أشرت في المقال السابق الى جانب من المعاناة اليومية والأزمات المعيشية التي يعيشها المواطن في كردستان، في الوقت الذي تسعى فيه حكومة الى ترشيد نفقات الميزانية بتسريح نصف مليون موظف، وتنزيل رواتب ومخصصات البقية الباقية، وحرمان المتقاعدين من مداخيلهم الإضافية. وسأحاول في هذا المقال التكملة لأبين للقاريء الكريم والسادة المسؤولين، حجم الكارثة التي ستحل بالمواطنين في حال تجرؤ الحكومة بنفض يدها عن رعايتهم وتوفير الحد الأدنى لمتطلبات معيشتهم وهو بالتأكيد من مسؤولية الحكومة ذاتها.
في البدء لا إعتراض لنا إذا ما حاولت الحكومة ترشيد النفقات واعادة تنظيم شؤونها المالية لتحسين إدارة الموارد المالية بشكل أكثر عقلانية،والتقليل من هدر المال العام أو إستخدامه لمنافع ذاتية، ولكن إذا كان الترشيد على حساب المصلحة العامة فهذا أمر غير مقبول، خصوصا في ظل غياب أي رقابة برلمانية أو قضائية لإداء القطاع المالي في الحكومة. فالمعروف في إقليم كردستان أن ميزانية الحكومة غير خاضعة للتدقيق أو المساءلة لا من البرلمان الكردستاني ولا من أي جهة محايدة، فلا أحد يعرف حجم تلك الميزانية وأوجه صرفها ومصداقية كشوفاتها،أوالجهة التي ستحاسب الحكومة على تصرفها بتلك الميزانية،هذا فضلا عن الغموض الكبير الذي يلف الموارد المحلية المتأتية من الضرائب والكمارك وإيرادات دوائر البلدية والخدمية الأخرى التي تبلغ مقادير مهمة، فهذه الموارد التي تقاتل من أجلها الحزبان الكرديان الرئيسييان لأربعة سنوات متتالية،لا احد يعرف حجمها ومصيرها في ظل إنشغال الجميع اليوم بحصة الإقليم البالغة 17% من ميزانية الدولة العراقية.
كما أشرت سالفا لا إعتراض لنا مطلقا إذا أقدمت الحكومة على ترشيد نفقاتها، لأننا نلمس فعلا هدرا كبيرا للمال العام الى جانب السرقة والنصب والإحتيال وتزوير العقود وإستغلال النفوذ وغيرها من أوجه الفساد الضارب بكردستان،والتي تعتبر جرائم يعاقب عليها القانون الجنائي، فإذا كان الترشيد على حساب الجموع الهائلة من ذوي الدخول الواطئة أو من نسميهم بالطبقات الفقيرة وهي طبقة جديدة ظهرت في كردستان في ظل إنهمار الأموال عليها، حيث لم تكن هناك وجود طاغ لهذه الطبقة حتى في ظل النظام الدكتاتوري السابق الذي كان ينهب أموال العراق،ولا يصرف سوى جزءا يسيرا قد لا يتجاوز 5% من الموارد النفطية على البلد. وهنا المفارقة العجيبة،أن تغرق كردستان بمليارات الدولارات كل سنة فيما يجوع فيه المواطن،و لا يجد قوت أطفاله إلا بشق الأنفس،والمصيبة تكون أعظم عندما تحاول حكومة الإقليم حتى مصادرة هذا القوت من أفواه الأطفال..
إن الإنتقال من إقتصاد مدمر قائم على المركزية الشديدة، الى إقتصاد السوق بهذه العجالة والسرعة المتناهية،هو إنتقال خطير ومدمر أيضا،إذا لم يؤخذ بنظر الإعتبار التدرج البطيء في عملية التحول لكي لا يتضرر المجموع بسبب عدم توفر الأرضية الملائمة وتأهيل المواطن لقبول تلك الإنتقالة من إقتصاد متخلف الى إقتصاد متقدم. ولكن السادة المسؤولين في حكومتنا الإقليمية ما أن تصدر الأوامر اليهم من واشنطن أو لندن أو صندوق النقد الدولي حتى تراهم يستسلمون لها من دون أي إعتبار لمصلحة الشعب،فيسرعون الخطى حتى لو كان على حساب المصلحة العامة.
طبعا نحن لا نريد أن تتولى الحكومة بيع الدبابيس وعلب الكبريت في دكاكين بالشوارع،أو بيع الفواكه والخضر في الأزقة والأحياء كما كان النظام السابق يفعل ياسم الإشتراكية العرجاء؟!. ولا نريد أيضا أن تستورد لنا الدولة أقلام الرصاص من جمهورية الصين الشعبية، ولكننا لا نريد في الوقت ذاته أن تنفض الدولة يدها عن توفير المستلزمات الحياتية للمواطن، في مقدمتها مستلزمات المعيشة. وطبعا لا أقصد الرز والسكر ومعاجين الطماطة والصوابين التي توزعها بالبطاقة التموينية، لأن هذه ليست من مهام الحكومة،ولكن بالمقابل على هذه الحكومة أن توفر الحد الأدنى من الرعاية الإجتماعية من خلال توفير فرص العمل أمام القادرين عليه، وتخصيص إعانات ورواتب لغير القادرين على شرط أن لا تكون إعانات رمزية، بل أن تأخذ بنظر الإعتبار الحد الأدنى لتكاليف المعيشة كما في معظم بلدان العالم المتقدمة في مجال الرعاية الإجتماعية، خصوصا وأن العراق دولة غنية تغرق في بحور من النفط وتملك ثروات زراعية وإقتصادية هائلة.
