تابعت كمهتم بالشأن المصري، خطاب النصر للرئيس الفرنسي المنتخب، ساركوزي، مساء الأحد السادس من مايو 2007، فرغم الإعتراض على بعض تعليقاته الماضية، إلا إن من العدل أن نشيد بحسنات كل فرد، و من تلك الحسنات، فقرة في خطاب الفوز شدتني، و جعلتني أفتح جهاز الكومبيوتر لدي لأقرأ تلك الفقرة بتمعن، تلك الفقرة التي وجهها ساركوزي لشعوب البحر المتوسط، و التي توجه فيها لمخاطبة شعوب حوض أعرق بحار العالم، مباشرة، دون أن يلجأ لجسر الحكام، كما هو معهود من رؤساء فرنسا السابقين، حيث أطلق ما يشبه البشرى أو الدعوة، حين قال بأن كل أشكال الكراهية يجب التغلب عليها، من أجل تمهيد السبيل لأجل حلم السلام الكبير، و حلم الحضارة العظيم.


ثم أكمل قائلاً: أريد أن أقول لهم - و يعني شعوب البحر المتوسط خارج أوروبا - أن الوقت قد حان لنبني معاً إتحاد المتوسط، الذي سيشكل حلقة وصل بين أوروبا و أفريقيا، و أن ما تم من أجل إتحاد أوروبا منذ ستين عاماً، سوف نقوم به من أجل إتحاد المتوسط.
إنتهى.


حلم كبير و عظيم، أليس كذلك؟ هذا ما دفعني لألا أكتفي بسماع تلك الفقرة، بل بقراءتها، و التمعن فيها، و التعليق عليها بهذا المقال.


فمن يستطيع أن ينكر أن حلم تقوض الكراهية، و العنصرية، و الفقر، و قيود التنقل للأفراد، و البضائع، و في بعض الأحوال رؤوس الأموال، بين دول البحر المتوسط - الذي لم يكن يوماً عائقاً، بل كان طريق عام مفتوح يصل، و يربط، بين الشعوب القاطنة على ضفافة، فتنتقلت عبره المعتقدات، و الأفكار، و الإبتكارات، و البضائع، و الأموال، مع تنقل الأفراد بحرية - هو حلم عظيم.


و لكن كما لكل حلم خطوات، من الضروري أن يأخذها، ليهبط من عقول المفكرين لأرض الواقع، ليصبح حقيقة ملموسة معاشة، فكذلك حلم أن يربط بين شعوب المتوسط إتحاد، يشبه الإتحاد الأوروبي الحالي، يحتفظ فيه كل كيان بكينونته، فيكون لكل كيان فيه سلطته، و يحتفظ فيه كل فرد بهويته الدينية و الثقافية، و تكون فيه جميع الرؤوس متساوية، و لكن دون أن تكون تلك الكينونة الخاصة عائقاً في سبيل الإتصال المؤدي للرفاهية، و الحرية، لشعوب الإتحاد، أي يعود البحر المتوسط لأداء وظيفته التي أناطها له أسلاف الشعوب المتوسطية القاطنة على ضفافه اليوم، وظيفة أن يكون طريق إتصال مؤدي للرفاهية و التقدم، فهناك أيضاً خطوات يجب أن تُتًبع من أجل تحقيق هذا الحلم، فلا يبقى الحلم مجرد خيال جميل.
تلك الخطوات أراها إنها ستكون شبيهة بتلك الخطوات التي إتبعتها دول جنوب و شرق أوروبا، التي إنضمت للإتحاد الأوروبي منذ النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين و إلى الأول من يناير 2007، حين إنضمت المجموعة الأخيرة، رومانيا و بلغاريا، و هو نفس الخطوات التي على كل دولة أوروبية راغبة في الإنضمام أن تنفذها.


