حين هممت قبل ثلاث سنوات بدفع مسودة كتابي quot; قضايا معاصرة في التحليل الماركسي quot; إلى المطبعة لاحظت أن ثمة خللاً في إخراج الكتاب حيث يشير عنوانه إلى القضايا المعاصرة دون أن يكون من بين هذه القضايا القضية الفلسطينية التي شاغلت العالم لمعظم القرن العشرين وجرجرت أذيالها حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، فكان أن كلفت نفسي في الحال كتابة فصل خاص بالقضية الفلسطينية هو الأخير في الكتاب.

اليوم أيضاً لا أجدني عميق الإهتمام بالقضية الفلسطينية وكنت أود ألاّ أسـتكتب في موضوع عُـنوِن اعـتباطاً ب quot; الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين quot; لو لم يكن الاعتباط سبيلاً للضلالة.

لكن لماذا العزوف عن الكتابة في القضية الفلسطينية؟

هذا التساؤل يدفعني إلى استذكار مذكرة كنت قد رفعتها إلى قيادة الحزب الشيوعي الأردني في صيف العام 1965 قبل أن تصل القطيعة معها حدودها النهائية أحثها فيها على إقامة أقوى العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية بغض النظر عن أية شروط معاكسة؛ وكانت حجتي لذلك هو أن جميع التناقضات بين شعوب المنطقة وبين الإمبريالية الدولية تتجمع في بؤرة واحدة هي القضية الفلسطينية. منذ البدء، كما اتضح فيما بعد، كانت الإمبريالية قد خططت لمواجهة الشعوب العربية وقهرها على الأرض الفلسطينية. كل طموحات التحرر وفك الروابط مع مراكز الإمبريالية الدولية وبناء الإستقلال التام بمختلف مقوماته بما فيها الوحدة العربية قد جرى القتال لتحقيقها ضد الفيلق الإمبريالي المتقدم، إسرائيل، وتحت راية تحرير فلسطين. وحدها القيادة السوفياتية كانت تعلم ذلك علم اليقين قبل العام 47، بل ومنذ العام 1933 حين اتخذ الكومنتيرن قراراً يطالب القوى التقدمية في العالم كله بالوقوف في وجه تهجير اليهود إلى فلسطين لأن في ذلك عملاً معادياً لقوى العمل العربية. لكن أحداً من العرب بما في ذلك الأحزاب الشيوعية لم يكن يعلم مخططات الإمبريالية. جهد الإتحاد السوفياتي في تحييد القضية الفلسطينية كيلا تستخدمها الإمبريالية عصاً غليظة في قهر الشعوب العربية إلا أن الحكومات العربية لم تساعد في ذلك وفضلت الجري وراء السياسات الإمبريالية الإنجليزية والأمريكية فكانت موافقة الإتحاد السوفياتي على مشروع التقسيم واعترافه بالدولة العبرية آخر محاولة له في إتجاه التحييد وهو ما رفضته الحكومات العربية كما هو معروف.

أما اليوم فقد تلاشت قوى الإمبريالية من خلال التحولات الطبقية تبعاً لتبدل وسائل الإنتاج في دول الغرب الإمبريالي نفسها. ماتت الإمبريالية وتركت وراءها مشروعها الصهيوني الذي عجز عرب المشرق حتى اليوم عن تفكيكه. في الحقيقة كانت إسرائيل كلب حراسة الإمبريالية كما وصفها ستالين في العام 1952 أما اليوم وبعد اندثار الإمبريالية لم تعد كذلك ولم تعد ذات وظيفة بما فيها تلك الوظيفة الرسمية المعلنة أي وظيفة الوطن القومي لليهود. إنها اليوم الكيان الذي ينتظر التفكك في ظروف السلام الكامل وهو شرط تفككه. ولنا ألاّ نأسف على تراجع القضية الفلسطينية من ساحة مواجهة مع الإمبريالية إلى مجرد نزاع على أراضي خلال الربع الأخير من القرن المنصرم كما وصفها غورباتشوف لحافظ الأسد في آخر زيارة له للإتحاد السوفياتي.

