بالتأكيد إنها الأشياء التي في دواخلنا ومن حولنا هي التي تضعنا دائماً تحت وطأة التجليات الإبداعية، تلك الأشياء التي ما أن نشعر بأننا قد تهاوينا في الفراغ والتشظي والتقوقع والانطفاء، حتى تُرجعنا مجدداً إلى دكة التساؤل ووهج الكلمة ومنبع الدهشة ومعين التأمل ودفقة الفكر وومضة التجلي وخفقة الروح..
الشاعر والشاعرة والروائي والروائية والكاتب والكاتبة والرسام والتشكيلي وكل مَن يشتغل في حقول الكلمة والفنون والأدب، وأيضاً كل مَن يخوض غمار هذه الفضاءات الإنسانية وغيرها مجترحاً عوالمَ ابداعية مميزة خاصةً به أو بها، لا بد وأنه قد مرَ يوماً بهذه الحالة، حالة الفتور مع الأشياء من حوله وحالة النفور ربما من الأشياء في داخله حد التباغض معها، وما أن يستعيد بعض سحر الأشياء في داخله ومن حوله، وبعض توازنه معها، ويمضي متصالحاً معها، حتى يتدفق فجأةً بالسحر والدهشة والإبداع والألق، وقد يتوقف هذا الأمر في نهاية المطاف على نظرة كل واحد منهم للأشياء في داخله ومن حوله، ومَن باستطاعته أن يذهب بعيداً في تجلي الأشياء فأنه بالتأكيد قد ذهبَ بعيداً بالأشياء ذاتها في داخله إلى حد الانصهار معها اتحاداً وابداعاً وعشقاً في مداراتها المتعددة، وصانعاً في الوقت نفسه لحظته الخاصة به باحترافية مدهشة، تلك اللحظة البارقة من توهجات الذات المبدعة، حيث تتكثف في الوجدان كلحظة زمانية خاصة يعيشها المبدع المتجلي بكل أحاسيسها الداخلية ومشاعرها النابضة بدفق التأمل، ولكنها في الوقت ذاته، أي لحظته الزمانية الخاصة تشي بالامتداد المكاني، حيث اللحظة تتمدد عميقاً في ذاكرة الأمكنة وتكون مفعمة بالرحيق الآتي من زواياها المتجذرة في الذاكرة، ولا يمكن أن نفصل أي فنان أو أي فردٍ يتجلى ابداعاً وألقاً من طاقته الروحية والفكرية الكامنة فيه، فكلما كان متحداً ومنصهراً مع طاقته تلك، كلما كان معبراً أكثر عن مكنونات ذاته المبدعة الناطقة بتلاوين التأملات والتصورات والأفكار، وكلما كان متجلياً في استنطاق الأشياء المتغيرة في ذاته كلما كان قريباً من تجربته الخاصة ومتداخلاً معها بعمق، ومستلهماً منها ينبوعاً من الفكر المتجدد والإضاءات المدهشة..
وانطلاقاً من ذلك تتولد ثمة حقيقة تتجسّد في أن التجليات الإنسانية في مجالات الفنون والأدب والكلمة وغيرها من مجالات الابداع الإنساني ما هي إلا فتوحات إبداعية مشرعة النوافذ على الحاضر والمستقبل تستشف احتمالاتٍ مفتوحة الآفاق تتخلق في وعي الذات، وتتشكل بكثافة وعمق في لغةٍ خاصة ومتفردة بين ( أنا ) المبدع والمتغير من الأشياء من حوله وفي أعماقه، وقد تعكس تلك الفتوحات الإبداعية الحالة الوجدانية والثقافية التي يكون عليها المتجلي المبدع، متداخلاً مع التصورات والموضوعات المختلفة والدلالات الكامنة في كل ما له علاقة بالطبيعة أو المحيط أو الزمان الذي يتحرك فيه أو المكان الذي يتجذر في زواياه وأبعاده الفسيحة، وكذلك فإن التجليات الإبداعية ما هي إلا صياغات فنية وجمالية مشبعة بالتألق المعرفي الذي يصنعه المبدع بتفاعلاته التأملية مع الأشياء والموضوعات والأفكار في ذاته بالدرجة الأولى ومن ثمَّ مع ما حوله، لتصبح تلك الصياغات فيما بعد مقترحات أو اقتراحات حياتية جمالية وفنية وبلاغية وابداعية تحاكي بعمق متأصل الواقع المعيش الذي يحوي في حراكه الدائم والمتغير التجليات ونزعة الإنسان الجوهرية في الابداع، ويحوي أيضاً كل حركة الحياة بوجوهها المختلفة الكثير في الوقت نفسه..