من تلك الخطوات الواجب تنفيذها:
أولاً الحرية و العدالة: بكل مشتملاتهما، و معانيهما، و على كافة المستويات، فلا مكان في عالم الحداثة و الرفاهية لحريات منقوصة، و عدالة غائبة، و لهذا سيكون على أي دولة راغبة في الإنضمام أن تراجع دستورها، و كافة قوانينها وقرارتها الجمهورية و الوزارية و المحلية، لتتوائم مع متطلبات دولة الحرية و العدالة الحقيقية، فلا مكان في إتحاد المتوسط لدولة تحكم بنفس الأساليب التي تُحكم بها كافة الدول المتوسطية المتحدثة بالعربية، حيث التحريض على العنف و الكراهية علني، و العدالة غائبة، و القضاء مسيس، و القوانين الجائرة دستورية، و الحريات مفقودة، و التمييز بسبب الجنس، و المعتقد، و اللهجة، و الوضع الإقتصادي ndash; الإجتماعي، و اللون، و محل الإقامة، و غير ذلك، على أشده، و أبواب المعتقلات مشرعة لإستقبال أنصار الحرية، و العدالة و التقدم، بينما المحرضين على العنف، و أنصار الكراهية، طلقاء، يتلقون الدعم السري الرسمي، لأنهم يخدمون السلطة الفاسدة، بتثبيت كراسيها.
ثانيا الديمقراطية الحقيقية: فلا وجود لرئيس يؤبد في السلطة، كما أبد حكام المتوسط المتحدثين بالعربية، على كراسي الحكم، و لا مجال بالتالي لأن تراود أي حاكم أفكار التوريث القسري، بعيدا عن الإرادة الشعبية الحقيقية، و لا أحد فوق المسائلة و الحساب، مع حرية تكوين الأحزاب، و المنظمات غير الحكومية، الربحية منها، و غير الربحية، و حرية إصدار الصحف، مادامت لا تحض على عنف أو كراهية، و وضع مجرد تنظيمات عادلة، مأخوذة عن التنظيمات الدولية، لإنشاء محطات الإذاعات المرئية و المسموعة.


ثالثا إقتصاد حر: تكون النظافة و الشفافية من صفاته، تتكافىء فيه الفرص، بكل معاني تلك الكلمات، فيختفي الإقطاع الحديث، كالذي نراه اليوم في مصر، و كل الدول المتوسطية المتحدثة في أغلبها بالعربية، حيث الثراء، و الفرص الأوفر، هي لمحاسيب السلطة، ولا فرص للمجتهدين و المبتكرين، فالضرائب الخرافية، الجزافية التقدير، تقصم ظهر أي مستثمر أمين جاد، صغير أم كبير، تلك الضرائب التي يعفى منها محاسيب السلطة، و يدفعها عنهم أصحاب الأعمال الأمناء، بالإضافة لما يدفعونه عن أعمالهم، فضلاً لما يتعرض له كل صاحب عمل من إبتزاز أعضاء هيئة الشرطة، والمحليات، من صحة، و تأمينات، و حي، و خلافه.


رابعاً رفع المستوى المعيشي للمواطنين: فلا أمية، و لا بطالة متفشية، و لا مكان لدولة دخول مواطنيها لا تكفي لأن يعيشوا حياة كريمة، و لا تهاون مع خدمات عامة متردية، بالغة السوء، و مناطق كاملة محرومة من أي خدمات، و لا تهاون مع سلع غير مطابقة للموصفات الدولية، كما يحدث في مصر اليوم. فمع قدوم الشراكة الأوروبية المصرية، سمح الإتحاد الأوروبي بدخول السلع المصرية الغذائية المصنعة، كمنتجات اللحوم المصنعة، و لكن للأسف لم تستفيد الصناعة المصرية من تلك الفرصة، إستفادة تذكر، لأن معظم الإنتاج المصري لا يطابق المواصفات الأوروبية، كالنسبة الضئيلة من اللحوم الحقيقية في اللحوم المصنعة، و التي تقل عن النسب المقررة في الإتحاد الأوروبي، و وجود بعض المواد الكميائية الخطيرة، و الموجودة بنسب أعلى من المسموح بها في أوروبا، و وجود مواد تدل على بدأ في عملية التحلل في بعض العينات، و وجود بكتريا ضارة بالصحة في بعض تلك المنتجات، و للأسف فقد كان بعض أنواع تلك البكتريا من النوع الذي يرفض المنتج بأكملة لو وجد بكتريا واحدة فقط، لخطورة تلك البكتريا، و دلالتها على وجود تلوث في عملية التصنيع. و كلامي هذا ليس للتشهير، بل لحماية الشعب المصري، و نقد المنتجين، لعل الضمير النائم لبعضهم يستيقظ، فلم يعد في مصر الأن رقيب فعلي سوى الضمير الشخصي لكل فرد، بعد أن تحللت سلطة الدولة، التي ماتت في عصر مبارك الأب و الإبن.
هذه بعض الإشتراطات، و ليس كل الإشتراطات، التي أعتقد إنها ستكون مطلوبة من أي دولة ترغب في أن تنضم لإتحاد المتوسط، لو كان ساركوزي جاد فيما دعا إليه.