سينكر الثورجيون العرب بالطبع مثل هذا التحول بقوة، خاصة وأنه يلغي نهائياً أرصدتهم السياسية ويتركهم بلا أية وظيفة. لكن هؤلاء الثورجيين لم يدركوا كذلك طبيعة المشروع الصهيوني منذ البدء الأمر الذي عمل على إرساء الأسس الأولى للكيان الصهيوني ورتب مآسي لا توصف على الشعب الفلسطيني ـ ولعلي لا أظلم العرب حين أقول أن المساهمة العربية في قيام الكيان الصهيوني ككلب حراسة أو قاعدة متقدمة للإمبريالية هي أكبر من مساهمة الصهاينة. لقد ولدت إسرائيل من تزاوج الشوفينية العربية مع الصهيونية الإستعمارية. كانت العنصرية العربية قد استقرت في شعوب شرق المتوسط بعد استيلاء عرب الجزيرة على مصائرها في القرن السابع الميلادي وكانت عنصرية الغزاة تعبيراً عن تخلفهم الحضاري بالقياس لشعوب المنطقة.

أحيل هؤلاء الثورجيين إلى ما كتبه السيد عبد الغني مصطفي قبل أسبوع عن مشروع التقسيم بموجب القرار الذي اتخذته الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 29/11/1947 والذي رفضه الثورجويون العرب بسبب جهلهم بطبيعة المخطط الإمبريالي للمنطقة وبسبب عنصريتهم أيضاً وعدائهم الجنوني لكل ما هو سوفييتي آنذاك كذلك. ما حزّ في نفسي عميقاً هو وقوعي ضحية لمؤامرة الرجعية العربية والفاشيين العرب منذ العام 1951 حيث كان مجندو الرجعية والفاشيين العرب يوجهون اتهاماتهم لي كشيوعي quot;عميل للصهيونيةquot; ولم يكن بوسعي للأسف الشديد آنذاك إدراك جريمة أولئك المجندين طالما أن قرار التقسيم اعترف بدولة عبرية تحوز على أكثر من نصف فلسطين كما كان يردد الشوفينيون العرب دون أن أعلم أي نصف وحدوده على الخارطة مثلما أنهم هم أنفسهم لا يعلمون. اليوم وبعد قراءة ما كتبه السيد عبد الغني مصطفى ورجوعي إلى خارطة التقسيم الموجودة على الإنترنت يتملكني ندم عظيم لأنني لم أبصق في وجوه أولئك المجندين. ولا أسامح نفسي لأنني مكنت الرجعيين والفاشيين ولو بصورة متواضعة من نجاحهم المستمر حتى يومنا هذا في التكتم على مندرجات المشروع بقصد ستر عيبهم الفاضح ليس إلاّ. ولعل الكتاب العرب من غير المجندين هم ضحية مثلي إذ لم يتوقف أحد منهم عند هول الجريمة التي إقترفها الذين كانوا قد رفضوا مشروع التقسيم وقد أعطى لليهود 5% فقط من فلسطين الحيّة أي أقل من 1500 كم2 ما عدا صحراء النقب التي تشكل أقل من نصف مساحة فلسطين الإجمالية بقليل علماً بأن اليهود كانوا يشكلون في العام 1947 حوالي 33% من سكان فلسطين. وما يجدر ذكره في هذا السياق أن مؤتمر فرساي 1919، المؤتمر الذي رسم خريطة العالم بعد الحرب العالمية الأولى، كان قد أخذ في الإعتبار النوايا التي عبر عنها حاييم وايزمان رئيس المؤتمر الصهيوني العالمي في مذكرته للمؤتمر وقد ذهبت إلى أن اليهود لديهم الأموال والخبرات في إحياء صحراء النقب القفر والخالية تماماً من السكان. إعتبارات معاهدة فرساي انعكست في قرار التقسيم فضمّت صحراء النقب إلى الدولة اليهودية التي يشاركهم الفلسطينيون العرب فيها بنسبة 43%. ليس لدي أدنى شك في أنه لو بادر العرب الفلسطينيون لإعلان دولتهم وفقاً لقرار التقسيم (47) لكانت فلسطين اليوم بدولتيها ( اليهودية ـ العربية، والعربية) دولة فدرالية واحدة يحكمها العرب بمشاركة من اليهود. السؤال الكبير حقاً في هذا السياق هو.. لماذا يجهل كل المشتغلين العرب بالسياسة مندرجات قرار التقسيم وحتى بعد ستين عاماً على صدوره؟ وكيف لهم أن يرفضوا ما يجهلون؟

