كنت قد وصلت للمكان الذي انعقد فيه المؤتمر الثالث لقوات الدفاع الشعبي الكردستاني (الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني) في إحدى الموقع المحصنة في جبال كردستان الشاهقة. والمؤتمر استمر لمدة تسعة عشر يوما، حيث ناقش فيه كبار قادة الحزب الميدانيين والذين وفدوا من كل المناطق (من شمالي كردستان وتركيا) جميع الاحتمالات المتعلقة بالحرب والسلام مع تركيا، وكان التركيز على التخصص ورفع السوية القتالية، ومراجعة التجارب السابقة بنقد ذاتي هو الموضوع الأساس والشغل الشاغل للكل. اذهلتني المناقشات حقاً لما احتوته من جرأة على المكاشفة والنقد الذي لم يستثن احداً بدءاً من أصغر مقاتل وانتهاءاً بقادة التشكيلات المقاتلة.

ومنذ اللحظات الأولى لي بين هؤلاء الناس، ابتدأت بالتفرّس في كل شيء. وكان ملفتاً ومن خلال القراءة الاولى لقسمات وجوه قادة الحزب مثل دوران كالكان رئيس لجنة الدفاع في الحزب الكردستاني، والدكتور باهوز اردال القائد العام للقوات الكردية تلك الشحنة العالية من الثقة الكبيرة بالنفس، والمعنويات العالية والتكرار الدائم في الحديث عن مايمتلكونه من قوات ومجموعات مقاتلة متحركة منتشرة في كل مناطق كردستان، بل ان باهوز اردال قال لي انهم امتلكوا القوة والقدرة لمجابهة وإمتصاص حملات التمشيط العسكرية التركيةـ الايرانية معاً، وصد عشرات الآلاف من الجنود المتوغلين في وديان وجبان كردستان الشاهقة.

اكنب الآن وقد فرغت للتو من قراءة خبر عن استشهاد عشرة مقاتلين كرد في محافظة ديرسم في شمالي كردستان بعد مواجهات عنيفة مع قوات الجيش التركي( حيث قتل أكثر من 60 جندياً تركياً في الأيام القليلة الماضية). اثارني الأمر حقاً، ووضعت يدي على قلبي، فقد كنت التقيتٌ بقادة ومقاتلين كانو يعدون العدة للتوجه الى ديرسم ومناطق اخرى من شمالي كردستان، وكانت معنوياتهم عالية وقالوا بانهم سيصلون الى مناطق التمركز في ديرسم بعد اشهر من السير على الأقدام، وبين أكثر من 200 الف جندي ورجل أمن تركي، حشدتهم أنقرة لمقاتلة هؤلاء المقاتلين.

لقد بقيتٌ ما يقارب الاسبوعين في اكثر المعاقل سريةً، والتقيتٌ بقادة العمال الكردستاني وتحدثتٌ معهم حديثاً مفتوحاً وهم لم يبخلو عليّ بالمعلومات ولم يمنعوني من التحدث مع المقاتلين والمقاتلات، وكنت أتحرك بحرية كاملة من خلال الزيارات الميدانية التي كانت تبدأ منذ الصباح الباكر وتستمر إلى غروب الشمس البهي في تلك الجبال العصيّة.

قالوا لي انهم يستطيعون التصعيد الى درجة لا يمكن لاحد ان يتصورها. وان لااحد يمكن له ان يمتلك المعلومات الدقيقة والصحيحة حول قدراتهم العملياتية المتمثلة في المجموعات المقاتلة وخلايا الحرب المتوغلة في مناطق الداخل التركي، وكذلك القوات الخاصة التي تخضع لتدريبات خاصة وشاقة واعداد نفسي وبدني عالي المستوى، وقد التقيتٌ بعدد ٍ قليل منهم دون ان يتسنى لي رؤية اماكنهم او التقاط صورهم التي اخبروني بادب جم ان الأوامر تقتضي بمنع التصوير، لكنهم كانو منفتحين في احاديثهم .

في تلك المناطق الوعرة التقيتٌ باحد المقاتلين وقال لي بالحرف: هل هناك شيء هنا يغرينا بالبقاء في هذه الجبال الوعرة، سوى ايماننا بالنضال في سبيل حرية شعبنا؟.

