رجعت بذاكرتي إلى ما قبل اربع سنوات من الآن، وبالتحديد في شهر نيسان 2002 واستحضرت قول الصحافي البريطاني الراحل المتخصص بشؤون الشرق الأوسط وهو روبرت فيسك المعروف بصراحته وجرأته، في محاضرة ألقاها في الولايات المتحدة الأمريكية كرد على الرئيس بوش عندما كان يصرخ في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001 quot; الإرهابيون والمتطرفون ومن يساعدهم ويأويهم يكرهوننا ويحقدون على أمريكا وقيمهاquot; قال فيسك:quot; عليكم التساؤل عمٌن قام بتنفيذها ولكن لا تسألوا لماذا quot;. فهناك أسباب كثيرة لاتحصى تقف وراء الإجابة على مثل هذا التساؤل. أولها كذب القادة والزعماء الأمريكيين على شعوبهم ومواطنيهم وتزييفهم للحقائق. فذلك الحدث المأساوي يتطلب منَا أن ندرس ونتأمل بعمق وجدية ونقوم بمقاربة مختلفة وجديدة لكل ما حدث من مشاكل كانت ولا تزال قائمة قبل وقوع الكارثة. فحتى في الدول الحليفة لأمريكا كأوروبا هناك شعور بالسخط والمعادة لأمريكا وسياساتها الخارجية. بل أن استطلاعاً حديثاً للرأي في أوروبا
أظهر أن غالبية الأوروبيين يعتبرون أن الخطر الأكبر على البشرية يأتي من أمريكا وليس من أعدائها. إلى ذلك يوجد سوء فهم عميق بين أمريكا وباقي بلدان العالم لاسيما دول العالمين العربي والإسلامي. وكما قال الصحافي الأمريكي بيفرلي بيكهام في صحيفة بوسطن غلوب:quot; هناك شيء واضح وأكيد وهو أنهم يكرهوننا، أولئك الذين يأتون من ثقافة أخرى نجهلها أو لانعرفها ولانفهمها والتي لم نتأمل أو نفكر فيها بجدية أبداً حتى يوم الناس هذاquot;. ويشير روبرت فيسك إلى أهم الأسباب التي تقف خلف تردد وريبة وحذر العالم من أمريكا ألا وهو سياستها الخارجية وسياستها الاقتصادية وموقفها حيال باقي دول العالم وسلوكها غير المقبول إزاء منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن إذا ما خرجت هذه المنظمات ولو قليلاً عن طوعها وتوجيهاتها، إضافة إلى سيطرتها على مؤسسات دولية مهمة وحساسة ومؤثرة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وعلاقاتها المضطربة والمضببة والمريبة مع الدول النامية خلال السنوات الخمسين المنصرمة. لقد حولت أمريكا العالم الثالث إلى مختبر تجارب وحولت شعوب العالم الثالث إلى فئران اختبار لإجراء التجارب على الأسلحة الفتاكة حتى المحرمة دولياً فلقد بات معروفاً للقاصي والداني أن أن الولايات المتحة الأمريكية هي التي خلقت ونشرت فيروس الأيدز الفتاك الذي يفتك بالشعوب الأفريقية وامتد خطره حتى إلى أوروبا وأمريكا ذاتها. هناك 58% ممن أستجوبوا في الاستطلاع السالف الذكر يقولون أن توجهات أمريكا ومشاريعها الإستعمارية هي السبب الرئيسي في سخط وعضب وكره شعوب العالم لها. في حين يعتقد 18% من الأمريكيين أن سياسة بلدهم الخارجية ستجلب لهم الدمار ويعتبر 90% من الأمريكيين أن عظمة وقوة بلدهم وثروتها الهائلة وتقدمها التكنولوجي سبباً في حسد العالم لهم بينما يعتقد 95% من غير الأمريكيين أن الولايات المتحدة ألمريكية هي المسؤولة عن الهوة العميقة والفرق الشاسع في الثروات ومستويات المعيشة القائمة بين الغرب الغني والعالم الثالث الفقير وهي التي تفاقم من هذا التفاوت بين أثرياء وفقراء كوكب الأرض. ولابد من الإشارة إلى عامل آخر للتأثير الأمريكي في سلوكيات وثقافات دول العالم الأخرى من خلال هيمنتها وتلاعبها بوسائل الإعلام الحديثة المرئية والمسموعة والمكتوبة وبشكل خاص السينما الأمريكية الهوليويودية والمسلسلات التلفزيونية وشبكة الانترنيت وهيمنتها على منظومة الأقمار الصناعية التي تغلف كوكب الأرض وتعمل كلها تقريباً لصالحها. فعبر هذه الوسائل التكنولوجية الحديثة والمتطورة تحاول أمريكا فرض صورتها الوردية كقلعة للديموقراطية وحرية التعبير والانفتاح وتعمل في نفس الوقت كحاجب سميك أمام أنظار مواطنيها ومنعهم من رؤية العالم على حقيقته.
