العرب ظاهرة صوتية قالها من قالها ومضى، ومن يومها وأنا أرى تجسيداتها المكثّفة لاسيما في زمن الفضائيات القادرة على نقل ما تشاء بالبثّ الحي والمباشر. كأننا نعيش من صوت إلى صوت. من صوت فيه بحّة إلى صوت ليس فيه معنى إلى صوت متهدج. أمة تاريخها أصوات. تأتيها فتثور أو تأتيها فتهدأ. تطالعها فتطمئن أو تطالعها فتغلي كالمرجل. والزمان موزّع بين الأصوات. فنقول قبل الخطاب وبعد الخطاب. قبل هذا الصوت وبعد ذاك الصوت. بين الخطابين حدث كذا وكذا. أو لم يتطوّر الموقف إلا بعد الخطاب الثالث للسيّد أو للزعيم. أمة تعيش من خطاب إلى خطاب. تموت بينهما وتحيى بهما!

كلما شاهدت خطيبا أيا يكن، ومهما يكن الخطاب، وكلّما شاهدت الألوف المؤلّفة من المتلقّين يميلون كالسنابل أو يهتفون كالتنابل أدرك أن الظاهرة الصوتية فينا متمكّنة منا قابضة على كياننا المختزل في الصوت. صوت السجان أو السلطان يرهبنا طورا أو يحيينا. يُسكتنا أو يجعلنا أمّة هتافين. يقول المتحدّث كلاما فنُعيد أو يتفنّن في الكلام فنهزّ الرؤوس متخذين هيئة الفاهمين. أو نصفّق أو ننتشي. لسنا بصدد التقليل من قيمة فن الخطابة ولا بصدد الطعن في سحر الكلام، لكننا بصدد الإشارة إلى حقيقة إننا أسرى الكلام الذي يقال من على المنابر في إطار نسق quot;الشيخ والمريدونquot; أو quot;الفقيه والمتلقونquot; أو quot;الحدّاء والردّادونquot;. نسق متأصّل، في طرف منه فاعل وفي الطرف المقابل مفعول به/بهم. أو في طرف منه مالك للحقيقة وفي الطرف المقابل جهلة معدمون. في طرف منه الآمر وفي الطرف الآخر المؤتمرون، في جهة منه، القول الفصل وفي الجهة المقابلة ممتثلون. هكذا نبدو كلما انحشرت الفضائيات لنقل المهرجانات السجالية التي تُعقد لمناسبة ولغير مناسبة. فيكفي أن يمنح البرنامج متسعا للحديث الحرّ لأي كان فإذ بالحديث الحرّ يصير خطبة عصماء أين منها الحجاج أو صلاح الدين أو ناصر؟

أعطانا علم النفس الاجتماعي مفاتيح لفهم الظاهرة، لكنه لم يفكّ اللغز بالكامل. جعلنا نقارن بين الجماهير العربية الجاثمة عند أقدام الشيخ أو الفقيه تهم تقبيلها، وبين الجماهير غير العربية في كوبا أو نيويورك أو كراكاس أو ربوع موسكو أو ألمانيا. ومع هذا لا تزال الظاهرة في الحال العربية عصية علينا. سيكلوجيا الجماهير وفق لوبان تفرز ظواهر محسوبة مرصودة إبان الأزمات أو لدى الشحن الموجب والسالب. ومع هذا يُدهشنا هذا التكهرب العربي حيال الأصوات الوافدة عليه طيلة أيام ألأسبوع. وقد مكننا لبنان الأزمة الراهنة من التمعّن في المشهد في محاولة لمقاربة ما لم ندركه من قبل!