كانت حركة الشعب الفلسطيني هي النبض الأقوى في شرق المتوسط في النهوض العالمي للتحرر ولتفكيك النظام الرأسمالي الإمبريالي بالتالي في العالم كله. وهنا يتوجب الوقوف طويلاً أمام السياسة التي اعتمدتها بثبات الولايات المتحدة تبعاً لما قررته وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) في مطالع خمسينيات القرن الماضي وقد اعتبرت معسكرات اللاجئين الفلسطينيين فيالق من الجيش الأحمر كما أعلنت ذلك رسمياً. أما اليوم وبعد أن تشتت الجيش الأحمر ولم يعد له أي وجود فلم تعد المخيمات فيالق حمراء بل تحولت إلى النقيض تماماً فأصبحت مراتع لصناعة الإرهاب وللأسلمة والتأسلم. لا تستطيع القوى الإشتراكية الحقيقية أن تحمل اليوم القضية الفلسطينية في جعبتها بعد أن لم تعد من قضايا الإشتراكية وغدت نزاعاً على أراضي وعلى هوية وهو ليس من هموم القوى الإشتراكية كما هو معروف. لعلي كنت أول من أعلن عالمية القضية الفلسطينية ولعلي اليوم أول من يعلن محلية هذه القضية وخصوصيتها. كنت، قبل نحو عامين، قد عبرت عن هذا المعنى للأمين العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي منتقداً حزبه الذي قصر اهتماماته على مظالم الأقلية العربية في إسرائيل وترك النضال الطبقي لنقابات العمال الهستدروت ورئيسها آنذاك عمير بيرتس وقد تراءى شيوعياً أكثر من شيوعيي الحزب الشيوعي الإسرائيلي.

نعود إلى المسألة المطروحة وهي إقامة quot; الدولة الديموقراطية العلمانية quot; في فلسطين.

تتوجب الإشارة بداية إلى أن ثمة جهل سياسي فاضح في مثل هذا الطرح. للدولة وظيفة واحدة لا غير وهي حراسة نمط الإنتاج القائم في مجتمعها. وبالطبع لا تتم هذه الحراسة إلا بوسائل القمع بمختلف أشكالها. الدولة البطريركية القديمة، دولة ما قبل الإقطاع مثل روما القيصرية والخلافات الإسلامية، كانت تجند كافة الموارد المادية والبشرية المتاحة من أجل غزو البلدان المجاورة ونهب ثرواتها واستعباد شعوبها وكان ذلك بمثابة وسيلة quot;الإنتاجquot; الوحيدة التي تؤمن وسائل الحياة الهيّنة أو الرغيدة للجنس الحاكم أو القبائل الحاكمة أو حتى القبيلة الواحدة أو فخذ القبيلة مثل الهاشميين والأمويين والعباسيين والحمدانيين والبويهيين والسلاجقة والمماليك والعثمانيين.. ألخ. وظهر في أوروبا شكل الدولة الإقطاعية التي توظفت بصورة رئيسية برعاية مصالح الإقطاعيين بما في ذلك مواصلة استغلالهم للأقنان، الإقطاعيين الذين كانوا يزودون الدولة بالمال وبالرجال في حالة الحرب. أما الدولة الحديثة فقد ظهرت مع ظهور النظام الرأسمالي وتوظفت في تأمين الأسواق لمنتجات الرأسماليين من خلال الحروب الإستعمارية وقمع العمال في الدولة الرأسمالية ذاتـها. ونجح العمال في إشادة دولتهم، دولة دكتاتورية البروليتاريا، في الإتحاد السوفياتي فقط خلال الربع الثاني من القرن العشرين، تلك الدولة الفريدة التي شطبها خروشتشوف في العام 1959 ولم تعد تظهر في أي مكان آخر على الإطلاق. وبعد انهيار النظام الرأسمالي مع بداية الربع الأخير من القرن الماضي واندثار الإمبريالية ظهر ما عرف باسم quot; دولة الرفاه Welfare State quot; وهي الدولة المعادية بطبيعتها لنظام الإنتاج الرأسمالي بقواه الرئيسة، طبقة الرأسماليين وطبقة العمال، طالما أنها تعتمد بصورة واسعة على quot; الإقتصاد quot; الإستهلاكي (Consumerism) وإنتاج الخدمات وهو الإنتاج المعاكس تماماً لإنتاج السلع، إنها دولة الطبقة الوسطى.