من هنا يمكننا القول اليوم أن المشكلة المركزية المتفاقمة بين أمريكا وبقية دول العالم هي مشكلة quot; معرفيةquot; أو ما اصطلح على تسميته بـ quot; الجهل المبرمج والمقصود بالآخرquot; حيث تشاع معرفة خاطئة وبعيدة عن واقع الحال وعن الناس وعن الأفكار الإيجابية وعن الحضارات والأديان الفاعلة والتاريخ الصحيح والتمسك بمسلمات خاطئة أومزيفة بالرغم من توفر وسائل التدقيق والتحري. وتنطبق هذه الحالة بالذات على الرؤية الغربية عموماً والأمريكية على نحو خاص للإسلام والمسلمين وهي رؤية مبنية على مسلمات وآراء ووجهات نظر وافكار مسبقة، سلبية في غالبيتها سطرتها أقلام خبراء ناقصي الخبرة وسمتشرقين معادين للإسلام والمسلمين وهذا الجهل المتعمد ليس سمة أمريكية خالصة بل هو سمة تتميز بها الحضارة الغربية عموماً وحكمها على الحضارات الأخرى الأقدم والأعرق منها تاريخياً.
لذلك من الضروري معالجة معضلة نقص المعرفة بالآخر أو الجهل المتعمد له الأمر الذي قاد إلى ردود أفعال هوجاء إثر أحداث سبتمر أيلول 2001 تجاه الإسلام والمسلمين وحث الأمريكيين على الإستماع للآخرين وما يقولونه عن أنفسهم وليس الاعتماد على ما تنقله وتصغيه وسائل الإعلام الغربية المغرضة والموجهة. فهناك تنوع وثراء داخل ثقافات دول وشعوب العالم الثالث والدول النامية أو في طور التقدم وهناك فروقات بين مستوى ونوعية تفكير شعوب تلك الدول وجالياتها التي تعيش في الغرب. والحضارات عموماً ليست جامدة بل متحركة وقابلة للتطور والتأقلم مع المستجدات والتطورات العلمية والتكنولوجية.
فمالذي ربحته أمريكا من اختلاقها لمصطلح أو مفهوم quot; محور الشرquot; غير تداخل وتشوش المفاهيم والمصطلحات والتماهي المتعمد بين الإسلام والإرهاب والعنف والتكفير وبين المسلمين والأرهابيين والتكفيريين والمتشددين تحت ذريعة أنه quot; لايمكن بناء عالم آمن بوجود الحقد quot; حيث يعتقد القادة الأمريكيون أن شعبهم أصبح أكثر الشعوب مقتاً لدى شعوب العالم وراحوا يرددون أن الإرهاب الإسلامي ليس شذوذاً في الدين بل واقعاً طبيعياً في سياق الثقافة الإسلاميةquot;.
التطبيق العملي لهذه السياسة الخرقاء تجلى في الملف العراقي عندما تجاهلت واشنطن الرأي العام العالمي واحتقرته واستبعدت المنطمة الدولية ومنعتها من لعب دورها الطبيعي في حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية واستبعدت العالم العربي ومنعته من الإسهام في إيجاد الحلول الملائمة التي تمنع وقوع الحرب وتحقيق الأهداف المرجوة المتمثلة في نزع أسلحة التدمير الشامل العراقي إذا ما تم إثبات وجودها واتضح فيما بعد زيف هذا الإدعاء ولم يتم العثور على تلك الأسلحة بعد غزو العراق. فنية مهاجمة العراق وغزوه كانت مبيتة منذ عقود وبالأخص بعد ثورة 14 تموز عام 1958 وحصول التقارب مع الخصم اللدود آنذاك للولايات المتحدة وهو الاتحاد السوفيتي وسطوع نجم الفكر التقدمي والنفوذ الشيوعي خاصة وأن العراق هو أحد أهم الدول المنتجة للنفط وصاحب أكبر احتياطي نفطي عالمي مثبت بعد المملكة العربية السعودية وربما يفوقها. وكان أول تدخل أمريكي مباشر في شؤون العراق هو إيصال حزب البعث ذو الأيديولوجية الفاشية إلى السلطة بانقلاب عسكري دموي سنة 1963 وباعتراف قادة الإنقلاب أنفسهم الذين صرحوا بأنهو وصلوا إلى السلطة بقطار أمريكي.