الضغوطات المعيشية تنهال على المواطن الكردستاني من كل حدب وصوب..وهذه الحكومة التي تخبط خبط عشواء الآن،لا تعرف التعامل مع الحاجات الإنسانية للمواطن.. ففي الوقت الذي تحاول فيه تقليص رواتبه وقطع إعاناته، تفرض عليه تكاليف أخرى باهظة تقصم ظهره.
فالضرائب إزدادت سواء على العقارات أو الدخول بأضعاف مضاعفة.
قبل فترة أضطررت بسبب إرتباطي بموعد مستعجل على إيقاف سيارتي في مكان ممنوع داخل مدينة أربيل، وعندما عدت وجدت ضابط المرور قد فرض علي غرامة مرورية فورية، وكانت الصدمة قوية لأني وجدت أن حضرته قطع وصلا بمبلغ(30) ألف دينار، ما يعادل 25 دولارا، في حين أن راتبي التقاعدي لا يتجاوز 40 دولارا.وكانت الغرامات المرويرية في السنوات السابقة لا تتجاوز 3 آلاف دينار من العملة الجديدة، ولكنها قفزت الى 30 ألف في الوقت الذي كانت فيه مستويات المعيشية في تلك السنوات أفضل بألف مرة مما هو عليه اليوم؟؟!
فرضت زيادات كبيرة على أسعار الوقود، كانت ( تفويلة) السيارة أي ملء خزانها لا تكلف سوى دولارا واحدا من النوعية الممتازة،واليوم تكلف 50 دولارا ومن النوعية الرديئة، بمعنى أن سيارة عادية تحتاج الى وقود بما يعادل 200 دولار شهريا؟؟!!.
قفز سعر برميل النفط الأبيض( التدفئة) من 5 آلاف دينار الى 180 ألف دينار في عز الطلب بفصل الشتاء؟؟!
إرتفعت إيجارات السكن الى أسعار خيالية، ضاربة الرقم القياسي في المنطقة برمتها، ففي العاصمة السورية دمشق يمكنك تأجير شقة مفروشة بخمسين دولارشهريا، فيما لا تستطيع تأجير شقة غير مفروشة وبغرفتين في أربيل بأقل من 300 دولار؟!.
وقد عذرت زميلا لي يقيم في السويد عندما هم بالرجوع الى المنفى وهو يؤكد لي، أن تكاليف المعيشة في أربيل أكبر مما هو عليه في السويد حيث يقيم،وأنه لا يستطيع تحمل المصاريف اليومية في أربيل بسبب الغلاء الفاحش فيفضل العودة الى منفاه من الإقامة في بلده المتحرر؟؟!
هناك هوة واسعة تفصل بين قدرات المواطن المادية، وبين توفير أبسط مستلزمات المعيشة.ومع ذلك فإن الحكومة تسعى لحرمان هذا المواطن مما بقي تحت يديه توفر له ولعائلته حياة حرة كريمة؟!.
هذا هو حال أكثرية الشعب في إقليم كردستان، وبدلا من أن تحاول الحكومة تحجيم الغلاء ووقف الإرتفاع الجنوني للأٍسعار من خلال معالجة الأزمات المعيشية، تسعى الى الضغط أكثر على المواطن وتحميله ما لا طاقة له به؟.
في الحقيقة أن نوايا الحكومة الإقليمية بتقليص أعداد موظفي دوائر الدولة الى النصف، أي طرد نصف مليون موظف هذا إذا كانت الإرقام التي أعلنتها الحكومة صحيحة ببلوغهم حوالي مليون موظف يقبضون الرواتب من الحكومة، فستحل كارثة حقيقية مؤكدة بالإقليم، فلا القطاع التجاري الخاص قادر على إستيعاب هذا الجيش الكبير من المطرودين والمسرحين من دوائر الدولة،ولا فرص العمل الحر متوفرة أمام المواطن لكي يمارس حياته الطبيعية بعزة وكرامة.
إن هذه الخطوة لو تحققت فستكون آخر مسمار في نعش الحكومة الإقليمية ومصداقيتها في الأوساط الشعبية،لأنها ستكرس واقعا مريرا وخطيرا قد لا يعرف نتائجه، وأن هذا الخبط العشواء من الحكومة سيودي بها الى التهلكة الحتمية لو تم إنتهاج سياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع هذه القضية الحساسة.