بالتأكيد و مع قراءة تلك الإشتراطات، لا شك أن بعض القراء قد تسرب الأمل من عقولهم، في إمكانية الإستفادة من تلك الدعوة، لتكوين إتحاد متوسطي، شبيهة بالإتحاد الأوروبي، فالأوضاع الحالية بعيدة كل البعد عن الحالة التي يجب أن تكون عليها مصر لتستطيع أن تتقدم بطلب عضوية لمثل هذا الإتحاد.
و لكن هل تعلم عزيزي المواطن، إننا كنا في حال - يشبه بعض الشيء - تلك الدولة المثالية، التي يجب أن تكون عليها مصر لتستطيع أن تنضم لإتحاد المتوسط، لو أخذت تلك الفكرة طريقها لعالم الواقع.
لقد كنا منذ أكثر قليلاً من نصف قرن، دولة ديمقراطية، يتربع على السلطة ملك لا يحكم، أقصى ما يستطيعه هو أن يحل البرلمان ليدعو لإنتخابات تشريعية جديدة، هذا أقصاه.


و لم يحتكر رئيس وزراء، أو حزب السلطة، فقد كانت السلطة متداولة، لدرجة سمحت لزعيم المعارضة آنذاك، أن يشكل الوزارة خمس مرات، و كانت الإقتصاد المصري قوي معافى، فكان الجنية المصري أقوى من الدولار و الإسترليني، و كان مستوى التعليم يخرج أكفاء قادرين على أن يجتازوا بيسر إمتحانات الزمالة البريطانية، و كان الشعب بكل طبقاته، يستمع لأشعار فطاحل شعراء الفصحى و هي تنطلق من حناجر المطربين الحقيقيين، فيطرب لها.


و كان لسلطة القانون هيبة في النفوس، جاءت من عدالة القضاء و نزاهته، و نظافة كف الشرطة، و عدم تحيزها، لإنها كانت حقاً في خدمة الشعب، و ليس السلطة و محاسيبها.
و كان المثقفون و الأثرياء، يدركون أن عليهم واجب نحو مجتمعهم، فكان هناك من ينزل لقريته ليساهم بنفسه في محو أمية أبناء قريته، كما كان يفعل عبد العزيز فهمي، الذي كان يترأس محكمة النقض، أعلى محكمة مصرية، و منهم من كان يتبرع بإنشاء المستشفيات و المدارس، كمستشفى الدمرداش و مستشفى لملوم.


كان باب التقدم مفتوح للجميع، فلا طبقات مغلقة، فمن أين أتى سعد زغلول، و النحاس، و النقراشي، و محمد محمود، رئيس وزراء مصر الأسبق، الذي كان دائم الترديد أنا فلاح ابن فلاح؟؟؟ و من أين نبت طه حسين، و العقاد، و أم كلثوم، و عبد الوهاب؟؟؟ أليس فرغلي ملك القطن، و عبود رجل الأعمال الثري، و أبو رجيلة، مصريين، أبناء ريف مصري و صعيدها، و بعضهم مثال للعصامية؟؟؟ مثلما كان الأخوان علي و مصطفى أمين و التابعي في الصحافة؟؟؟ لقد كان العهد الماضي عهد سيطر عليه العصاميين في كل مجال، لقد كانت العصامية عنوان للعهد، بما يعني أن تكافىء الفرص كان حقيقة و ليس شعار أو سراب كما هو اليوم.


منذ ما يزيد عن نصف قرن بقليل، كان صوت التطرف، و الكراهية، و الدعوة للعنف، خافت لا يلقي له أحد بالاً، و كان الشعب يدرك بأن اللحاق بالعالم، لا يكون بالرجوع للماضي، بل بالنظر للمستقبل، دون أن يكون في ذلك تخلي عن المعتقدات و التقاليد، و كانت الوطنية ليست بالتدمير بل بالبناء، و كان الشعب المصري يدرك بأن الجميع سواسية، لهذا وصل رؤساء وزراء، و وزراء، و رؤساء جامعات، و حزبيين لامعين، غير مسلمين، لمناصبهم اللامعة في الوزارة، أو في الجامعات المصرية، أو في أحزابهم، عن جدارة، و دون أن يكون في ذلك إثارة لحفيظة أحد، فمعيار الكفاءة كان هو المحك.


