ما كان بودنا، في الحقيقة، أن نتحدث، يوماً، عن أقليات، ولا حتى أغلبيات في هذه المجتمعات، أو أن نشير، بأية حال، إلى أية هويات غير الهوية الوطنية العريضة التي يجب أن ينضوي الجميع تحتها، وأن يكون موضوع حواراتنا واهتماماتنا هو الشرائح العريضة من المواطنين، والأوطان الحصينة القوية التي تسودها قيم المواطنة والعدالة، والمساواة، ومبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع. إن الخطاب التحريضي والطائفي العنصري الذي بدأ يرتفع، وبتنا نسمعه مؤخراً، وبكل أسف وأسى، بعد عقود من الضخ الإيديولوجي المتخلف الذي تموّله وتتواطأ فيه جهات رسمية عربية وتدعمه عوائد بترودولارية ضخمة، لا ينبئ البتة بوضع آمن ومسالم، ليس لمعظم الأقليات والمكونات الاجتماعية والسياسية والعرقية والدينية فحسب، بل لمستقبل وبقاء هذه الأوطان بشكل عام. لقد استشرت هذه الحملة السلفية والأصولية، وتغوّلت إلى حدود مفزعة ومرعبة، بحيث أصبح خطابها علنياً، وتهديدياً، وتحريضياً ضد الجميع بلا استثناء، ويطال فيمن يطال حتى الأغلبيات الوطنية والديمقراطية التحررية التي تؤمن بقيم المواطنة والعدل والمساواة.

لا يمكن لنا أن ننكر أبداً أوضاع التعتيم، والتهميش، والإقصاء، والتمييز، وحتى التشويه المتعمد التي تعانيه بعض الأقليات في مجتمعات ما تزال تعيش ومحكومة بقوانين، وشرائع، ودساتير عفا عليها الزمان. ولا يمكن لنا في هذا السياق إلا أن نتذكر تلك الدعوات غير الإنسانية لتفضيل قوم على قوم، ومجموعات على مجموعات، وبشر على آخرين بناء على اعتبارات إيديولوجية فاشية وعنصرية، وتقسيم الناس وتصنيفهم في شتى الأوصاف التي لا تخفى عليكم، ويأنف هذا المقام الكريم عن ذكرها، وما يولده كل ذلك من عوامل احتقان، وتوتر، وتشنج ويخلق أسباباً للصراع والصدام.

نتداعى اليوم أيها الأخوة، وهناك مستجدات كثيرة وخطيرة تعصف بمنطقتنا يساعدها ضيق أفق، وتطرف، وقصر نظر البعض في رؤيتهم للقضايا الوطنية ومستقبل الأوطان بشكل عام وتبنيهم لخطاب متشدد لا يعترف بالآخر ويضع قيم المواطنة في ذيل اهتماماته مما يخلق هلعاً وخوفاً لبعض المكونات الاجتماعية والعرقية والدينية الأخرى. وإن كنا نعترف، بكل أسف، بمشاكل، وعقبات كثيرة تعترض سبيل حياتنا العامة، ونحن بصدد دراستها وتفصيلها وإيجاد صيغ مقبولة من الجميع لتجاوزها، فإن هذا لا يجب أن يكون بحال، مدعاة، أو دعوة، أو منفذاً للقوى الدولية والأطماع الخارجية، للتدخل في شؤون بلداننا، أو إعطاء أي مبرر، ولأي كان، للاستقواء بها ضد الأوطان طالما أن سبل الحوار، والنقاش، والتواصل والتفاهم لم تنقطع كلياً، ولا تزال مفتوحة. لأن أي تدخل خارجي يعني إضعافاً وزوالاً للبنى الوطنية القائمة، وسينعكس سلباً على بقائها بشكل عام. كما أن بقاء التناقضات، والأوضاع دون حل، هو الآخر عنصر من عناصر اضمحلال وتقهقر هذه المجتمعات، وعجزها عن اللحاق بركب الحضارة الإنسانية الذي قطع أشواطاً بعيدة في كافة المجالات. لذا نتمنى جميعاً، ومن خلال تجمعنا هذا، أن نؤسس لحقبة، وعهد جديد في منطقة محكومة بإرث سياسي وسلطوي وتقاليد بالية عفا عليها لزمان وإحلال قيم ومفاهيم جديدة من التعامل الحضاري والمدني الإنساني العصري والراقي.

إننا ندرك جميعاً ما للإعلام من دور فاعل في تسليط الأضواء على كثير من القضايا التي يتم التعتيم عليها، وتقديمها بكل شفافية وحيادية وموضوعية للرأي العام. ومن هنا أدعو مؤتمركم الكريم إلى تبني ودعم اقتراح بإنشاء قناة إعلامية تعنى بشؤون الأقٌليات في الشرق الأوسط بشكل إيجابي وبعيد عن لغة التحريض، والاستئثار، يتم من خلالها التعريف بوضع وحقوق وشؤون الأقليات بشكل عام، والدفاع عنها وفضح أية انتهاكات أو اعتداءات تتعرض لها، ومنع أي انتقاص من حقوقها المنصوص عليها في المواثيق والأعراف الدولية، ويتم من خلالها نشر وتعميم ثقافة حقوق الإنسان.

-ومن هنا يتوجب أيضاً توجيه دعوة، وإرسال رسائل، ومن خلال مؤتمرنا هذا، لكافة الأنظمة في المنطقة، لوقف دعمها اللامحدود المادي والمعنوي لقوى الاستئصال والتكفير والإرهاب، وفك عرى الحلف المقدس والمنفعة المتبادلة القائمة بين الطرفين، ونبذ وعدم تبني خطابها في وسائل الإعلام الرسمية. بالتوازي مع إرسال رسائل إلى كافة المنظمات الدولية المعنية بهذا الشأن ل حظر أي خطاب تحريضي أو تكفيري فاشي يطال أي كان، أو يدعو لاضطهاد وتهميش الآخرين بناء على أسس عنصرية وتمييزية، أو النيل منهم، وتجريم ذلك وإصدار التشريعات والقوانين اللازمة التي تمنعه.

السعي، والضغط لتبني وإحداث دساتير علمانية عصرية مستمدة من المبادئ العامة لحقوق الإنسان التي كانت ثمرة لنضال الإنسانية ضد عصور الاستبداد والتخلف والظلم والطغيان.

تفعيل مبدأ المواطنة والمشاركة الشعبية الواسعة في العمل الوطني العام بناء على سيادة مفاهيم وقيم المواطنة واعتبارها الأساس والمعيار وبعيداً عن مجمل المعايير البدائية السائدة الآن.


البحث في السبل والآليات التي تعيد بناء وتأهيل هذه المجتمعات بما يكفل تكيفها وتأقلمها والتحاقها بالركب الإنساني الحضاري الذي يخطو بتؤدة وثبات نحو الرفعة والمجد والاستقرار والرفاهية والازدهار.

بوركت جهودكم هذه، وعسى يكون هذا اللقاء لبنة أولى لبناء مجتمعات حرة متحررة من أغلال وخرافات وإرث الماضي الأليم. وليكن شعارنا لا أقليات ولا أغلبيات بل مواطنون ومواطنات ومجتمعات حرة عزيزة كريمة، تسودها قيم المواطنة والتعايش والمحبة والعدل والمساواة.
وشكراً لكم جميعاً.

Nedal Naisseh
[email protected]
[email protected]
[email protected]

القيت في مؤتمر الأقليات المزمع عقده في زيورخ 24-26 آذار مارس 2007