quot;جمهورية لبنان الإسلاميةquot; هذا العنوان ليس تحليلاً مبالغاً أو شطحة تنطلق من موقف مستبطن إزاء النزعات الإسلامية، وإنما هو عنوان قرأته في فصل من كتاب (في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي) للسيد:محمد حسين فضل الله. وحينما تحدثتُ مرة عن محاولات حقيقية بغية صبغ اللون الفارسي على بلاد الشام لم أكن مزح، لأن المشروع بدأ فعلياً منذ عام 1982 وكل تلك المحاولات تؤسس للنظرية التي تؤكد على أن لبنان لا يزال مجرد quot;ساحةquot; ولم يدخل بعد مرحلة تكوين quot;الدولةquot; وإذا كان اتفاق القاهرة 1969 قد ساهم في جر لبنان إلى أن يصبح أحد ملاحق قضية فلسطين فإن العديد من الذين طرحوا quot;مشروع لبنان الدولةquot; انتهت آجالهم بالتصفية والاغتيال، وبعد أن أصبح لبنان quot; الساحة الإقليميةquot; بات وكأنه ساحة كبرى تأتيها ثيران متنوعة تتناطح حيناً من الدهر ثم تنفض الغبار عن جلدها وتمضي.
لبنان فعلياً أصبح اليوم quot;ساحة أولىquot; لكل من إيران من جهة، وسوريا من جهة أخرى، وأمريكا من جهة ثالثة، وكل مشروع ينطح رأس المشروع الآخر، تلك الساحة انقسمت على نفسها فكل حزب ينصر مشروع دولة من تلك الدول، وإذا كان الإعلام خاصة في هذه الفترة يتناول بإسهاب المسألة اللبنانية بمنطق مع أو ضد فإن التحليل يجب أن يتجاوز هذه الثنائيات ليشرح قبل أن يتشدق بموقف صلب. عملياً نجد في لبنان دولة إسلامية صغيرة وهي الإمارة التي يحتكرها حزب الله في مناطقه والتي تُمنع الدولة من دخولها، وهذه هي قوة الأحزاب الإسلامية حينما ترطّب حديثها وتجد في quot;المسألة الأمنيةquot; مدخلاً لفرض منظومة أفكارها وتسيير مشروعها البعيد من أجل إقامة جمهورية لبنان إسلامية وذلك عبر مزاحمة ثقافات الطوائف الأخرى أو آراء الآخرين وتهريب المنطق اللطيف لتزييت العقول ومن ثم احتلالها على حين غرة.
كتبت ذلك التحليل حينما طالعت كتاب quot;فضل اللهquot; المذكور سلفاً وذلك في عام 2003 قبل أن يجنح لبنان إلى وجهته التي هو موليها، فضل الله يدعوا إلى إقامة quot;دولة لبنان الإسلاميةquot; فهو يقول في فصل (الجمهورية الإسلامية في لبنان: أما مشروع الجمهورية الإسلامية فهو مشروع ينطلق من الفكرة التي تقول بأن الإسلام دين عبادة ودين مدنية، فهو يمثل علاقة الإنسان بربه كما يمثل علاقة الإنسان بمجتمعه وبالحياة من خلال إيمانه بربه) يمضي قائلاً: (إذاً الجمهورية الإسلامية ليست بأفكارها المنفتحة على المسيحيين خطراً على الوجود المسيحي، وهناك ملاحظة أخرى وهي أن الجمهورية الإسلامية ليست من المشاريع الواقعية التي تملك إمكانات التنفيذ في المستقبل المنظور) ويقول بعد ذلك (إننا نقول للمسيحيين في لبنان وفي غير لبنان، ادرسوا التاريخ فإن التاريخ الذي حمى المسيحية واليهودية في داخل الدولة الإسلامية هو دليل على أن من الممكن للمستقبل الإسلامي أن يحميها بشكل أكبر) ويمضي: (كما أن الإسلاميين عندما يطلقون المسألة الإسلامية للجمهورية الإسلامية في أي مكان فإنهم ينطلقون من الخط القرآني الذي يعترف بأهل الكتاب ويدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء ولا يلغيهم) (في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي ص67 من مطبوعات دار الملاك 1998).
وبرغم البراءات المتكررة التي يطرحها السيد فضل الله من quot;إرشاده الروحيquot; لحزب الله وبرغم الانفتاح الذي يتمتع به فضل الله إذا ما قورن ببعض رموز quot;حزب اللهquot;؛ إلا أن المبادئ الرئيسية أو quot;الأيديولوجيا السياسيةquot; متشابهة، وفضل الله منذ فترة طويلة وهو يحاول إقناع المسيحيين في لبنان بـquot;الدولة الإسلاميةquot; وأخذ على عاتقه زيارات حوارية مع كل من الكاهن الإيطالي برناردو تشيرفليرا والقس الهولندي فان دار بيل أندرو هذا فضلاً عن حواراته مع المطارنة في لبنان مثل جورج خضر، ولم يمل فضل الله من رسم quot;استراتيجية رطبةquot; لتحويل الدولة في لبنان إلى (جمهورية لبنان الإسلامية) وذلك المشروع الإسلامي ينطلق من القاعدة التي ترى أن لبنان لم يتكوّن بعد كدولة لذا تطرح المشروعات المختلفة والاقتراحات المتتابعة، وتلك العبارات التي تحدث بها فضل الله عن quot;مشروع الدولة الإسلاميةquot; تدفعني إلى نقاشها عبر المحاور التالية:
-تعتبر quot;ثقافة المقاومةquot; -التي تأسست عبر المناوشات المتبادلة بين لبنان وإسرائيل- ثقافة ماكرة ذلك أن كل مقاومة تحمل quot;مشروع دولة مختلفquot; وهذه النقطة بالذات تحتاج إلى تفصيل ومقارنة مع كل تجارب المقاومة التي انطلقت عربياً خاصةً مع إسرائيل، غير أن المقاومة الإسلامية في حزب الله لا تدافع كما تدعي عن لبنان، وإنما عن مشروع كامل بدأ منذ الثورة الإيرانية وهو مشروع يتبلور في تطعيم الشام بالثورة الإيرانية على الأقل ثقافياً، وإذا كان فضل الله يؤكد على أن quot;مشروع الدولة الإسلامية في لبنانquot; لن يأتي قريباً فإنه يرسم مشروعاً نظرياً؛ كما يخوض ملاحم حوارية من أجل إيضاح quot;مفهوم الدولة الإسلاميةquot; الذي سيقوم في لبنان وهذه هي خطورة دخول المقاومة على خط التنظير السياسي لأنها تمسك كما يقال بـquot;العصا والجزرةquot; فهي تحتفظ بمديونية وجدانية داخل اللبنانيين يمكّنهم من الوصاية عليهم ولو بعد حين.