ربما إن الخطيب على منبره يوازي صورة متخيّلة لله في عقول العرب. وهذا يكفي كي يتكهربوا. أو ربما أنهم اقتنعوا ببدعة quot;النصر الإلهيquot; وشعوذات الصلة بين أحرف الأسماء فخرّوا عند كلام السيّد نصرالله وتماهوا معه واستبطنوه ودارت دوراتهم الدموية على إيقاعه علما بأن خطابه الأخير في الجامعة الأمريكية حمل أكثر من إشارة فتنة وانقلاب وعنف وبأسلوب ديماغوغي لا يزال كُثر في لبنان وغيره يتلقفه آيات بيّنات! والسؤال حيال الخُطبة النارية المذكورة الموشّاة بتذاكِ هو ليس ما قاله الأمين العام أو ما صفق له الهتافون بل ما لم يقله السيّد. وهو جملة حقائق ثابتة لا مجال إلى سترها لا بعمامة ولا بعباءة. ومنها: أولا ـ أنه حصلت في لبنان جرائم اغتيال كان آخرها الوزير بيير الجميّل وفي بدايتها رئيس حكومة لبنان الشهيد رفيق الحريري إضافة إلى محاولات اغتيال آخرين. لهؤلاء قبورهم ولأولئك أسماء ووجوه، وللناس ذاكرة ومساءلة واتهامات وشكوك. فهل يُمكنه الهروب إلى أمام مرة أخرى؟ إلى quot;مقاومةquot; من الصنف المتقادم، أو إلى الهروب من استحقاقات الدولة والنظام وسلطة القانون وسيادته؟ فهو يواصل هذا الخروج التحريضي ضد الدولة ومؤسساتها بدعوى أنها ضعيفة أو غير قادرة بينما هو هو السبب الأساس في هذا الضعف وفي قصور المؤسسات سيما أن القبضة السورية لا تزال جاهزة إما على عنق لبنان تضغط متى تشاء أو من خلال أعوانها في لبنان وأدواتها وأولهم الرئيس الممدد له إكراها! هذا ناهيك lsquo;ن سقوط حوالي 1300 لبناني ولبنانية في حرب قذرة إسرائيلية ورعناء من جانب حزب الله ناهيك عن مئات المصابين الآخرين في أرواحهم وأجسادهم ثمنا لتحري مفترض لأسرى لبنانيين! ثانيا ـ قبل الآخرون وتحديدا في قوى 14 آذار استراتيجيا خيار الدولة والمؤسسات تدريجيا منذ قبول الطائف الأمر الذي جسّدوه بالتخلّي عن منظومات الميليشيا وبتسليم الأسلحة والاحتكام لاتفاق الطائف والدستور وغيرها من مقتضيات التوافق اللبناني. هذا، فيما يصرّ السيد وحزبه على المضيّ قدما في تقويض المفهوم الأساسي للدولة عبر الإصرار على مفهوم الميليشيا التي خلافا لسابقاتها ـ التي لم تبلغ يوما حد التطابق التام مع نظام إقليمي وارتهان للخارج على نحو مطلق وعنيف كهذا ـ أنشأت دولتها الفئوية المرتهنة لمشاريع خارج الوطن على حساب الدولة/ الوطن. الأمر الذي لا يعني سوى إبقاء الوطن ساحة مبارزة لقولا إقليمية وقودها حيوات اللبنانيين وممتلكاتهم ومستقبلهم وأحلامهم. ثالثا ـ أن أجندة السيد وحزبه ليست لبنانية ـ مَن يذكر مثلا أنه حرب تموز بدأت بمحاولة غير محسوبة لتحرير أسرى لبنانيين من خلال خطف جنود إسرائيليين ؟ ـ وإنما تعزيز قبضة سوريا في لبنان واللعب لصالح المشروع الإيراني الذي يريد استكمال مشروعه النووي بالإبقاء على توازن رعب ما رهينته إسرائيل من فوق رؤوس اللبنانيين أو جثثهم. وعليه، ليس صدفة أن يتم تدجيج الحزب بالسلاح وبناء ترسانته واستحكاماته التحت ـ أرضية على نحو يفوق جبهة الجولان أضعاف أضعاف! رابعا ـ قلب الحزب وأعوانه في لبنان وأكثر من ذلك مديرو مفاتيحه وميزانياته في الخارج مفهومي السلطة والمعارضة في لبنان تماما. فما يُسمّى quot;معارضةquot; تضليلا هو تلك القوى وفي أساسها حزب الله التي تقبض على مفتاح الحرب والسلم ويُمكنها أن تزجّ بالبلاد في حرب جديدة محدودة أو إقليمية، بل أمكنها بما طالته أيديها من سيولة مالية وموارد إيرانية أن تقوّض الحالة الأمنية تماما بغطاء سوري أو بدونه لتخريب مشروع الدولة المعقولة. وهنا أمكنه ـ حزب الله ـ أن يضع كل الحكومة ورموزها وكل لبنان رهينة ـ فعلية ومعنوية ـ رحمته وحلفائه دون أي اعتبار للشركاء في الوطن أو للوطن نفسه أو لحيوات الناس ومصالحهم وممتلكاتهم. هذا بينما تتأصّل في الواقع حقيقة أن الحكومة هي هي قوى المعارضة لمشروع سوريا بالنسبة للقطر اللبناني وللمشروع الإيراني الذي جعل من لبنان وأهله رهائن بامتياز. quot;معارضةquot; رأس حربتها حزب الله تشكّل سقفا فوق دولة وquot;أكثرية حكوميةquot; تواجه هيمنة سورية ـ إيرانية ويندرج كل رموزها في عداد لائحة المرشحين للاغتيال القادم. هذه هي حقيقة الوضع في لبنان لا يُمكن مهما بلغت فنون الخطابة من شأن أن تحجبه لفترة أطول. وهذا في إطار مسعى مكشوف لحزب الله الحيلولة دون كشف الحقيقة في لبنان، أي اليد التي عاثت اغتيالات وعنف. مرّة أخرى ألفينا أنفسنا أمام خطاب آخر وإنشاءات تستهدف إخفاء أدلّة وقرائن ومجرمين. إنه المشهد المتوقّع ضمن ثقافة الموت الإلهي والأساطير الجديدة!

مرزوق الحلبي

دالية الكرمل
[email protected]