تعود علاقة الكرد مع الإسلام إلى بدايات تاريخ هذا الأخير؛ بل هناك من يرى أن صحابياً كردياً اسمه quot;جابان الكرديquot; كان من بين أصحاب رسول الله (ص)، وذلك إلى جانب بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الروميquot;.
ومع اعتناق الكرد للدين الجديد، وتمثلهم لقيمه وعقيدته، باتوا من المدافعين المخلصين عنه، وكانوا على الدوام الجند الأوفياء لأولي الأمر من الخلفاء والولاة المسلمين. ولم يفكروا ابداً - حتى وهم في أوج قوتهم خلال المرحلة الأيوبية على سبيل المثال - من استغلال الأوضاع، والسيطرة على مقاليد الأمور تحت راية الإسلام، كما فعل الآخرون؛ بل انهم ساعدوا الآخرين على بلوغ مآربهم في ميدان السيطرة، ومن ثم كانت المكافأة هي الغدر والقتل. ولعل تصرف أبي جعفر المنصور مع أبي مسلم الخراساني هو أوضح مثال في هذا الميدان.


وقد ظل الكرد بإستمرار يفرّقون بين جوهر التعاليم الإسلامية وأصالتها من ناحية، وبين سلوكية الخلفاء والولاة وأولياء امور المسلمين بصورة عامة من ناحية ثانية؛ لهذا لم تدفعهم اساءات حكام المسلمين وظلمهم إلى التشكيك في المبادئ لإسلامية ذاتها التي ظلت بالنسبة إليهم سامية، وكانوا - وما زالوا - يتطلعون بشغف إلى اليوم الموعود، اليوم الذي تُطبق فيه التعاليم الاسلامية بروحيتها النقية، البعيدة عن الأخطاء والجرائم التي ترتكب باسم الإسلام، وهو منها ومن أصحابها براء... أما تفسير هذا الموقف الكردي الذي يقيم فصلاً حاداً بين عالم المثُل وعالم المحسوسات، وهو فصل يتقاطع في أوجه كثيرة منه مع نظرية المّثل الأفلاطونية الشهيرة، فربما يتم بطريقة ما من خلال العودة إلى الواقع، واقع المجتع الكردي نفسه، الذي يتميّز منذ القديم بطابعه الزاعي؛ والمجتمع الزراعي يتسم عادة بجملة من الخصائص من بينها: الانتظار والتواكل والمحاكاة، فضلاً عن إعادة انتاج المعهود. أما على الصعيد القيمي، فإن المجتمع المذكور يفرز الكثير من القيم الخاصة به، في مقدمتها النوايا الحسنة، والثقة بالآخر، والالتزام بالوعود، والتضحية في سبيل الصديق والحليف. كما ان غياب الكيان السياسي الكردي على مدى أكثر من ألفي عام قد أدى بدوره إلى غياب مفهوم الدولة في الفكر الكردي على مختلف المستويات، الأمر الذي حال بين الكرد والسعي من أجل تسخير الاسلام لصالح التوجهات السياسية الكردية، وهذا ما اقدمت عليه على الأغلب جميع الأمم التي اعتنقت الإسلام. ونشير هنا - في إطار ما يعني منطقتنا بصورة خاصة - إلى العرب، والفرس، والأتراك الذين قدموا إلى المنطقة بعد مجيء الإسلام، وسعوا ndash; الأتراك - إلى امتلاك ناصية القوة، والتغلغل في مختلف الأنحاء، ريثما استتبت لهم الأمور، فانقضوا على الدولة بإسم حماية الدين نفسه الذي استمدت منه الدولة المعنية مشروعيتها أصلاً.


أما الإمارات الكردية التي كانت موزعة في مختلف أنحاء كردستان خلال الحكم العثماني، والعثماني- الصفوي لاحقاً، فقد كانت في أساسها مناطق تتمتع بنوع من الإدراة الذاتية مقابل الإلتزام بفروض الدولة، سواء العثمانية أم الصفوية؛ وهذا أمر يشكف النقاب عن الغياب اللافت لمفهوم الدولة في الإرث السياسي الكردي - إذا صح لنا استخدام هذا التعبير- فقد كان التوجه المشترك هو السعي لإدراة المجال الحيوي لمنطقة الإمارة نفسها؛ ولعل هذا الأمر هو الذي دفع بأحمدي خاني إلى إطلاق صرخته المدوّية في رائعته (مم وزين) بخصوص ضرورة الاتفاق؛ فقد وجد الشاعر الحكيم أن عدم الإتفاق بين الأمراء الكرد يلزمهم بخدمة الآخرين، في حين أن مجرد الاتفاق كان من شأنه تغيير الموقف بصورة جذرية، ولصالح الكرد من دون شك.