وهكذا فقد عرف العالم عبر تاريخه الطويل خمسة نماذج مختلفة تماماً للدولة. لكل نمط من الإنتاج دولته الخاصة به. دولة العبودية البطريركية، دولة الإقطاع، الدولة الرأسمالية، الدولة الإشتراكية، واخيراً quot; دولة الرفاه quot; الإستهلاكية. فأي دولة يختار أولئك الذين يتعبطون دولة الديموقراطية العلمانية لزرعها في فلسطين؟

لا الديموقراطية ولا العلمانية تؤشر إلى أي نموذج من نماذج هذه الدول لأنها جميعها هي ديموقراطية بمقدار وعلمانية بالمطلق. دولة العبيد، الدولة الرومانية كانت ديموقراطية وكانت علمانية. نعود إلى مداولات مجلس الشيوخ في روما وهو صاحب السلطة المطلقة فنجدها تمثل الديموقراطية في أبهى صورها إذ كان الشيخ (Senator) يمثل قبيلته أو جماعته (Community)خير تمثيل ويعبر عن آرائه بحرية تامة، كما نجد جهد الدولة الرومانية موجه لخير السادة الشيوخ الذين يمثلون القبائل اللاتينية في روما وجوارها. دولة الخلافة الراشدة كما وصفت كانت دولة علمانية بكل أنشطتها خلافاً لكل الرايات الدينية التي كانت ترفعها. لذلك أقسم الخليفة quot;العادلquot; عمر بن الخطاب قائلاً.. quot; لو طال بي العمر لآتيَنّ الراعي ما لم يعرق جبينه quot; والمقصود بالطبع هو الراعي من قريش الذي سيستحوذ تبعاً لقسم الخليفة على أموال لم يكدح في جنيها بل هي من كدح سواه، غير القرشي وغير العربي!! وكان للصحابة القرشيين دون غيرهم رأي نافذ في إدارة الدولة فعندما قرأ بن الخطاب رسالة سعد بن أبي وقاص يقول فيها أنه حصّص أرض السواد (العراق) كلها بما عليها من علوج (الفلاحين) على الجند وأمراء الجيش أبدى بن الخطاب غضباً شديداً لأنه لم يبق ِشيئاً لحراسة الثغور (حصة الدولة) كما قال فاعترضه نقيب الصحابة عبد الرحمن بن عوف منكراً عليه غضبه متسائلاً.. quot; لما الغضب؟ فهذا مما أفاء الله به عليهم quot; أي أن القانون الإلهي حكم بأن يستولي الغزاة على البلاد وأهلها. بالطبع ليس لنا أن نتفهم قانون ابن عوف الإلهي سوى أنه قانون دنيوي ولا يمت إلى أية آلهة مزعومة بصلة وإلا سنكون قد وافقنا على ألوهية القانون ونعترف بالنتيجة أن دولة الخلافة الراشدة هي دولة إلهية أو إكليركية. لم تكن الخلافة الراشدة دولة إكليركية مثل بابوية روما في العصور الوسطى أو مثل دولة آيات الله الإيرانية اليوم (دولة البازار) بل كانت دولة بطريركية يحكمها القرشيون لصالح امتيازاتهم (الخلافة في قريش) وقد تناوبت أفخاذ قريش على مركز الخليفة إلى أن وضع معاوية بن أبي سفيان حداً لهذا التناوب وحصر الخلافة في فخذ الأمويين.

في الدولة الإقطاعية كان القول الفصل للإقطاعيين وليس للملك وكان في الدولة الرأسمالية للرأسماليين الذين يعينون رئيس الحكومة من خلال الإدارة الشاملة لعملية الإنتخابات العامة. أما دكتاتورية البروليتاريا فتفصح عن نفسها. يبقى علينا أن نتعرّف على الجهة صاحبة القول الفصل في دولة الرفاه!