العراق المنكوب كتم على أنفاسه منذ مئات السنين وبالتحديد منذ مطلع العهد الأموي وبعده العباسي وبعده العثماني ومن ثم الاستعمار البريطاني واليوم الاستعمار الأمريكي، وتعاقب على حكمه جبابرة وطغاة متوحشين ومجرمين متعطشين للدماء على شاكلة آخرهم صدام حسين وعصابته، استخدموا كل وسائل العنف والبطش والقسوة والوحشية ضد أبناء الشعب الأبرياء المدنيين العزل وتحول شعب العراق إلى شعب مكبوت ومحبط وخائف على وجوده واستمراره. فالشعب برمته بات رهينة للعنف والإرهاب اليوم بعد سقوط النظام البعثي المقبور، فقطاع الطرق واللصوص والمجرمين المحترفين وعصابات النظام السابق وفلول التكفيريين المتسللين من الخارج يسومون الشعب العذاب ويفتكون به وبحياته اليومية، وفي مقابلها تجد الحكومات المتعاقبة على حكم العراق في مرحلة ما بعد صدام عاجزة حتى عن حماية نفسها لولا قوات الاحتلال الأجنبية بالرغم من شرعيتها وانتخاب الشعب لها بانتخابات ديموقراطية حصلت لأول مرة في تاريخ هذا البلد منذ سقوط النظام الملكي في منتصف خمسينات القرن الماضي. فمن لهذا المواطن المسكين ومن يحميه من هذه الوحوش الكاسرة والقوى الظلامية والميليشيات المسلحة التي تتحكم بمصيره وقوته اليومي واحتياجاته الأولية؟ غزت أمريكا العراق بحجة جلب الرفاهية والازدهار والحرية والديمقراطية ولكن بدلاً من ذلك جلبت له الدمار والرعب والقتل العشوائي وجلبت معها كل أشكال الجريمة والإرهاب الذي جاء ليقارعها على أرض العراق ويقدم شعب العراقي حطباً لهذه المواجهة المسلحة بين طرفين غريبين عن أرض الرافدين.
الولايات المتحدة الأمريكية الإمبراطورية الممقوتة تعي وتدرك جيداً أهمية العراق وإمكاناته الكامنة بشرياً وعلمياً واقتصادياً وكان لابد لها من تحييده وتفكيكه وعزله عن منظومته العربية وسلخه عن جسده الطبيعي وعمقه الاستراتيجي وإضعافه وإفقاره لإخراجه من المعادلة الشرق اوسطية الصعبة. فالعراق هو البلد العربي الوحيد الذي تجرأ على ضرب إسرائيل ولو كان ذلك بغباء أساء للعراق أكثر مما أضر بإسرائيل، لذلك كان لابد من تأديبه وجعله قدوة لمن يفكر بالإقدام على خطوة مماثلة ضد إسرائيل.
من بديهيات القول أن دخول أمريكا الحرب ضد العراق لم يكن فقط لضرورات أمنية واستراتيجية أمريكية بحتة بل لتأمين سلامة وأمن إسرائيل أولاً ومنع نشوء أية قوة مهددة لوجودها مستقبلاً. وبهذا السياق ذاته فإنه فيما يتعلق بتداخل المصالح الحيوية والاستراتيجية بين أمريكا وإسرائيل توجد حقائق مثيرة لا يعرفها أكثر القراء حيث يوجد مسؤولون كبار داخل إدارة بوش يتساءلون عن دور إسرائيل المباشر في توريط بلدهم في هذه الحرب العبثية بحجة مكافحة الإرهاب وإزالة أسلحة التدمير الشامل. فمكتب التحقيقات الفيدرالي أف بي آي أعلن في مذكرة سرية أنه يدرس إمكانيات تحرك حكومة أجنبية quot; ـ لم يتجرأ على تسمية إسرائيل ـ quot; وتلاعبها بالملفات الحساسة والقرائن وممارسة الضغوط بغية زيادة الدعم لتأمين تنفيذ الحملة العسكرية المعدة سلفاً ضد العراق وكانت حتى ذلك الوقت مؤجلة لأسباب لها صلة بالوضع الدولي. والكل يتذكر الدلائل quot; القاطعة والدامغة: والتي لاتقبل الدحض التي أعدتها ووعدت بها أمريكا مراراً وتكراراً لتجريم صدام حسين ونظامه وتبرير ضربها للعراق لاسيما تلك المتعلقة بأسلحة التدمير الشامل التي يمكن أن تكون جاهزة خلال 45 دقيقة كما ورد في تقرير بريطاني مزيف ولكن لسوء حظها لم تفلح واشنطن في الكشف عنها أو العثور عليها وكل ما قدمته أمريكا من quot; دلائل كان هزيلاً ومضحكاً بل مثيراً للسخرية وكانت إسرائيل أول من أشارت في وسائل إعلامها إلى تلك البراهين والقرائن الدامغة حسب تصريح أحد عملاء