لقد كانت مصر أفضل من دول كثيرة في جنوب أوروبا، و يكفي أن نتذكر حقيقة معروفة، و لكن منسية، لا يلتفت لدلالتها أحد، و هي الكم الهائل من الأجانب في مصر في ذلك العصر، من الجريج، أي اليونانيين، و الأرمن، و الطليان، و الفرنسيين، و الرومان، و البلغار، و الروس، و النمساويين، و الألمان، و يهود أوروبا، و الملطيين، و القبارصة اليونانيين، و الأتراك، و نتذكر أن الكثير من أصحاب تلك الجنسيات الأوروبية، كانوا أشخاص متوسطين و بسطاء يعملون في مهن متوسطة و بسيطة، فكان الكثير من اليونانيين أصحاب محلات لتجارة القطاعي و بخاصة البقالة، و الأرمن كان الكثير منهم حرفيين، فقد إشتهر الأرمن بأعمال الخياطة، و التطريز، و صناعة الأحذية، و الأعمال الميكانيكية، و غير ذلك من الحرف، كذلك كان بعض الأرمن موظفين في الهيئات الحكومية و الشركات الخاصة، و بعضهم أصحاب محال تجارية بسيطة، و اليهود الأوروبيين الذين كان بعضهم يعمل في تجارة الأقمشة في الحمزاوي بحي الأزهر، و سكن أغلبهم في حارة اليهود أو في أحياء الطبقة المتوسطة المصرية في السكاكيني، و العباسية، و الظاهر، و عمل بعض الأجانب الوافدين من جنوب أوروبا في الأعمال المتعلقة بالفنون، كالغناء الترفيهي و الأوبرالي، و الرقص، و العزف الموسيقي، سواء الترفيهي أو الكلاسيكي، و يحضرني مثال، هو والد الفنانة الراحلة داليدا، الإيطالي، الذي كان عازفاً في دار الأوبرا المصرية، و كان يقيم بشبرا.


هذه الحقائق تدل على أن أولئك الأجانب، و رغم عمل أغلبيتهم الساحقة، في أعمال عادية، متوسطة و بسيطة، بمفهوم الماضي و اليوم، كانت مصر لهم أفضل من بلدانهم التي منها نزحوا، سواء في فرص العمل، حتى لو كان معظمه متوسط أو متواضع، أو في مستوى المعيشة، حتى إتخذها بعضهم وطناً لايفكرون في سواه، أي أن مصر في ذلك العهد، و منذ نصف قرن فقط، كانت أفضل من الكثير من دول جنوب أوروبا، و البلقان، و القوقاز، أي أفضل من الكثير من دول شمال المتوسط، التي أصبح الذهاب إليها، حلم للكثير من المصريين اليوم، يركبون من أجل تحقيقه المخاطر الجسام.


إذا كان الحال كذلك، منذ نصف قرن، فهل سوف نعجز اليوم عن أن نستعيد مصر التي كانت، هل سنعجز على أن نستعيد دولة الديمقراطية، و الحرية، و العدالة، و سيادة القانون، و شفافية الإقتصاد، دولة التسامح، و النظر للمستقبل، دولة التعليم الجيد، و الخدمات المحترمة؟
لقد صنعنا تلك الدولة من قبل، فهل سوف نعجز عن ذلك اليوم؟؟؟؟؟
فسواء كان إتحاد المتوسط كلام في الهواء، و مجرد هراء إنتخابي، أو كان حلم حقيقي يراود البعض على ضفاف المتوسط، و يريدونله أن يتحقق، فإن إستعادة مصر التي كانت، ثم إستكمال البناء، لنلحق بالأخرين، الذين كانوا خلفنا، هو أمر نحتاج إليه على كل حال، فمن هو المصري الوطني المخلص، الذي يقبل الأوضاع الحالية الرهيبة في سوءها؟؟؟


من هو المصري الوطني الحر، الذي يقبل بدولة الفساد، و القهر، و المحسوبية، و التوريث، الحالية؟؟؟
إن ما ينقصنا لإستعادة مصر، فقط هو الإرادة، إرادة تغيير الواقع الرديء المعاش حالياً، فلو توافرت الإرادة فقل لمبارك، و آله، ومحاسيبه، إلى اللقاء في ساحة المحكمة، لأن حلم إستعادة مصر التي كانت، و القفز بها إلى أفاق المستقبل الوضاء، لن يتحقق أبداً في ظل النظام الحاكم الحالي، بشقيه.
الطريق للمستقبل الأفضل يمر عبر الشارع المصري.


أحمد حسنين الحسنية
حزب كل مصر
10-05-2007