الليبراليون اليوم وكل المأخوذين بصيحة quot;الديموقراطيةquot; المتعالية فيما بعد إنهيار النظام الرأسمالي في سبعينيات القرن الماضي هم قطعاً مضللون يساعد على ذلك فقرهم في علم الإقتصاد السياسي فتراهم يطالبون بدولة الحق والقانون. لقد وقع اختيارهم على هذا النمط من الدولة، الدولة التي تحافظ على التعددية وتداول السلطة وتصون حقوق الإنسان. لو كان الأمر أمر اختيار لربما اخترت أنا أيضاً مثل هذه الدولة. لكن مثل هذه الدولة لم توجد ولن توجد على الإطلاق في هذا العالم حتى وإن أجمع كل العالم على اختيارها. الدولة هي بالتعريف العلمي.. الجهاز الذي تشكله الطبقة التي تمتلك أدوات الإنتاج لحراسة عملية الإنتاج من خلال قمع الطبقات المعادية. وظيفة الدولة هي حصراً القمع فكيف يمكن أن تكون دولة الحق والقانون ( غير البورجوازيين بالطبع)؟ نمط الدولة ليس من الخيارات المتاحة حيث أن وسائل الإنتاج التي تمارسها الطبقة العليا هي ما يقرر نمط الدولة.

الذين اختاروا الديموقراطية والعلمانية تهربوا من الخيار الأساس، تهربوا من اختيار نظام الإنتاج الإجتماعي الذي هو وحده ما يقرر طبيعة الدولة ومزاياها إذا ما كانت ديموقراطية أم غير ديموقراطية وعلمانية أم غير علمانية باعتبارات أصحاب الخيارات ـ مع أنه ليس من دولة إلا وتكون علمانية بالمطلق وديموقراطية بالنسبة لسادتها دون غيرهم. فأي نظام للإنتاج يختار هؤلاء؟ لقد تهربوا من هذا الخيار؛ وإننا لنحمد لهم مثل هذا الهروب لأن نظام الإنتاج لا يخلقه البشر كما تخلق الآلهة الأشياء بل إنه يستولد من نظام الإنتاج القائم، والطبيب الذي يستولد الوليد لا يقرر إذا ما كان الوليد ذكراً أم أنثى.

الطاعون المتفشي بين العرب بشكل خاص هو الأدلجة. لكل عربي إيديولوجيته الخاصة التي تمكنه من اختيار النظام الذي يريد والدولة التي يريد. يكفيه أنه يختار، أما أن يتحقق أو لا يتحقق خياره فهو أمر ثانوي لا علاقة له فيما يختار! علّة السياسة العربية هي أن السياسيين بمن فيهم السواد العام من الماركسيين هم خياريّون، إذا جاز التعبير. يختارون ما يرغبون بغير مسؤولية عن النتيجة. بعضهم يختار quot;الدولة الديموقراطية العلمانيةquot; في فلسطين والبعض الآخر يبزّ الأوائل ويختار quot;الإشتراكيةquot; وأين؟ في فلسطين!! يا لسقم الفكر العربي بهؤلاء الخياريّين!!

ثمة كلام كثير يمكن أن نقوله فيمن يختارون quot;الإشتراكيةquot;؛ لكننا ونظراً لضيق المقام فإننا نستعيض عن الكثير بالقليل فنقول فيهم أنهم لا يفقهون شيئاً في الإشتراكية. فعندما ناقش تروتسكي لينين في استحالة بناء الإشتراكية في جزيرة في محيط رأسمالي لم يكن تروتسكي بلا حجة علماً بأن مساحة الإتحاد السوفياتي تساوي 815 ضعف مساحة فلسطين وسكان الإتحاد السوفياتي آنذاك يساوون عشرين ضعفاً من مجموع الشعب الفلسطيني اليوم. صحيح أن نظام الإنتاج السائد اليوم في العالم ليس نظاماً رأسمالياً، لكن الإقتصاد المحلي بالمقابل لم يعد إقتصاداً وطنياً مستقلاً كما كان قبل الربع الأخير من القرن العشرين، بل أصبح مندمجاً في الإقتصاد العالمي دون أن يكون قابلاً للفصل وهو ما اقتضى قوانين واشتراطات منظمة التجارة العالمية (WTO).