الموساد الإسرائيلي quot; أي المخابرات الإسرائيلية التي تتجسس على العالم بأسرهquot; والذي قال في حديثه أن هناك جهود إسرائيلية حثيثة وكبيرة بذلت لتضليل الإدارة الأمريكية وإقناعها بوجود تلك الأسلحة المحظورة دولياً بيد مغامر خطير مثل صدام حسين سعياً منها لدفع إدارة بوش لشن الحرب على العراق رغم ما تنطوي عليه من مخاطر ورغم ما يمكن أن يسبب ذلك لإسرائيل من إحراج لو تم الكشف عن زيف تلك المعلومات والتضليلات المتعمدة، والجدير بالذكر أن بعض الأدلة التي عرضها وزير خارجية أمريكا السابق كولن باول في الأمم المتحدة قد وصلته من إسرائيل في إطار التعاون العميق بين مخابرات البلدين وإن المعلومات الاستخباراتية التي تحصل عليها إسرائيل وتنقل على الفور أولاً بأول للجهات الأمريكية المعنية صاحبة القرار لترسيخ فكرة الخطر الداهم والفوري في أذهان أصحاب القرار الأمريكي. فمصلحة إسرائيل وصقورها من أمثال شارون ونيتانياهو كانت على رأس المعطيات والعناصر التي أختها أمريكا في الاعتبار في تعاملها مع الملف العراقي حيث أن تاريخ هذا الصراع وهذه الحرب الدموية قد سطٌر قبل سبعة أعوام على الأقل. وقد وقع ما تم التخطيط له بعناية ونفذ بحذافيره وكانت إسرائيل هي الوحيدة التي تعرف ساعة الصفر بعد بوش، وأطيح بصدام حسين غير المأسوف عليه وحوكم وأعدم بلا تردد. والآن مالعمل؟ ماذا سيفعل الأمريكيون بالعراق؟ بعبارة أخرى كيف ستستفيد إسرائيل من هذا التحول الاستراتيجي الشرق أوسطي وكيف ستستغل إسرائيل وصقورها في الليكود هذا الوضع الجديد في العراق؟
في سنة 1996 فكر الأشخاص الموجودون اليوم على رأس الهرم في السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية ويسيطرون على الإدارة ويبسطون نفوذهم في البنتاغون، فكروا بإلحاق العراق بالأردن أو ضمه إلى المملكة الأردنية الهاشمية لكن مجموعات التفكير والتحليل والاستشارة الاستراتيجية المعروفة باسم ستراتفور كشفت لديك شيني نائب الرئيس الأمريكي حالياً ووزير الدفاع في عهد بوش الأب بتاريخ أكتوبر 2002 عن مخاطر مثل هذه الخطوة وتداعيات مثل هذا السيناريو وحثته على التأني والتأمل في خيارات أخرى. وتمخضت عن خيارين يمسان مستقبل العراق: فإما إلحاقه بالأردن المجاورة وتنصيب الأمير حسن ملكاً على العراق أو وضع العراق مباشرة تحت إمرة التاج الهاشمي أو تفكيك العراق وتقسيمه إلى ثلاث كيانات أو دويلات صغيرة
الأول قد يكون كيان مستقل وضعيف يعتمد على معونات الخارج، والثاني يلحق بالأردن والثالث يلحق بالكويت وهذا الجزء الثالث يتعلق بالمناطق الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية. وهذه لم تكن أوهام أو خيالات مريضة بل مشاريع حقيقية مكتوبة ومدروسة ومحتملة تعرضت لنقاشات كثيرة بين الخبراء. من الصعب متابعة أو سبر أغوار المنطق الأمريكي إذا ما استبعدنا إسرائيل ذات المصلحة الأولى والمباشرة في رؤية العراق الكبير،الذي يمتلك إمكانات هائلة وثروات كبيرة، ضعيفاً وممزقاً وملحقاً بدولة صديقة ووديعة ومسالمة للدولة العبرية في المنطقة. وهنا يمكن أن نلمس أفضل تطبيق للقاعدة الاستعمارية الشهيرة quot; فرٌق تسدquot; واستغلال الاختلاف والانقسام الطائفي والسياسي في العراق بين القومية العربية والقومية الكردية، وبين الأغلبية الشيعية والأقلية السنية دون الاهتمام بالتركيبة الطائفية للدول التي أريد ربط العراق بها كالأردن السنية والكويت التي تضم أقلية شيعية وبالتالي لايمكن لمثل هذا الربط القسري أن ينجح بسهولة بل سيكون مصدر تصدع وتشظي محتمل لتلك الدول. بل وحتى فكرة استيراد المفاهيم الديموقراطية وتطبيقها في عراق مستقر تواجه صعوبات وتحديات يستحيل تخطيها.