وقد أتفق جزئياً مع مَن يقول أن المبدعين في بعض الأحيان قد تخذلهم قلوبهم على اعتبار أن القلب لحظة الضعف بامتياز على حد قول الفيلسوف بول ريكور، ولكن في مجمل الأحوال لن تخذلهم عقولهم، بل تبقى متقدة ومتحفزة للابداع والتألق المعرفي، وتبقى عقولهم تدفعهم لتبني الفتوحات والاحتمالات والمقترحات مندفعة بزخم الابتكارات والتصورات والأفكار، وإن استسلمت قلوبهم لبعض الوقت للضعف أو الوهن أو الانطفاء، فما تلبثُ أن تتوثب فيما بعد بالنبضات والتدفقات الابداعية الحافزة للإرادة الإنسانية في اجتراح التجليات الجمالية الابداعيـة..
وفي منحى آخر لا يمكن أن نغفل عن حقيقة واضحة وهي أن في داخل كل فرد توجد مساحة فطرية من المحفزات والتجليات الابداعية والومضات الخلاقة، ولكن ما أن يصطدم الفرد بجملة من الواقعيات المعاشة المحيطة به وببيئته وبمجتمعه، حتى تنطفيء في داخله تلك الومضات والمحفزات والإضاءات الإبداعية، من خلال ما يفرضه الواقع عليه من مسلمات ثقافية أو موروثات دينية أو يقينيات مطلقة أو عادات وتقاليد مجتمعية موغلة في التعصب والانغلاق والجمود، تقتل فيه بطريقة أو بأخرى، نزعة الابداع والانطلاق والتجديد والتغيير، وتقتل فيه الطموح والمثابرة والحماس، ليذوب تلقائياً في الفضاء العام وفي الثقافة السائدة وفي نمطية التقليد الصماء وفي الحالة الراكدة المألوفة التي عادةً ما تكون عليها تلك المجتمعات، ولأن الإنسان بطبعه بشكل عام يجد السلامة في مسايرة الشائع والسائد والمألوف ويتخوف من الخروج على تلك الأطر السائدة والمعتادة، فأنه من الطبيعي أن يتراجع عن انطلاقاته في التغيير والتطور ومخالفة السائد ويستسلم في نهاية الأمر لحالة المجتمع الجامدة المتوجسة من الابداع والتجدد والتغيير والانفتاح والتخوف تالياً من طرح أو تداول الأفكار المغايرة الجريئة، ولذلك نرى في كل المجتمعات التي شهدت ولادات إنسانية ابداعية في الفن والأدب والفكر والثقافة كانت من صنع مبدعين خلاقين تمردوا على السائد من الثقافات والأفكار، وتجاوزوا المسلمات، وكسروا موروثات القوالب المعرفية الجامدة، وخرجوا عن هيمنة ثقافة العادات والتقاليد المجتمعية، ولم يكن ذلك الأمر بالنسبة لهم سهلاً على الاطلاق، لأن طبيعة أي مجتمع ينفر من الجديد ويحارب الأفكار الشاذة الخارجة عن المألوف، والتاريخ مليء بالمحاولات الاستلابية التي مارسها الجامدون والتقليديون والدينيون والماضويون في حق المبدعين والخارجين على عباءات الثقافات الدينية والثقافات الجامدة والسائدة والمتقوقعة والماضوية منذ غاليليو وما قبل غاليليو وإلى يومنا هذا..