فمن يصدق أن الآلاف من العمال في مختلف دول العالم الفقيرة بدؤا يتجهون الى كردستان للعمل، فيها في الوقت الذي يعاني المواطن في الإقليم من إنعدام فرص العمل أمامه؟! فبالإضافة الى آلاف العمال القادمين الى كردستان من شتى محافظات العراق،وهذا حقهم الطبيعي، هناك آلاف آخرين قدموا إليها من إيران وبنغلاديش وتركيا يعملون في قطاع البناء؟؟!.
من يصدق أن فتيات من الفليبين وتايلاند ودول أخرى في جنوب شرق آسيا أصبح لهن وجود كخادمات في بيوت المسؤولين والموسرين الأكراد وبرواتب مجزية، فيما هناك مئات أخريات يعملن في السوبر ماركيتات والشركات الخاصة، فأصبحت وجوههن مألوفة في شوارع المدينة؟؟!!.
من يصدق أن هناك عشرات غيرهن يعملن في المزارع الخاصة بالمسؤولين في الحكومة والأحزاب والتي أصبحت ظاهرة منتشرة على جانبي الطرق المؤدية الى خارج المدن الكبرى في كردستان،و لا أحد يعرف ما يدور بداخلها خصوصا في الليالي الحمراء؟؟!!.
من يصدق أن فنادق الدرجة الأولى في كردستان إمتلأت بالحسناوات من الجنس الناعم وهن مستوردات من خارج الإقليم، وعملهن عمل المساج والحمام الزيتي للرواد......؟؟!!..ولا نستبعد أن تتوجه قوافل قادمة من أوكرانيا وأستونيا وليتوانيا وروسيا الى كردستان للعمل فيها كراقصات في الفنادق؟!.
طبعا لن نكون مثل المتباكين على الماضي التليد نرفض التغيير، ولكن التغيير يجب أن لا ينحصر في ظاهر الأشياء والبطانة فاسدة.. فما نفع أن يرتدي إنسان بدلة سموكنج وأقدامه حافية؟!.
لو كانت خطوة حكومة الإقليم بتقليص عدد موظفيها بنية حسنة،أو من أجل إعادة تنظيم الشؤون الإدارية والمالية وإعادة التوزيع الأمثل لتلك الموارد، فلا أحد يمانع في حال صبت في صالح الجميع، أما أن يطرد نصف مليون موظف من وظائفهم وهم في الغالب سيكونون من المشكوك في ولائهم للحزبين الحاكمين، أو من لا ظهير لهم فهنا المصيبة، لأن الحكومات القادمة ستكون بطبيعة الحال خالصة بالحزبين الحاكمين.
ليس هناك دولة بالعالم مجموع سكانه أربعة ملايين تمتلك 42 وزارة؟!. فكيف بإقليم صغير لم يثبت كيانه السياسي دستوريا بعد، وتعيش تجربته على كف عفريت بسبب التهديدات القادمة اليه؟!... ما جدوى وجود وزارة باسم ( النقل) وهي وزارة لم نسمع بأي مشروع لها منذ تأسيسها؟!ّ.
ما معنى وجود ثمانية وزراء للإقليم يداوم سبعة منهم في بناية واحدة من دون أي شغل أو عمل؟!.
ما معنى وجود جيوش من الألوية الخاصة معينون من قبل الحكومة لحماية بعض الأشخاص وهم يقبضون رواتبهم من الحكومة لأنهم مسجلون أما ضمن ملاك وزارة الداخلية أو الدفاع؟؟!!.ما معنى وجود جيش عرمرم من أفراد حماية المسؤولين وهم يستقلون يوميا طوابير من السيارات يلهثون وراء شخص واحد فقط لحمايته، فمن أين طعامهم ورواتبهم ونثرياتهم ومصاريف وقودهم إذا لم تكن من الحكومة؟؟!!.
كيف يمكن لحكومة تتطلع الى بناء المجتمع المدني ولها وزارة بائسة بذلك،أن تخصص ميزانية شهرية لبعض رؤساء العشائر والقبائل والإقطاعيين السابقين من الأغوات تحت أسم ( الديوةخانانة) أي مصاريف الديوان لشراء ولاء رئيس العشيرة،وهي ميزانية تكفي لتوفير مستلزمات المعيشة لعشرة عوائل بائسة في الإقليم؟؟؟!
قبل أيام قرأت خبرا مثيرا سأختتم به هذا المقال. يقول الخبر: أن فنانا كرديا صمم ( لوغو) لقسم سينمائي للأطفال في الإقليم مقابل (100) مئة دولار فقط،. واللوغو يعمل به منذ سنة وأصبح شعارا لذلك القسم السينمائي، ولكن رغم مرور أكثر من سنة ونصف لم يستلم الفنان المئة دولار أجور التصميم،فتجرأ بشجاعة بالغة بالإعلان في الصحف المحليةquot; أنه يتبرع بهذه المئة دولار للسادة المسؤولين في الإقليم ليضيفوه الى ثرواتهم الطائلةquot;؟؟؟!
شيرزاد شيخاني
التعليقات