المشكلة مع الولايات المتحدة الأمريكية تكمن في وعودها التي تقطعها على نفسها وتقوم بما يناقضها على أرض الواقع. فحرب الخليج الأمريكية الثانية ضد العراق أعدت مع حزمة من الوعود يأتي على رأسها وعد تحويل العراق من بلد ديكتاتوري إلى مجتمع ديمقراطي حر ومستقل ومزدهر. ولا ننسى أن أمريكا سبق لها أن وعدت خلال سنوات التسعينات بعد حرب الخليج الأمريكية الأولى التي شنتها على العراق بقيادة جورج بوش الأب بنشر الديمقرطية في الشرق الأوسط وتحقيق النظام العالمي الجديد الأكثر عدلاً وقد أعلن بوش الأب آنذاك أن بلدان الشرق الأوسط لاتمتلك مواصفات الدول المتحضرة التي تعمل بصورة طبيعية وإن المجتمعات العربية متأخرة ومتخلفة وتحتاج للمساعدة لإخراجها من سمات القرون الوسطى وإدخالها إلى العالم المعاصر.فمالذي حدث؟ لاشيء سوى سير الأمور من سيء إلى أسوء في كل مكان. وهاهي حرب أمريكا الثانية في الخليج التي شنها جورج بوش الإبن ومن المفترض منها أن تجلب للعراق الحرية والأمن والاستقرار والخير والرخاء وهي مرحب بها وفعالة وبناءة الخ من تلك الشعارات الفارغة التي بثتها وسائل الإعلام العالمية لتخدير الرأي العام العالمي وكسب تأييده. وسرعان ما تبخرت تلك الوعود والالتزامات وحولت العراق إلى سوق كبرى للصفقات والاختلاسات والسرقات والأعمال المشبوهة وبيع العراق في المزاد العلني والسعي لخصخصة ثرواته وبناه التحتية ومؤسساته الخدمية العامة وقطاعاته الإنتاجية وثرواته الطبيعية ووضعها بيد القطاع الخاص والمالكين الأجانب الذي يطلق عليهم المستثمرون العالميون الذين لايهمهم سوى منطق الربحية أو تحقيق الربح السريع حتى لو أدى ذلك إلى التحكم باحتياجات الشعب العراقي الضعيف كما يحلو لهم وفرض الأسعار وآليات البيع والشراء لمن يدفع أكثر وتعميق الهوة بين الفقراء والأغنياء وسحق الطبقة الوسطى ومن يعترض يقتل ويلقى بتبعية تصفيته جسدياً على عاتق الإرهابيين والميليشيات المسلحة. وقد ثبت بما لايقبل الشك أن وجود الاحتلال زاد من تفاقم الهجمة الإرهابية لأن منظمات كالقاعدة وجدت في العراق الحالي ووجود قوات الاحتلال فيه فرصة ذهبية لتصفية حساباتها مع أمريكا التي صنعتهم في الماضي القريب لمحاربة الشيوعية فانقلبوا عليها وصاروا يحاربوها لمصالح خاصة بهم، وتحويل العراق أرضاً وشعباً، إلى ساحة صراع مسلح وميدان للمعارك والتفجيرات وحرب العصابات وأخذ الشعب العراقي رهينة فهل تدرك القوى السياسية هذا الواقع وهل ستستمر بالتعاون مع أمريكا والوثوق بها بينما سحب أقرب حلفاؤها في أوروبا تلك الثقة غير المشروطة؟
د.جواد بشارة باريس
[email protected]
التعليقات