لقد تميّز المجتمع الكردي بإستمرار - كما هو شأنه راهناً- بتدّينه المعتدل، غير المحبذ لنزعات التشدد والإكراه؛ بل نستطيع القول انه قد تحقق نوع من الانسجام بين الإسلام والموروث الثقافي الكردي، ليغدو جزءاً عضوياً فاعلاً من الأخير، ولكن من دون أن يحجب الخصوصية الكردية نفسها التي تتجسد بعض ملامحها في الإعتدال والإنفتاح والتواصل والقدرة على التعايش مع الآخر المختلف؛ وهي تتشارك من جهة التوجه مع الاسلام المعتدل، من دون المتشدد الذي لايستبعد العنف وسيلة لتحقيق مآربه التي تتخطى دائرة الدين، ويتملّكها نزوع سياسي عصبوي، يستغل الدين وقدرته الروحية لبلوغ رغبات دنيوية تخص أصحاب الشأن الذين قد اتقنوا فنون تحوير المفاهيم، وافراغها من محتواها القيمي المثالي، لتكون مجرد قواب إيهامية تُعتمد للإغراء والتعمية، وإشغال الخصوم والمنافسين من اتباع الدين نفسه قبل الآخرين.


وقد تنبه العديد من المفكرين الكرد الإسلاميين - إذا جاز المصطلح- إلى هذا الناحية (منهم الدكتور محمد صالح گابوري والشيخ عمر غريب)، وطالبوا من دون كلل بضرورة التنبه لمخاطر استغلال الكرد سواء ضمن إطار الحركة الاسلامية أم خارجها باسم ضرورة التمسك بالمبادئ الإسلامية الخالصة التي تنبذ العصبيات. بما فيها القومية. وما يذهب إليه غريب في هذا المجال هو ان ما نلاحظه من تجاهل في موقف الحركات الاسلامية، من فارسية وتركية وعربية، للظلم الشمولي الذي يتعرض له الشعب الكردي بصورة عامة، ليس مرده هو النقص في المعلومات، أو قصور ذاتي من جانب الكرد أنفسهم، بل هو تجاهل منهجي مقصود، سببه مواكبة أهواء التعصب القومي لكل فريق، والتحاشي الواعي لأي ذكر أو فعل من شأنه الإسهام في توجيه الأنظار نحو محنة الشعب الكردي التي تستوجب - انطلاقاً من التعاليم الإسلامية ذاتها، هذا إذا كان المرء مخلصاٌ معها- تضافر جهود جميع المسلمين من أجل رفع المظالم، واسترجاع الحقوق، والتعويض عن الأضرار.


إلا أنه مع ذلك، نرى أن الجهود مستمرة لإستقطاب الطاقات الكردية، ووضعها في خدمة مشاريع اسلامية قومية تخص القوميات الاسلامية الأكبر في المنطقة، وهي التي تقتسم كردستان فيما بينها، وتحرص باستمرار على التعمية وتلطيف الأجواء بعبارات مجاملة خاوية، لاتخدم سوى مشاريع المهيمنين وخططهم الرامية إلى إنكار الحق الكردي، بل وإلغاء الوجود الكردي إذا ما تيّسر لهم ذلك. ولعل ما يجري اليوم في كردستان - تركيا يُعد مثالاً يؤكد ما نذهب إليه؛ إذ تقوم الحكومة الإسلامية عبر مؤسساتها الإجتماعية والإنسانية والخدماتية المتشعبة بعملية تهدئة الأوضاع بين السكان، وتسعى من أجل كسب ودّهم وتأييدهم مقابل خدمات آنية؛ ولكنها في الوقت ذاته تقف بقوة إلى جانب حملات التتريك، وتساهم في عملية الغاء الشخصية القومية للشعب الكردي هناك؛ وتتفاهم مع القوى الاقليمية على اتخاذ جملة من التدابير الاحترازية التي تخدم الأهداف المشتركة للقوى المعنية، وهي تتمحور حول رفض الإعتراف بالحق الكردي.


والأمر ذاته في كردستان - ايران، على الرغم من الخصوصية المذهبية هناك- فالكرد في غالبيتهم هم من اتباع المذهب السني كما هو معروف- ولكن مع ذلك فإن النظام الإيراني الذي اتخذ من الإسلام ايديولجية يتكأ عليها لتوسيع دائرة النفوذ والسيطرة، ويسعى بكل امكانياته من اجل استمالة من يتجاوب معه من الكرد، ليضعهم في مواجهة المشروع القومي الكردي العادل.


أما في سورية فالوضعية مغايرة إلى حدٍ ما نظراً لتعرض الحركات الإسلامية الأساسية صاحبة التاريخ والتقاليد نفسها للإضطهاد والملاحقة. أما الحركات الأخرى المرتبطة بالدولة فأمرها مكشوف للقاصي والداني،ولم تتمكن بعد - على الرغم من الجهود الحثيثة - من تثبيت أقدامها ضمن المجتمع الكردي في سورية؛ مع الأخذ بعين الاعتبار بأنها قد تمكنت من بناء العلاقات مع مجموعة من الأفراد الذين لم يتمكنوا من التأثير في مجتمعهم، وبالتالي لم تتحول جهودهم إلى حالة ثابتة، يُراعى وضعها في أي تقييم سياسي لخارطة توزع القوى في المجتمع الكردي.