كانو يتالمون من صمت المثقفين الكرد في وجه آلة الحرب التركية، ويتسائلون: السنا نقاتل دفاعاً عن الجميع ورغبة في تحرير الجميع حتى وان كنا نقاتل تحت راية حزب ما؟. الا يحق لنا نيل دعم الكرد جميعاً في النقاط الاساسية التي تجمعنا ككرد؟ واضاف احدهم: لقد تابعنا الحرب في لبنان وحجم التضامن مع quot;حزب اللهquot; وتسائل بحسرة أليس اكثر المثقفين العرب مختلفين مع quot;حزب اللهquot;، لكن رغم ذلك تضامنوا معه في وجه آلة الحرب الإسرائيلية؟. بل وراح احدهم يعدد مواقف المثقفين العرب من نصر حامد ابو زيد الى المخرج السينمائي يوسف شاهين المؤيدة quot;لحزب اللهquot; وزعيمه حسن نصر الله... انهم متابعون جيدون لما يجري في العالم عبر الراديو واحيانا عبر الانترنت وكل باللغة التي يفهمها، لان هناك شابات وشباب كرد من اجزاء كردستان الاربعة بما فيها كردستان العراق، ومن انحاء اوروبا المختلفة ومن قوميات وامم كثيرة، فهذا المقاتل حقي آغجاي الالماني من اصل تركي، وتلك الطبيبة ميديا الالمانية، وهذا باسل العربي من حلب، وآخرين كثرين....

اقول ذلك في ظل صمت المثقفين الكرد المريب مما يجري في شمال كردستان من حرب حقيقية تسيرّها القوات التركية والتي تلقي بعشرات الآلاف من الجنود المسلحين تساندهم الطائرات الحربية الحديثة لمقالة مقاتلي حزب العمال الكردستاني. الحقيقة المؤلمة هي أن جلّ مثقفينا ينتفضون عندما تلوح فرصة الذهاب الى quot;الجنوبquot; حيث quot;وزارة الثقافةquot; الكردية ومؤتمراتها الدسمة. او خلال quot;موسم الهجرة الطويل الى جنوب كردستان quot; على حد وصف الكاتب والباحث الكردي الكبير ابراهيم محمود. ذاك الموسم الذي يبدو انه لن ينتهي الا عبر قطع المعونة وquot;دفاتر النقدquot; عنهم. لكنهم هؤلاء المثقفون يطنشون حين يتعلق الأمر بالحرب القذرة التي يشنها الجيش التركي ضد مقاتلي الحرية في جبال كردستان.

اليس هؤلاء يقاتلون دفاعا عنا جميعا، اولم يعلنو وقفا لاطلاق النار عدة مرات، الم يتخلو عن كل شي في هذه الدنيا( من تلك المغربات التي يستميت بعض الكتاب الكرد في التمسك بها والدفاع عنها، بل وخوض المعارك الطاحنة ضد بعضهم البعض صراعاً عليها) كي يدافعو عنا، الم يثمر نضالهم ويترجم لأكثر من ثلاثمائمة مؤسسة بكل الاشكال من قنوات فضائية وصحف باللغات الكردية والتركية وصحف عربية ومجلات بكل اللغات الحية، ناهيك عن أحزاب تسيطر على عشرات البلديات وتسيّر الملايين من الكرد في كردستان وأوروبا؟.

الم تخدم هذه المؤسسات جميع المثقفين كردا وعربا وتركا وسريانا بدون استثناء وتقدم الفرصة تلو الاخرى لهم في سبيل تقوية الصف الكردي والمد الديمقراطي في عموم الشرق الأوسط؟.

هل quot;الاستقلاليةquot; وquot;الحياديةquot; هي التي تمنعكم يا معشر كتابنا الكرد الميامين، من الحديث عن اوغور كايماز الطفل الكردي ذو الاثني عشر عاماً والذي قتل مع والده بثلاثة عشرة رصاصة من جنود اردوغان، قتلة الأطفال الكرد هؤلاء؟.

هل قولكم انكم quot;مستقلونquot; يمنعكم من ان تكتبوا عن انس الصغير وعبد الله دوران اللذين لم يتجاوز احدهم التاسعة والآخر احدعشر عاما، والذين سقطا برصاص زبانية يشار بويوكانيت في ديار بكر؟.

هل quot;الاستقلاليةquot; التي صدعتم رؤسنا بها، تنتفي عندما تلاح امامكم فرص المشاركة في مهرجانات الثقافة والفن واللغة التي تقيمها (حكومة كردستان العراق) فقط؟.

ان الصمت هنا جريمة ايها السادة، فمن يقتل الكرد ليسوا بابرياء، ومن يسكت عن قتل اطفال قومه وتصفية شبابهم الصفوة، كذلك، ليسوا بأبرياء...


نواف خليل
[email protected]