من يتصفح ويتفحص تاريخ شعوب العالم منذ الخليقة ولحد تاريخ اليوم، يجد الأنسان الذي هو العنصر الديناميكي لأستمرارية التدرج الحضاري المتطور قد سعى جاهداً لنيل ما هو الأصلح والأنفع للفرد والمجتمع الذي ينضوي تحت لوائه. ومن جراء جهوده ومحاولاته، ارتقى الى درجة الإبداع بما يشهد له التاريخ، حيث زخرت صفحات أمهات الكتب والرقم الطينية من الألواح الفخارية بما لا يحصى من الأساطير أي الميثولوجيا والملاحم والمعتقدات المدونة بلغات متفاوتة، تؤكد مدى ايمان وقناعة تلك الشعوب بمحتوى مضامينها الفلسفية والـتأملية، مجسدة الأفكار التي ترمز لمعايير المبادئ الثنائية المتضاربة كالخير والشر، النور والظلام، الجهل والمعرفة، الضعف والقوة ولكل ما يتصف به الإنسان ويميز مظاهر الطبيعة بمكوناتها المتفاوتة، ومن تلك الشعوب على سبيل المثال السومريون والآشوريون والبابليون والفراعنة والهنود واليونانيون والصينيون وغيرها من الشعوب الأفريقية والأوربية لحد عهد تاريخ النهضة الفكرية الحديثة، اضافة للعديد من الشعوب التي لا زالت ترزخ وتعيش تحت وطأة حياة البداوة وانعزال المجتمع عن تقنيات العصر الحديث.

ان ما نعمد اليه هنا هو تلك المأثرة التاريحية المستنبطة من الفضائل المتوارثة للشعب الآشوري منذ اكثر من ستة آلاف عام، والمتمثلة برأس السنة الآشورية الحالية 6756 في الأول من شهر نيسان، وعلى ضوء ما نصت عليه ملحمة الخليقة الموسومة quot; الينوما اليشquot; أي بما معناه quot; عندما في السماءquot; اضافة لملاحم ومدونات أخرى ترمز للمناسبة ذاتها ومنها المتعارف عليها بإسم quot; اكيتوquot; تيمناً بمذبح قرب بابل نـُقل اليه تمثال الإله مردوخ quot; الشمس الحديثة السنquot; في احتفال سنوي وعرف بمعبد quot;ايزاكيلquot; اي quot; ذو العتبة المرتفعة quot; من الطابق السفلي لمستوى الأرض، حيث جرت العادة بأن يحمل الكهنة الرموز الإلهية ويطوفون بها شوارع المدينة، ثم يعودون بها الى مكانها في هيكل المعبد لمباشرة المراسيم والطقوس لمناسبة السنة الآشورية الجديدة التي كانت تستغرق لاثني عشر يوماً متتالية، متضمناً كل يوم شعائر خاصة يشارك فيها عامة الشعب الى جانب ما يقوم به رئيس الكهنة والكهنة والملك من تلاوات وجولات وعرض تمثيلي وتقديم الأضحية.

ان فكرة انبثاق رأس السنة الآشورية تتحدد في ايجاد مقاس للزمن بإعتماد التنجيم والفلك والكواكب للمعرفة المستقبلية التي تتوارثها الأيام بديمومة الحياة البشرية. هذا ما جرى اثباته واستمرارية اعتماده على مدى طويل من القرون وحتى يومنا هذا، وكما هو الحال في حدث السنة الميلادية لدى المسيحيين في العالم أجمع، والسنة الهجرية لدى المسلمين وغيرها من الديانات أو الشعوب التي اختلقت واعتمدت لنفسها مثل هذه المناسبة.

ومتى ما تمعنا جوهر مراسيم أيام السنة الآشورية التي يحتفى بها سنوياً نلمس فلسفة خاصة، لها أبعادها المتمثلة في جملة أفكار تجسدها تلك المراسيم والشعائر الخاصة المستوحاة من النصوص والمعتقدات السائدة آنذاك، وربما لا تقل شأنا عما هو عليه اليوم رغم الفارق الزمني ورغم التطور الحضاري.
ولكي نكون اكثر مقربة من تلك المفاهيم نورد أدناه ما كان يستنبط منها متمثلة بما يلي:

1. تحديد الفترات الزمنية للأحداث.
2. جمالية وروعة بداية الخير والسلام على الأرض.
3. تجديد الطبيعة لظواهر حلتها بالزهو والخصب والعطاء.
4. أهمية ادارة دفة الحكم في حالة التشويش والإنفلات الأمني.
5. تفعيل ظاهرة الصدق في حياة الشعب.
6 دلالة تكاثر النسل بزواج الملك في اليوم المخصص للإحتفاء به.
7. مركزية العمل السياسي والديني دلالة الهيمنة.
8. ربط الأحداث بالحكمة الإلهية لتبدو واقعية.
9. انتصار عنصر الخير على قوى الشر.
10. ارتقاء الأساطير لتفسيرات غدت مؤثراً حضارياً.

ولا ننسى هنا بأن أغلب المضامين المشار اليها أعلاه، تبنتها العديد من الشعوب وبشكل خاص تلك المجاورة لسكنى مناطق الآشوريين، وتجاوز ذلك للدول الأوربية التي عدلت عنها فيما بعد، وبقاء البعض من آثارها في المناسبات الدينية المتفاوتة والظاهرة للعيان في دور العبادة وبشكل خاص تذكارات القديسين وعيد القيامة في شهر نيسان وغيرها من المناسبات والأحداث التي مناها الله بالخير والبركة.

بهذا لا يسعنا ونحن نستقبل العام الجديد من السنة الآشورية في خضم الأحداث المريرة والقاسية في الموطن الأم الذي ولدت فيه هذه المأثرة الفضلى، وحيث لا زال ابناء شعبنا يحتفي بها، نرفع أجمل آيات الحب والمودة وباقات من زهور التهاني اينما تواجدوا، وعلى أمل أن يحل الأمن والسلام في كل بقعة ويرفل الجميع بالخير والسعادة والطمأنينة على الدوام.

ميخائيل مـمّـو

السويد
[email protected]