أما في العراق فالوضع أكثر تعقيداً وتداخلاً؛ إذ يحاول النظام الإيراني بشتى السبل استمالة الحركات الإسلامية الموجودة هناك، بل يعمل على إنشاء حركات جديدة، تلتزم خطه، وتسير وفق توجهاته وأوامره؛ وهو يستغل في هذا الميدان حالة التدين العامة في المجتمع الكردي، فضلاً عن تقاعس الحركات الإسلامية العربية عن بلورة معالم موقف موضوعي من المسألة الكردية، هذا إن لم نقل اتفاقها في العديد من الموضوعات مع التوجهات العصبوية لبعض القوى العربية القومية المتشددة، المنغلقة على ذواتها، غير المستعدة للإعتراف بماهية الأمور، بل انها ما زالت اسيرة المنظومة المفهومية لايديولوجيتها اللاعقلانية اللاتاريخية.


أما العامل الأهم الذي قد يساعد الجهود الإيرانية على الانتعاش وتحقيق بعض النجاحات، فهو يتمثل في واقع الفساد المتفشي ضمن الإدراة الكردية في اقليم كردستان - العراق. وربّ قائل يقول هنا: وما العيب في ذلك، فالفساد منتشر في المنطقة بأسرها، وفي العراق بأكلمه. ونحن جزء من المنطقة، ومن العراق تحديداً، لذلك من الطبيعي أن نتعرض لقسم من الأمراض السارية بين الجميع. ولكن هذا عذر أقبح من الذنب؛ وهو لا يسوّغ ما هو قائم. فنحن جميعاً ندرك مدى التحديات الراهنة، وتلك القادمة. ومهما كانت المخاطر التي تهدد مجتمعات المنطقة، فهي تمتلك كياناتها السياسية، ومعترف بحدودها وحقوقها؛ في حين أن الجميع يترصد، ويعمل من أجل الغاء الوجود الكردي وبأي ثمن. واللافت في هذا المجال ان هذا الهدف غير المقدس بطبيعته يمثّل قاسماّ مشتركاّ بين الاتجاهات القومية العصبوية السائدة في المنطقة، بغض النظر عن الانتماء القومي، والتوجه السياسي من يساري علماني إلى قومي محافظ؛ مرواً بالديني المتستر بلباس الإسلام، وهو الدين الذي يعتنقه القسم الغالب من الكرد، هؤلاء الذين يعتقدون جازمين أنه يدعو إلى التسامح والتعارف والتواصل والخير والمحبة بين الجميع.
أما مخاطر الفساد الأساسية بالنسبة إلى المجتمع الكردي في كردستان العراق، فهي تتشخص في انشغال المسؤولين بهموم ومشكلات هامشية تحول بينهم وبين التركيز على القضايا المؤرقة التي تتصل بمستقبل المنطقة، ومستقبل الكرد على وجه التخصيص. كما انها تتجلى في عوامل التبرم والشكوى والاختلاف، الأمر الذي يمكن أن يستغل بكل حنكة وودهاء من قبل القوى الإسلامية الموجّهة المدعومة من الخارج؛ وهي قوى موجودة تستند إلى خبرات عقود من السنين، أعطت ثمارها في لبنان وفلسطين؛ وما المانع من إعادة التجربة في كردستان؛ خاصة أن عوامل التاريخ والجغرافيا تسهّل من تعميق الوشائج، وتوسيع إطارها عبر قوى تستفيد من الأخطاء المتراكمة، وتستغل حالة التدين السائدة.

إن مواجهة المخاطر الموجودة الفاعلة، وتلك المحتملة لن تتحقق من دون جهود مركزة واعية، تعالج الأخطاء الملموسة، وتتعامل بعقلية مفتوحة مع التيارات الدينية المعتدلة التي تعبر عن توجهات قطاعات واسعة من المجتمع الكردي، وتدافع عن حقوق الشعب الكردي، إنطلاقاً من قناعاتها الإسلامية غير المتشددة القادرة على التحاور والاتفاق مع الاتجاهات والمكوّنات الأخرى العلمانية والقومية والدينية من غير الإسلامية. وفي المقابل، لابد ن التنبه لمخاطر الحركات الإسلامية الوافدة التي تتحرك نحو أهداف مرسومة لها من شأنها - فيما لوتحققت - الإساءة إلى العمل الكردي المشروع في ميدان رفع الحيف، وتأمين الحقوق المهضومة التي كان من المفروض أن تكون الهدف المشترك لجميع الحركات الإسلامية في المنطقة، إذا ما كانت تلتزم بالفعل - لا بالقول المضلّل - التعاليم الإسلامية السمحاء التي تدعو إلى الإخاء والمساواة بين جميع الشعوب، لاسيما المسلمة منها.

د. عبدالباسط سيدا