميتين رئيسيتين هما الترك والكرد، ولصالح نجاح محاولات الحكومة للدخول الى النادي الأوربي، ولصالح المنطقة التي تعاني من أزمات إقليمية خاصة العراق منها للتخفيف من المشاكل الأمنية والسياسية التي تعاني منها العراقييون، ولكن الأحداث الأخيرة التي سيطرت على العلاقة بين تركيا والعراق وإقليم كردستان، حيث شكل إعلان رئيس الحكومة التركية أردوغان نية تركيا في القيام بتدخل عسكري داخل أراضي كردستان العراق بحجة القضاء على مقاتلي حزب العمال الكردستاني صدمة سياسية في المنطقة نتيجة عدم توقع مثل هذه الخطوة من قبل حزي العدالة ورئيسه الذي توعد بمعالجة المشكلة الكردية من الداخل التركي وليس في الخارج.
هذه الخطوة التركية تأتي في حين أن مراحل المباحثات السياسية بين الحكومة العراقية وإقليم كوردستان والحكومة التركية وممثل الولايات المتحدة الأمريكية لم تنتهي بعد، بالرغم من إعلان دعوات للمؤسسة العسكرية باللجوء الى الخيار العسكري في الخارج لمحاربة حزب العمال الكردستاني والقضاء عليه، رغم أن المطالب التي يدعو اليها الحزب التركي الكردي قومية متعلقة بالمواطنة الشرعية لنيل الحقوق الثقافية والسياسية للشعب الكردي في تركيا الذي يقدر عدد نفوسه بأكثر من 20 مليون نسمة وهو القومية الثانية الرئيسية فيها.
ونتيجة للموقف التركي بنيتها للتدخل عسكريا في إقليم كردستان فقد تولدت احتجاجات دولية ولدت صدمة كبيرة لأردوغان ولحزبه ولرئيسه وللمؤسسة العسكرية التركية، لأنهم لم يتوقعوا مثل هذا الموقف الدولي الموحد على صعيد الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا وحلف ناتو وروسيا والأمم المتحدة، ولم يتوقعوا هذا الموقف العراقي الموحد من قبل الحكومة الفيدرالية ومن قبل جميع الكتل والأحزاب السياسية التي أعلنت عن موقفها الرسمي بأنها تقف كجبهة موحدة للوقوف بوجه تركيا في حالة قيامها باعتداء عسكري على فيدرالية كردستان التي تعتبر أنجح تجربة عراقية متميزة معبرة بكل نجاح وتألق عن ديمقراطية ودستورية وفيدرالية العهد الجديد في العراق والمتسمة بالأمن والاستقرار والسلام.
ويبدو أن تركيا الجديدة برئاسة رئيس حكومتها أردوغان، نتيجة لهذه المواقف الدولية المستنكرة للخطوة العسكرية التركية والداعية الى اللجوء الى الخيار غير العسكري من خلال الحوار ومنح الدبلوماسية حقها للبحث عن الحلول والمعالجات البديلة لحل مشكلة حزب العمال الكردستاني في العراق وفي تركيا، لم تكن على دراية ولم تكن على علم مدرك بموقع العراق الجديد وبموقع إقليم كردستان على الساحة الإقليمية والدولية، ويبدو أنها لم تستوعب بعد البعد الدولي لنجاح التجربة الديمقراطية والدستورية العراقية وأنها لم تستوعب بعد البعد الدولي أيضا للنموذج الكردستاني الذي حظي باهتمام كبير على صعيد المجتمع الدولي، خاصة الدول الكبرى والأمم المتحدة والدول الديمقراطية في العالم، بفعل نجاح هذا النموذج في إقامة ديمقراطية دستورية بالرغم من الفساد والأزمات الحياتية والمعيشية التي تترنح تحت آلامها الشعب الكردستاني وبفعل نجاحه في إقامة كيان مستقر آمن منعم بحركة عمرانية وتجارية واقتصادية ناهضة لإزالة آثار الدمار والخراب الحروب التي فرضتها الحكومات الفاشية السابقة في بغداد للنيل من طموح الشعب الكردستاني في نيل حقوقه القومية والوطنية تحت خيمة السيادة العراقية، ولا شك أن القراءة الخاطئة هذه لحكومة رجب طيب أردوغان قد ألحقت بها أضرار سياسية كبيرة ستؤثر بشكل سلبي في المستقبل القريب على الوضع الداخلي في تركيا وعلى المواقف الإقليمية والدولية لها خاصة منها علاقتها بالعراق ومحاولة دخولها الى الإتحاد الأوربي الذي تتحكم بمنظوماتها الأسس الديمقراطية والمدنية المتسمة بأعلى ارتقاء للحقوق وللقيم الإنسانية العادلة.
