تمخضت احداث كثيرة متعاقبة ومتسارعة عن حرب الخليج الثانية التي كانت متنفسا وفرصة ثمينة ومؤاتية للانقضاض على نظام صدام حسين، في ظل اختناق جماهيري واضح نتيجة الممارسات اللامسؤولة التي كانت تصدرها اجهزة الدولة وكذلك بسبب زج الجيش في غزو للكويت لم نفلح منه في شئ ومن ثم الدخول في حرب كان متوقعا ان يقدم فيها العراق وجبة دسمة من الخسائر في المال والاروح.

ذلك الاحتقان الذي كان مصحوبا بوصول الجنود العراقيين على حالهم البائسة يقطعون صحراء الكويت على الاقدام كان ذلك قشة قصمت ظهر البعير وعود الثقاب الذي اشعل برميل البارود... فحصلت الانتفاضة وكانت على طريقة الشعب المنهك من الحروب والدمار الذي اضرّ به الوضع الاقتصادي المزري آنذاك، فخرج الناس الى الشوارع والاسواق { كل يبكي على ليلاه } ومع كل ما يوجد من اختلاف في الغايات والاهداف فان الجماهير استطاعت ان تفعل الكثير وتمسك بزمام الامور لفترة ليست قصيرة قاربت على اكثر من اسبوعين في المعدل، لكنها ( وللاسف الشديد ) كانت تنتظر الاخرين وتبحث عن العمائم من اجل ان تقدم لها المقاعد القيادية على طبق من ذهب، كان العراقيون يبحثون عن عمامة تقودهم وعن رجل ردين يأمر وينهى كما كان من قبلهم ينتظر ملكا من الحجاز فجائوا به وسيّدوه على العرش، خصوصا وان الثورة جاءت في وقت لم يتخلص العراقيون فيه من فكرة استيراد القيادات التي املتها جهات وعوامل كثيرة لكنها هذه المرة امليت بطريقة اذكى سابقاتها حيث البست هذه المرة بعدا دينيا وعقائديا يؤطر تلك اللافتات باطارها الشرعي الذي كان مطلوبا بشدة آنذاك.

وهذا هو السبب الابرز في اخماد فتيل تلك الثورة، التي كانت تتصور انها انجزت ما عليها لانها اسقطت اغلب الاهداف المطلوبة منها وتنحت عن المرحلة الثانية وهي مرحلة الادراة وتسير الامور، سيما وان حركة الانتفاظة كانت تميزها اللا مركزية في اصدار القرارات وهي نتيجة طبيعية لثورة جاءت في اغلب مشاهدها بشكل عفوي، ولعل ذلك العامل يبعد عن الثورة تهمة الايعاز من الخارج، بل ولم تكن حتى بتخطيط واعداد مسبق من قبل الحركات السياسية المعارضة ( في تلك الفترة ) بل كانت حركة جماهيرية شعبية عفوية من الطبيعي ان تمر بهذه المرحلة.

ما تقدم يؤكد بوضوح ان انتفاظة اذار 1991 نجحت في انجاز المرحلة الاولى وهي السيطرة على الاهداف البارزة لاجهزة الدولة نجاحا باهرا وبقيت تسيطر عليها لعدة ايام ولكن الخطا الاكبر الذي وقعت فيه الجماهير المنتفظة انها لم تتصور ( بالمرة ) ان المرحلة الثانية هي من صميم واجباتها ومن ذات مسؤولياتها اصلا، وهذه الاشكالية كانت عقبة كؤود لصيقة في نسيج المنظومة الفكرية لدى الفرد العراقي حينما يأتي الكلام عن التغيير على طريقة الجماهير في تلك المرحلة بالذات.

وبشكل عام يمكن لمن يتابع ملفات الثورة التي حصلت عام 1991 بعيد الانسحاب من الكويت بامكانه ان يضع الاصبع على مجموعة من المؤشرات التي منها:

ـ ان العديد من فصائل المعارضة العراقية في تلك الفترة كانت تفتقر الى برنامج سياسي منضج أو إمكانية على قيادة الجماهير في احداث من هذا النوع، ولم تكن قادرة على تنضيم هذا النسيج المتعدد من البشر الذي نزل بقوة الى الشارع، ولذلك نجدها قد تخبطت في تحركاتها اثناء وبعيد الانتفاضة فكانت تلك التلكؤات جزء من النهاية الدراماتيكية لتلك الثورة.

ـ عدم قدرة الداخل العراقي على تنظيم نفسه وإختيار القيادات الصالحة في تلك الفترة الخطيرة.

ـ على المستوى الاقليمي لم تكن أغلب دول المنطقة ترغب في رحيل نظام صدام، بل كانت تفضله على حركات جماهيرية كانت مسرحا لشعارات تلقتها بلدان الجوار بطريقة منفعلة، ولم تتفهم صرخات الجماهير المكبوتة التي اعتبرت تلك الايام متنفساً لأرهاصات المواطن العراقي الذي عانى الكبت باشكاله المختلفة طيلة ايام الدولة العراقية، وبالتالي قيّمت هذه البلدان الحدث من زاوية سياسية خاطئة، دفعتها الى ترتيب اوراق صدام حسين في العودة، وهذا يعتبر ( بحد ذاته ) عنصرا مصيريا في فشل ثورة اذار.

وباختصار فان اخفاق الثورة في تحقيق اهدافها ناتج بالدرجة الاولى عن اخفاق الحركات السياسية في استثمار الحدث و اتكالية الجماهير العراقية على القيادة المستوردة في ترتيب المرحلة الثانية من التغيير كان سببا مصيريا وراء الفشل، بالاضافة طبعا الى العامل الاقليمي واحكامه المسعجلة.

وفي هذه المرحلة التأريخية المهمة التي تمثل منعطفا استثنائيا من تأريخ العراق السياسي نتمنى من جميع بلدان العالم وبلدان المنطقة بالذات ان لاتكرر اخطاء الماضي فتكون متسرعة في قراراتها السياسية تجاه الجماهير العراقية ذات الطيف الواسع والكبير، ورغم جميع الاخطاء فان الفترات القادمة ستشهد ظهور صيحات اكثر عقلانية تحمل خطابا مرنا يعي متطلبات المرحلة، فهل يا ترى بقي من عقلاء يسمعون صيحات التأنّي بين هذا الضجيج الطائفي الصارخ لبلدان تملك خراطيم اعلامية ضخمة جدا؟!

جمال الخرسان

كاتب عراقي

[email protected]