أصبح اليوم هناك إتجاه سائدا بين أنصار الحرية في البلدان المتحدثة بالعربية، يقوم على أساس: أنت تحرري، تؤمن بحرية الكلمة و الضمير، و بالتعددية السياسية و ما يتبعها من تبادل للسلطة، إذا أنت أمريكي الهوى. فإما أن تكون من محبي أمريكا و من المسبحين بحمدها بكرة و أصيلا، و حبذا من المبهورين بها، و إما فأنت من أعداء الحرية و أنصار الظلام و من فيلق التطرف، و كأن أمريكا تقول لنا: أنا نصيرة الحرية و حضن المستنيرين، من أحب الحرية و الحداثة أحبني.


أمريكا أقول لك: نعم قد قرأت تاريخك، و قرأت أيضا إعلان إستقلالك، و قرأت كذلك دستورك بكافة تعديلاته منذ سنوات، و تابعت من أعوام عديدة، عبر وسائل الإعلام المختلفة، أخبارك السياسية الداخلية، و كذلك حقوق الإنسان بك، و لا أنكر إن إعلان إستقلالك و كذلك دستورك، و سيرة بعض رؤسائك و زعماء حركات التحرر و المساواة، و ما يتمتع به المواطن الأمريكي داخل أمريكا، برغم بعض الأمور، أمور تثير الإعجاب، خاصة من عاشق لحرية الكلمة و الضمير، و مؤمن بتبادل السلطة، و شفافية الإقتصاد، و عاش في ظل أضداد ذلك.


و لكن كل هذا يتلاشى، حين أنظر لأفعالك معنا كمصريين، منذ 1952، و أدرك إن مبادئ إعلان إستقلالك و دستورك و ما نادى به المستنيرين من قادتك، ليس لي كمصري، و أن هناك وجهان لك، و جه الإستنارة و الحرية يراه من هم داخل حدودك، و وجه لا ترى عينه إلا المصالح الوقتية، و أشدد على كلمة الوقتية، و يضرب من أجلها بكل مبادئه عرض الحائط، و بكل غباء كما سنرى، و يتمتع بنفاق فائق، ذلك الوجه هو لنا.


أمريكا، تتغنين بالحرية و بحق البشر في حرية الكلمة و الضمير و غيرهما، و تدافعين عن حقوق الإنسان و تصدرين التقارير السنوية عن حقوق الإنسان في العالم، و تنادين بحرية التجارة و شفافية و نقاء السوق من الفساد، لكن هل تطبقين معنا مع تنادين به؟؟؟

تعالي لننظر ماذا فعلت معنا في كل مجال:

أولا في مجال السياسة: تقولين بالحرية السياسية، و تنادين بتبادل السلطة، و لكن ألم نكن نتمتع بقسط وافر جدا منهما منذ 1923 و إلى 1952، ألم تكن مصر تذخر بالأحزاب من معظم ألوان الطيف السياسي، إلم يكن في مصر معارضة قوية أبان تلك الفترة، تقف أمام الإحتلال البريطاني و تحول بين إستبداد الجالس على العرش؟ ألم يصل زعماء للمعارضة للسلطة؟ ألم يصل سعد زغلول لرئاسة الوزارة و كذلك رئاسة مجلس النواب، و وصل خليفته في المعارضة مصطفى النحاس إلى رئاسة الوزراء خمسة مرات، نعم خمسة مرات، و كانت سلطة الملك لا تزيد عن حل البرلمان و الدعوة لإنتخابات عامة جديدة، هذا كان أقصى ما في يد رأس الدولة آنذاك بعد أن تم تقييد يديه بفضل الشعب، لهذا وصلت المعارضة للسلطة رغم إنتمائها ليسار الوسط؟؟؟