ومن خلال قراءة الواقع التركي الجديد تبدو أن الحكومة الجديدة والمؤسسة العسكرية التركية لا زالت بعيدة عن تفهم المطالب العادلة للشعب الكردي في تركيا ولا والت بعيدة عن تفهم المطالب الأوربية لفسح المجال أمامها للدخول الى السوق الأوربي المشترك، ولا زالت بعيدة عن استيعاب المقومات الأساسية للديمقراطيات الحديثة التي لها القدرة على حل جميع المعضلات القومية للمجتمعات القائمة بقوميات متعددة، والمواقف الأخيرة لتركيا باختيار الحل العسكري قد أرجعتها الى الوراء الى العقول المتحجرة السابقة التي أبقت المشكلة الكردية على حالها دون حل سياسي عقلاني مقبول من الطرفين الكردي والتركي، لذا فهي لا زالت تتحكم بها عقلية عسكرية لحل قضايا شعوبها التي تعاني من حرمان الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والمؤسف أن المؤسسة العسكرية على عكس المؤسسة السياسية المنتخبة مصرة على سد منافذ الحل أمام هذه المعضلة بحجة القضاء على حزب العمال الكردستاني الذي يعتبر الحزب الكردي الوحيد في تركيا الذي يقود الكفاح المسلح لنيل الحقوق القومية للكرد ضمن خيمة السيادة التركية.
ولكن بالرغم من هذه القراءة وبالرغم من تشدد جنرالات تركيا، فقد بدرت دعوات حكيمة للإصلاحي المتجدد أردوغان منها دعوته للحزب التركي الكردي الى وضع السلاح واختيار الكفاح السلمي لنقل المعركة سياسيا الى قبة البرلمان التركي، ولا شك أن هذه الدعوة متزامنة للدعوة التي دعت اليها القيادة السياسية في كردستان العراق باللجوء الى الحوار واختيار السبل البديلة عن الكفاح المسلح والعمليات العسكرية ودعوة حزب العمال الى ترك ساحة الإقليم والنقل الى ساحتها التركية والإبعاد عن خلق أزمات إقليمية لا تعود الا بالضرر والدمار على شعوب المنطقة.
وبالتوازي مع هذا الاتجاه، فقد ظهر موقف دولي صائب يطالب بإيجاد حل سلمي للقضية وللأزمة الناتجة، وهذا من محاسن الأمور للأطراف المرتبطة، كذلك توازيا مع نفس هذا الاتجاه خرجت أصوات من داخل تركيا تنادي باللجوء الى حل غير الخيار العسكري لحل القضية توازيا مع الإصلاحات السياسية التي ادخلها حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان ضمن منهاج مسار التحسن لتنفيذ إصلاحات جادة وتغييرات إيجابية لصالح الشعوب التركية ولتنفيذ المعايير الأوربية المطلوبة من تركيا في مجال الحقوق السياسية والديمقراطية والثقافية، وإحدى هذه الحلول المطروحة على الساحة السياسية هي تعديل الدستور التركي لحل مسألة القوميات واللغات والحقوق في تركيا، وهو حل يحمل معه معالجة أولية للمشاكل السياسية والقومية والثقافية للأقليات والقوميات التي تعيش في الدولة التركية، وهو يحمل في عين الوقت حكمة وعقلانية كبيرة لغرض ضمان الاستقرار والأمن والسلام في دولة تتسم بعلمانية معتدلة لإبعاد شبح الحروب القومية والمذهبية والدينية عنها.
واستنادا الى هذه التوجهات الجديدة لأردوغان وتوازيا مع هذا المسار، فان الحكمة والبصيرة السياسية تستدعي أن تقوم الحكومة التركية بتقييم العهد الجديد في العراق وبتقييم النموذج الفيدرالي الكردستاني بروية وتعقل وفق معطيات الحضور الحقيقي للوقائع داخل الإقليم ووفق المعطيات الدولية والإقليمية التي أخذت تحظى بها هذه التجربة السياسية بكل أبعادها العراقية والكردستانية، لأنها تجربة سياسية إنسانية ناجحة بكل معاني الكلمة للشعب الكردستاني الذي عانى الويلات والكوارث ومع هذا بقي صامدا، وهي تجربة تفتخر بها الامة العراقية بعربها وكردها وتركمانها وكل قومياتها وأديانها ومذاهبها من البصرة الى زاخو، تجربة وضع أسس بنيان هيكلة الدولة العراقية، من خلال الدستور الدائم المعاصر لإدارة البلاد بديمقراطية وفيدرالية حديثة وتعددية سياسية في الحياة، دستور أرسى المؤسسات الشرعية الممثلة بحكومة وطنية مخولة من جمعية نيابية منتخبة وسلطة قضائية مستقلة.
استنادا الى هذا الواقع الجديد الذي أخذ يفرض نفسه بصبر وتأني من خلال قراءة الأحداث، فان التوجه الجديد للمؤسسة السياسية التركية الداعي لإخراج الدولة من أزماتها السياسية والقومية والاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها من عهود طويلة، يشكل دعوة حكيمة للبحث الجاد في إيجاد وسائل ضامنة حقيقية لمعالجات القضايا الأساسية من جذورها للوصول الى إرساء سلام دائم في المنطقة يخدم تركيا والعراق وإقليم كردستان لتحقيق الازدهار والأمن والنهوض الاقتصادي لكافة شعوب المنطقة، لتجاوز الآثار المتخلفة عن الحروب والأزمات القائمة فيها، لإرساء نموذج منشود من العلاقات القائمة على المنافع والمصالح المتبادلة قادر على رسم حاضر مشرق ومستقبل زاهر لكافة شعوب المنطقة.
د.جرجيس كوليزادة
[email protected]
التعليقات