هؤلاء الذين يستسهلون خيارات الأنظمة وأنماط الدول يتفرجون على العالم الغربي، أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية وكندا، وتستهويهم الديموقراطية القائمة فيه، الديموقراطية من جهة سيادة القانون والحريات العامة وحقوق الإنسان. لكن هؤلاء الخياريّين لا يمتلكون البصر النافذ فيروا ما وراء هذه الديموقراطية الزاهية. البلهنية وسعة العيش التي تعيشها شعوب العالم الغربي اليوم إنما هي البناء التحتي الذي يقوم عليه البناء السياسي الديموقراطي بكل ديكوراته الجميلة الظاهرة اليوم في الدول المذكورة. لكن هل هذه البلهنية وسعة العيش هي من إنتاج شعوب الغرب الديموقراطي؟ إن أي مراقب لديه شيء من الإهتمام يعرف تماماً أنها ليست من إنتاج هذه الشعوب. دول الغرب الديموقراطي كانت دولاً رأسمالية إمبريالية إلى ما بعد منتصف القرن الماضي وهو ما يعني أنها كانت تصدّر ضعف ما تستورد، لكنها اليوم وبعد انهيار النظام الرأسمالي في سبعينيات القرن الماضي أخذت تستورد ضعف ما تصدر وهو ما يعني مباشرة أن البلهنية وسعة العيش التي تتمتع بها شعوب هذه الدول ليست من إنتاجها. إنها مستوردة دون أدنى شك وكما تؤكد أرقام الإحصاءات. لكن كيف السبيل لدوام الإستيراد دون أن يقابله التصدير المكافئ؟ يتم هذا من طريقين، الإستدانة والسرقة. ديون هذه الدول بلغت أرقاماً فلكية لن تستطيع بكل الأحوال خدمتها؛ أما السرقة فتتم من خلال عملاتها المزيفة. الدول الخمس الأغنى في العالم ـ وهي اليوم سبعة ـ قد فرضت أسعاراً ثابتة لعملاتها في أسواق الصرف كما تقرر في مؤتمر رامبوييه 1975 وهو أمر مخالف تماماً لأبسط قوانين السوق والنظام الرأسمالي ومكن هذه الدول بالتالي وخاصة الولايات المتحدة الأميركية من شراء كل ما تستهلكه، وقد أخذ يتجاوز كل الحدود، بعملتها الزائفة، الدولار. لكن الحرامي سيمسك به في آخر المطاف وعندها سيدب العوز والفاقة في المجتمعات الغربية وسنرى حينذّاك أن الديموقراطية التي اختارها خيّاريّو العروبة إنما هي ديموقراطية زائفة لا تقوى على أول دبيب للحاجة بل إن الصورة الباهتة للديموقراطية في بلاد الفقر، بلدان العالم الثالث، هي أكثر ثباتاً من ديموقراطيتهم المسروقة والزائفة.

الليبراليون وقد ضللوا الكثيرين حتى أشباه الماركسيين سيستشيطون غضباً إزّاء وصفنا للديموقراطية الليبرالية بأنها مسروقة وزائفة. لا يمكن أن نتفهم مثل هذا الغضب قبل أن يثبت هؤلاء الليبراليون أن مجمل إنتاج دول الغرب quot;الديموقراطيةquot; مكافئ تماماً لمجمل استهلاكها وأن الولايات المتحدة الأميركية وهي الدولة الأغنى بين هذه الدول على وشك أن تسد عجوزات ميزانها التجاري والبالغة ما بين 700ـ 1000 ملياراً من الدولارات سنوياً وأنها قادرة على خدمة ديونها البالغة حوالي 45000 ملياراً من الدولارات. على الليبراليين أن يثبتوا كل هذا قبل أن تأخذهم العزة بالديموقراطية الغربية وليَعوا ما هم فيه من ضلالة حين يطالبون بإقامة دولة الحق والقانون، دولة الديموقراطية الليبرالية، من خلال كتابة دستور يكفل ذلك توقعه قوى الشعب الفاعلة. ـ ليس أسهل من مثل هذه الكتابة وليس أصعب من مثل هذه الكفالة، أيها الليبراليون.

فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01