-ذكرني أحد أصدقائي بـ(محمد مهدي شمس الدين) الذي كان استثنائياً في رؤيته المدنية للبنان، وهو المنظّر الأبرز ورئيس المجلس الشيعي الأعلى سابقاً قبل أن يتوفى سنة 2001 والذي كان المثال الأبرز للتعايش والإيمان بالدولة المدنية الخالية من التمييز فهو لم يطرح أي مشروع دولة إسلامية، بل اشتهر في جملته المعروفة (لبنان الوطن النهائي) وهي الجملة التي ضُمنت في مقدّمة الدستور الجديد بعد إبرام اتفاق الطائف وذلك في عام 1989، كما أنه هو الذي كتب مرةً: (أوصي أبنائي وأخواني الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم، وأن لا يميزوا أنفسهم بأي تمييز خاص، وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم) ذلك أن إنتاج مشروع سياسي من فكر طائفة واحدة وفرضه على الآخرين باسم quot;تطبيق الدولة الإسلاميةquot; ليس مشروعاً لبنانياً حيث يؤكد محمد مهدي شمس الدين على أن ذروة تحقيق المواطنة يتمثل في quot;عدم التميّزquot; والعزلة عن الآخرين، إن أي تكوّر تنتهجه أقلية في أيّ بلد وأي عزلة تنتهجها أي أقلية في أي بلد تؤثر على نسيج التعايش السلمي والاندماج الكامل والحقيقي، وهي الآفة التي تؤسس للشك الذي يتغذى يوماً بعد يوم ليصبح ولو بعد حين أحد الأمراض الاجتماعية المقلقة.
-إن الفراغ السياسي الذي ينخر في الساحة اللبنانية بات محل استبشار من قبل أصحاب المشاريع الأيديولوجية وأصبح quot;الفراغquot; يستخدم كفزاعة لغرض إرغام الناس على الاقتناع على حزم المشاريع المتكاثرة، ولعل فضل الله أراد طويلاً عبر مواضع متعددة من كتابه المذكور أن يبرهن للمسيحيين أن حمايتهم لن تتحقق بشكل كامل إلا في ظل نظام إسلامي وفي ظل quot;الجمهورية الإسلامية في لبنانquot;، ولو رأينا إلى الكلام والبيانات الصادرة عن قادة ومكاتب حزب الله نجدها تؤسس لصناعة منظومة سياسية تساهم في تلوين المطالبات والقرارات بطبائع دينية وهو ما يقضي على quot;مدنيةquot; الدولة اللبنانية التي لم تتكون بعد فالدولة اللبنانية الحالية مهما يكن من أمر فإنها quot;دولة وثائقquot; ودولة quot;هدنةquot; ولم تحقق بعد البناء الحقيقي للكيان اللبناني. ولا عجب أن يستغل بعض أصحاب المشاريع تلك الفراغات لتطبيق مشروعاتهم السياسية والتي لا تضم فقط برامج حزبية انتخابية مشروعة وإنما تضم مشروعاً يمس quot;بنيةquot; النسيج اللبناني.
وأخيراً، فإن في داخل كل دولة عربية quot;إمارة إسلاميةquot;-على حد تعبير بعض المحللين- ففي فلسطين وفي الجزائر وفي مصر وفي سوريا محميات إسلامية تحاول الانكفاء على ذاتها لفترة ومن ثم بثّ أفكارها المتناسلة وذلك عبر مشروعات ظاهرها quot;الدعوةquot; و باطنها quot;الاستيلاء على الحكمquot; ولو بعد حين، فمشاريعهم تمرّ ببطء ولكنها ربما تنقضّ على البنية الأساسية على حين غفلة وتخْتطف سيلاً من quot;التعدديات الفكرية والدينيةquot; لصالح حزب واحد وفكرٍ واحد، وهذه هي الخطورة التي تتنامى للأسف في لبنان الذي نتابعه باستمرار لأنه quot;المختبرquot; أو quot;الترمومترquot; الذي ينبئ عن حالة الجسد العربي المريض، ففضل الله يؤكد على أن quot;الجمهورية الإسلامية في لبنانquot; قد لا تتحقق في المستقبل القريب ولكنها ستتحقق بمرور الزمن، ذلك أن تحقيق الجمهورية في لبنان وفق فضل الله مشروع عابر للأزمان.
فهد الشقيران
كاتب سعودي
[email protected]
التعليقات