ثانيا في مجال حقوق الأقليات: أمريكا صدعت أدمغتنا بإستعمالك لكلمة حقوق الأقليات، فهل تنكرين أن أفضل فترة ذهبية شهدتها الأقليات المصرية، كانت في الفترة من 1923 إلى 1952؟ ألم يصل بعضا من غير المسلمين، سواء مسيحيين أو يهود مصريين، إلى أعلى المناصب و المراكز الإجتماعية و السياسية، و تربع بعضهم على قمم إقتصادية شامخة بالجهد الشخصي، و شغل بعضهم أرفع المناصب في الجامعات المصرية، دون أن يكون في ذلك إثارة لثائرة أحد، فقد كان الشعب المصري آنذاك يعترف بأن الجدارة هي الفيصل في الأمور، و ليس ضمير المرء؟؟ ألم يرفع المصريون تلقائيا في ثورتهم الأخيرة، ثورة 1919 التي كان عالم ما بين 1923 و 1952 وليدها، علم الهلال و الصليب، ثم خطوا خطوة أخرى إلى الأمام بتبني علم أشمل يرمز لأديان مصر السماوية الثلاث، إيمانا منهم بأن الجميع قد شارك في الثورة، و لم تر أغلبيتهم في ذلك غضاضة أو أمر ماس بدينهم و عقيدتهم؟؟؟
ألم يكن لمصر علم يفوق أعلام بعض الدول الأوروبية التي لم ترى سوى في دين أغلبيتها الحق في الرمز إليه في علمها؟؟؟

ثالثا حرية الضمير: ألم يظهر أمثال طه حسين و الشيخ عبد الرازق، و غيرهما في مصر، و لم يتم إعتقال أحدهما، أو غيرهما نتيجة ما قالا به، ألم تكن الغلبة في مصر في ذلك العصر للأحزاب المدنية المستنيرة، و لم يكن هناك ثقل للأحزاب الفاشية و الحركات التطرفية؟؟؟

رابعا التعليم و الثقافة: ألم يكن التعليم قبل 1952 أفضل كثيرا في مستواه من التعليم الحالي الذي يخرج أشباه متعلمين، و يكتشف كل خريج أن عليه إستكمال تعليمه بجهده إن أراد التقدم في تخصصه بعد أن يكتشف نقص و تخلف الكثير مما تعلمه، ألم يكن التعليم المجاني يفوق في مستواه التعليم الخاص، و كان مخجلا للفرد أن يقول أن ابنه يدرس في مدرسة خاصة، إلم يكن نتيجة تسارع التعليم و مجانيته و إرتفاع مستواه أن تزايدت أعداد الطبقة الوسطى، و إرتفع مستوى البلاد ثقافيا فأصبحت مصر أمه كاتبة و قارئة، و ظهر أعلام في العلوم و الآداب و تغنى المطربين بأشعار فطاحل الشعراء و حظوا رغم ذلك بشعبية فائقة، فقد أدرك المثقفون في ذلك العصر أن عليهم واجب نحو أمتهم، أن يأخذوا بأيدي أبنائها لأعلى؟؟؟

هذا بعضا مما كان الحال عليه في مصر قبل 1952، حقا لم يكن يوتوبيا، و لكن بالمقارنة بنتائج بما وصلنا إليه، بإسهام منك يعد فردوس مفقود، و هذه كارثة أخرى أن ننظر لعالم إنتهى منذ قرابة خمسة و خمسين عاما على إنه فردوس مفقود يحن الناس إليه.

امريكا لم يعجبك كل ما كنا نتمتع به، فهل غيرته للأفضل، أم قلبته للأسوء بغباء نظرتك و محدوديتها، ألم تكوني من أنصار أن الدكتاتوريات العسكرية أفضل بكثير من الديمقراطيات بصداعها نتيجة تقلباتها، ألم يكن مبدئك، و لازال، أن التعامل مع ديكتاتور واحد فاسد معروفة مفاتيحه أفضل كثيرا من التعامل مع زعماء منتخبين ديمقراطيا، إرضاء ناخبيهم أهم لديهم من إرضائك؟؟؟

امريكا، دورك في إنقلاب عبد الناصر معروف و ثابت و أصبح لا ينكره المؤرخين، و دور كيرمت روزفلت، عميل مخابراتك المركزية في إنقلاب يوليو، و في إسكات البريطانيين، معروف و أصبح لا مجال لأحد، حتى الناصريين، لإنكاره، فقط تقومين مثل بقية الناصريين بتجاهله و محاولة طمره و نسيانه، لتلقي علينا بعد ذلك مواعظك.