ولكي تبقى جذوة الابداع ووميض التجليات مستعرة في داخل كل فرد، فإن ذلك يتخلق أساساً في مخاضات الإرادة الإنسانية الحرة، فلا وجود لإبداع حقيقي ومؤثر وباهر الفتنة والضوء من غير إرادة حرة متحررة من قيود الأطر القامعة للانطلاق والتغيير والتجديد، كالأفكار والثقافات والبيئات والتقاليد والمعرفيات والموروثات الدينية وغير الدينية المتسمة بالانغلاق والتعصب والجمود والماضوية واليقينية، والمتسمة أيضاً بقداسة الثقافات الصنمية السالبة نزعة الإنسان الفطرية للحرية والإبداع والتجلي الذاتي الخاص، ومن ثمَّ سالبة لحرية الفرد في إرادته الذاتية الاختيارية بقوة المفروضات الثقافية السائدة وبسطوة الفروضات الأخلاقية المتوراثة في العقل الجمعي، ولذلك كانت فلسفة الرواقيين الأغريقيين ترى أن جوهر الوجود الإنساني يرتكز على الإرادة الحرة المفعمة بفعل الرغبة في التفاعل الحقيقي مع حركة الحياة وكل ما فيها، الإرادة الحرة التي تكون بالضرورة عاكسة لهوية الفرد الإبداعية في مختلف المجالات، وتتجذر بالتالي بكثافة في برمجياتٍ تأخذ أشكالاً في التفرد والتميز الإبداعي لتجد طريقها في نهاية المطاف تتبلور في حركة متلاحقة من التصورات والرؤى والأفكار، ولذلك تصبح إرادة الإنسان الحرة معنية بشكل خاص في تأسيس الانطلاقات الإبداعية للفرد من خلال تشكلها في هوية محددة تستند بثبات على مكونات تجربته الشخصية وعلى تفاعلات حركته المعرفية وعلى ومضات ذهنه المتقدة، لتعي تماماً وبعمق أساس وجودها التفاعلي في الحياة، وليس بعيداً عنا قول الفيلسوف ( نيتشه ) في هذا الصدد ( حيث توجد حياة، توجد أيضاً إرادة )، بما يعني أن الحياة بأنماطها المختلفة ووفقاً لطبيعتها تتطلبُ وجود فعلٍ إنساني يتجسد في قوة الإرادة وحركتها الواعية، تستثير في العقل والوجدان والذاكرة، الأهداف والحقائق والمقترحات العقلية والجمالية والذوقية والفنية الحياتية بصورة عامة، وخارجاً، أي الفرد بإرادته الحرة إلى كل تلك المساحات الرحبة الفسيحة من هيمنة وسطوة واستبدادية موروثاته وثقافاته الدينية الماضوية، وثقافاته التاريخية والمجتمعية والبيئية التي تعيق وتكبل حريته وابداعه وانطلاقه وفنه وجماله الذاتي، لأنه لم يجد في كل ما سبق شيئاً يحقق من خلالها شروطه الحياتية واشتراطات ابداعه وتألقه وفنه وجمالية تصوراته وحركته الإبداعية وأفكاره الحرة، وداخلاً في الوقت نفسه لصناعة عالمه الإبداعي بتلك المساحات المتضمنة أهدافه وحقائقه ومقترحاته وشروطه، داخلاً بها بتفاعل مع إرادته وتجربته ووجوده ونظرته وفعله ووعيه وخياله وأخلاقه ومشاعره وقلبه ووجدانه وأحاسيسه، ولذلك أجد أن الإبداع الإنساني المتعدد والرحب المدفوع بفعل الإرادة الحرة المتحررة من الروابط المعيقة والمقيّدة والمكبلة لها هو جوهر وجود الإنسان في اجتراح تنويعات وتلوينات الحياة المختلفة، لأن الفرد من خلال تجلياته الإبداعية المفتوحة والمتعددة والحرة والقافزة إنما يحقق واحدة من أكثر اشتراطات الحضارة أهميةً وفاعليةً وهي أن يملكَ القدرة والتفوق والإبداع والتجلي على ابتكار المستويات الحضارية والتقدمية والحداثية من خلال معايشتها وتقبلها والتفاعل معها بفكر وعقلية وإرادة الإبداع والتأمل بشكل عام، فالتحضر والتقدم والرقي والحداثة في أكثر الأحيان تصبح عصية على الفرد وبعيدة منه ومستحيلة أوصعبة عليه إذا ما رفضها ورفضَ تقبلها، ورفضَ بأي شكل من الأشكال معايشتها أواجتراحها أوالتداخل فيها ومعها..
محمود كرم
كاتب كويتي
التعليقات