تعالوا معي سادتي الأكارم نبتعد عن المشكل السياسي وسجاله الذي نعيشه نحن العراقيون، ليس من باب الهروب أو الملل ( وإن كان هذا واردا بعد ما يبسّوا ريقنا أخوتنا الساسة) بل من باب البحث عن أولويات ومسؤوليات أخرى ربما أخطر بكثير من معمعتنا السياسية، لنتحدث عن بناء الإنسان العراقي ( إنسان المستقبل) والذي عماده هو طفل اليوم الذي لم يُصب بعد بالتشوهات الذهنية التي نعاني من تداعياتها نحن (العقلاء) الآن.

فكل عام يمرعلينا يكون قد تخرج فيه من مدارسنا الإجتماعية الهدامة والفاشلة جيل جديد من الأطفال يحملون فيروسات الكراهية والأنانية والتعصب والعدوانية، وهؤلاء الأطفال بالتأكيد سيحملون في المستقبل معاول التهديم التي نتباهى نحن الآن بحملها، فالطفل الذي يتراوح عمره (الذهني) الآن بين الرابعة والسابعة لم يدرك بعد هويته ( العدوانية ) القومية والدينية والطائفية والعرقية.

وندعوا الله ليل نهار أن يكون أطفالنا بلداء وأغبياء في هذه الحصة التوجيهية التي يتفنن الكثير من الآباء في إلقائها، ولعن الله كل من عمل واعظا أو من يعطي أولاده دروسا أو فروض تقوية في هذه (المواد)، فهؤلاء الأبناء الأبرياء بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى الى رعاية وعناية وتحصين وإبعاد وعزل وتوجيه تربوي.

لقد أشيع أن اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وأنهيار دولتها التي إشتهرت بسماتها العدوانية ومجتمعها الذي كان يتمسك بتقاليد وموروثات عقائدية عدوانية متطرفة، قد سخرت جل إمكاناتها في وضع سلسلة من البحوث والدراسات التربوية قيد التنفيذ لخلق أجيال جديدة (نظيفة) ومحصنة وخالية من تلك التشوهات الفكرية التي تحمّل من جريرتها الشعب الياباني من المآسي ما يتحمله الآن شعبنا في العراق، ولم يجدوا بدا من توجيه كل الجهود نحو الأطفال دون سن العاشرة، وإنطلقوا بنفس وصبر طويلين وجهد جبار وحثيث لخلق (شعب جديد)!، إنتاج شعب جديد.

يقول الشاعر والروائي الفرنسي فكتور هيجو ( قليل منا يخرجون من الأزمات الهائلة وفي رؤوسهم متسع لظمائرهم، فمتى إزداد الألم تداعت الفضيلة! ) وأحسب منطقيا إننا من هذه الفصيلة التي دخلت في هذه الأزمات الهائلة وتداعت لديها الفضيلة ــ وربما لن نخرج منها في المستقبل المنظورــ والتي نهلنا منها ـ أي من الأزمات ـ حد التخمة ما يكفي من الألم والحيف والحرمان والظلم والإضطهاد والتفرقة والبغضاء والأنانية والكراهية وكل صنوف العسف والحقد الأنساني الأسود، بمعنى آخر أن نصيب الذين في رؤوسهم متسع لظمائرهم بيننا الآن بحسب ما نراه قليل ٌ قليل!، وعليه تداعت الفضيلة!!.

فإذن، لنترك معاركنا وفتوحاتنا (العظيمة) جانبا، ولنذهب للبحث عن كيفية خلق براعم جديدة حتى تزهر مستقبلا (شعبا طيب الأعراق)، وطيّب الله ثرى الآباء المؤسسين الأوائل الذين وضعوا لنا مناهج ومفاهيم دراسية رعت الطفل العراقي الذي كان خياله يدفعه في حصة الفنون لرسم نهر وزورق وحمائم، قبل أن يطحنه (الآباء) اللاحقون بمناهجهم الدراسية الفاشية ليرسم صور المعارك (القومية)، جثث بشرية تنزف دماء ورشاشات وطائرات حربية تقصف من الأعالي!، إضافة الى الإطلاقات النارية التي كانت تطلق في ساحات المدارس مع رفعة العلم، إضافة الى حصص التدريب القومي وفرق الأشبال القتالية، والتي كانت بمجموعها نسخ تام للتجربة النازية في ألمانيا الهتلرية.

فالطفل العراقي الذي كان مداده الملون مليء بصور الفراشات والعصافير، صارت مبراته على شكل دبابة ومدفع.

أحد أصدقائي تاجر للعب الأطفال، دعاني لزيارة متجره ذات يوم ففوجئت بالكم الهائل من اللعب (التسليحية) مسدسات بنادق دبابات قاذفات وربما بعض من أسلحة التدمير الشامل!، سألته لماذا كل صفقات السلاح هذه؟ قال: إن رب الأسرة قبل الأبناء يسألون عن هذه اللعب ليهدوها لأطفالهم، وأنا تاجر ملزم بتلبية (حاجات) السوق!!.

يجب ألا يكون هناك من مبرر مهما عتمت صورة المشهد العراقي لأن نترك أطفالنا تمشي على ألغام مرحلتنا الشائكة حتى لا نجني مستقبلا أبناء معوقي الذهن والظمير أكثر مما يعانوه البالغين اليوم من عوق وبلاء أخلاقي منحرف. فكلنا مدعوون سادتي الأكارم، الحكومة: من خلال فرض رقابة مشددة على ما يستورد من مستلزمات ووسائل لعب ولهو وألعاب فيديو للأطفال.
ومؤسسات المجتمع المدني ذات العلاقة: من خلال برامج توعية أسرية.
وأولياء الأمور: من خلال تحملهم لمسؤولياتهم الأخلاقية للبدء بحملة تطهير تربوي وفكري واخلاقي لنبذ ثقافة العنف والكراهية حتى ندع خيال أطفالنا يسبح من جديد في رحاب البراءة ورؤية الجانب الجميل من الحياة، حتى نزرع المحبة في وجدانهم، محبة الوطن كل الوطن، محبة الآخرين كل الآخرين في وطنهم العراق على إختلاف أجناسهم وأعراقهم ودياناتهم ومذاهبهم.

عبد الجبارالبياتي