امريكا هل صححت بعد ذلك أخطائك، فإذا كانت الحجة آنذاك في دعم الديكتاتوريات العسكرية هو حربك الباردة، فهل بعد أن إنفردت بالعالم منذ حوالي سبعة عشر عاما صححت أخطائك في حقنا؟ أليست رقبة مبارك في يدك، فهل ضغطت عليه من أجل أن يكف عن التعذيب، و أن يطلق حرية الكلمة و الضمير، و يحرر وسائل الإعلام، و يكون عادلا مع كل التيارات السياسية و الثقافية و الإجتماعية في مصر، و أن يكف هو و بقية أعضاء نظامه عن سرقة أموال الشعب، و حتى أموال دافع الضرائب الأمريكي؟؟؟ ألست، كما تدعين، من أكبر أنصار الإقتصاد الحر النظيف، فهل ساهمت في نظافة الإقتصاد المصري أم إنك زدته تلويثا، ألست كما تقولين حرب على الإحتكار، فهل لا تعلمين بأن مصر أصبحت كلها إقطاعيات يسيطر عليها قلة من أعضاء الأسرة الحاكمة و أعوانهم في الفساد، و أن الشعب المصري يتضور أكثر من نصفه جوعا و يعيش أكثر من ثلثه في ظلام الجهل و يعاني الكثير منه من أبشع الأمراض بفضل رعايتك للفاسدين، أمريكا ألا ترين كل هذا العبث بالحريات و هذا العبث بالإقتصاد، أم إنك تتعامين؟؟؟؟؟


امريكا أنت اليوم، تشاركيننا دفع الثمن، و إن كان بدرجة أقل، عندما أسهمت في قلب عالمنا للأسوء بدلا من أن تدفعيه للأمام، و لازلت تتبعين نفس طريقك و لا تتعلمين من أخطائك الفادحة، و لا أرى إنك على إستعداد لتغيير نفسك في المستقبل القريب.

لهذا لا أحبك و لن أحبك، و لن أرضخ للتقسيم الذي يقوم به بعض أتباعك، في تصنيف أنصار الحريات على إنهم يجب أن يكونوا من أنصار أمريكا تلقائيا.

أمريكا لا أقول هذا لأنني أتوقع أن تتغيري، أو لأنني أحاول أن أدفعك لأن تغيري طريق الخطيئة التي تسلكين إياه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، و إنما لأظهر حقيقتك أمام أنصار الحرية و الإستنارة و المساواة و المدنية و الرفاهية، و لأقول لكلطامح للتغيير: لا تنتظر أمريكا أن تأتيك على سحابة لتنصفك، و لأقول: أن التغيير لن يأتي إلا من القوى الوطنية، كما حدث في كل بلدان العالم التي تحررت فعليا من طغاتها، كما في معظم بلدان أمريكا اللاتينية التي عانت مثلنا من الدعم الأمريكي للطغاة العسكريين الفاسدين.

التغيير في مصر للأفضل لم يحدث إلا بيد مصريين، فنابليون و حملته لم يكونا هما من أوجدا مصر الحديثة، فقد عادت مصر لتغرق في ظلمات البحر العثماني بعد رحيل الحملة الفرنسية في 1801، وظلت غارقة في تلك الظلمات إلى أن بادر الشعب، بعد أن فاض به الكيل، متحدا في قيادة جماعية، ضمت العالم مع الحرفي و المسلم مع القبطي و اليهودي، عازلا الحاكم العثماني و ليختار حاكما مستنيرا، فاتحا بذلك باب جديد ولجته مصر لتدخل عصر جديد في 1805، و الذي كان نتيجته ولادة مصر الحديثة، و تأخير الإحتلال لمدة ثمانين عاما تقريبا. و بالمثل فإن الإستقلال المصري عن بريطانيا في 1922 لم يكن منحة أو بتدخل من الولايات المتحدة صاحبة مبادئ ولسون، بل بدماء و تضحيات الشعب المصري في الشارع و الحقل المصري في 1919، تلك التضحيات هي التي أدخلتنا عالم ما بين 1923 و 1952، ذلك العالم الذي أصبح لنا يوتوبيا مفقودة يتغنى بها الشعب، و يحلم بمثلها المستنيرين، و هذا حقا ما يخجل، أن نعود لنحلم بزمن تجاوزه العالم المتحضر منذ نصف قرن و أصبح بالنسبة إليهم عالم في ذمة المؤرخين و يدرسه طلاب التاريخ.

رجاء لكل مصري وطني حر مستنير، أن يكف عن الإرتماء في أحضان أمريكا، و ليرتمي في أحضان الشعب المصري، و ليعمل على توعيته و إيقاظه، فهذا هو الطريق الوحيد لإستعادة مصر من براثن الفساد و الطغيان و التطرف، التي كانت أمريكا، مع غيرها من العوامل، سببا في إيقاعنا بين مخالبهم.

لن يستعيد مصر الحرية و العدالة و المساواة و الرفاهية العادلة إلا المصريين فقط.

أحمد حسنين الحسنية
حزب كل مصر
14-02-2007